عبد الله بن خميس.. رحالة كتب التاريخ أدبيا

كان يقرأ ويدون تحت ظل طلحة تقيه لواهب الصيف أو على ظهور الإبل

عبد الله بن خميس
عبد الله بن خميس
TT

عبد الله بن خميس.. رحالة كتب التاريخ أدبيا

عبد الله بن خميس
عبد الله بن خميس

يحتار النقاد والمتلقون وهم يطلعون على سيرة ونتاج الشيخ الراحل عبد الله بن خميس أن يمنحوه صفة واحدة تعكس أعماله بعد أن عاش تسعة عقود قضاها في العمل الإداري والبحث العلمي ليصبح أحد رواد الإعلام والأدب والتاريخ والصحافة في بلاده، إلا أن المادة العلمية المكتوبة التي تركها وأنجز الكثير منها وأثرى بها المكتبة السعودية تعطي الحق لكل متابع لأعمال الراحل أن يصفه بـ«موسوعة الجزيرة العربية»، حيث أثرى بها المكتبة السعودية والعربية من خلال تسعة مؤلفات تضمها 20 مجلدا تقع في عشرة آلاف صفحة في مجال التاريخ والجغرافيا، وثلاثة دواوين شعرية تحتوي على أكثر من 150 قصيدة، بالإضافة إلى إرث فريد في الموروث الشعبي حيث الأدب والتراث والجغرافيا والتاريخ والشعر من خلال مؤلفات في هذا الاتجاه، أبرزها: «الأدب الشعبي في جزيرة العرب»، و«راشد الخلاوي» ترجمة رائعة لهذا الشاعر الشعبي، وكتابيه «أهازيج الحرب» (أو «شعر العرضة»)، و«رموز من الشعر الشعبي تعود لأصلها الفصيح»، وفي التجربة الإعلامية أسس الراحل صحيفة «الجزيرة» ورأس تحريرها لأربع سنوات، وبرنامجه الإذاعي «مَن القائل؟»، بالإضافة إلى مئات المقالات والقصائد والمحاضرات والندوات في شتى مجالات الثقافة والمعرفة والسياسة والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا وقضايا المجتمع ومقومات التنمية.
كان الراحل، حسب إشارة ابنه المهندس عبد العزيز، يقرأ أو يكتب أو يدون تحت ظل شجرة أو طلحة تقيه لواهب الصيف، أو في ذرى خيمة أو كهف أو صخرة تحميه غضب مزمجرات الشتاء.. أو أن تلقاه في كلتا الحالتين مجالسا لأعرابي يستقي منه معلومات المكان والزمان. لقد بدأ رحلة البناء والعطاء والمعرفة من فوق ظهور المطي، وأينما سالت بأعناقها الأباطح، ولاحقا على ظهور السيارات والطرق الوعرة والمسافة الطويلة المرهقة، بل ومن فوق متون الطائرات، واختصر أدباء ومثقفون ومفكرون الحديث عن حجم ومكانة الراحل ببضع كلمات تعطي انطباعا صادقا لمآثره ومعاناته وعصاميته في البحث والتأليف، حيث وصفه الدكتور عبد العزيز خوجة وزير الثقافة والإعلام بـ«مكتبة في رجل»، وقال عنه الأديب الراحل عبد الله نور: «إنه شاسع كالصحراء، عميق كليلها، متلألئ كنجومها»، وقال عنه الدكتور حمد المانع إنه «رحالة دوّن التاريخ بمداد الأدب».
وسجل الراحل عبد الله بن خميس حضورا في بلاده كأديب وشاعر وناقد وباحث ورمز ثقافي ورائد من رواد الصحافة في الجزيرة العربية، محققا سلسلة من النجاحات في المهام التي أوكلت إليه وتسنم إدارتها، تاركا سفرا خالدا من المؤلفات والمعاجم تجاوزت الـ24، بالإضافة إلى مئات الأبحاث المختلفة التي غطت جوانب مختلفة في مجالات الأدب والثقافة والجغرافيا والتاريخ والشعر وكتابات جريئة تناولت قضايا النفط والمياه في بلاده، وعددا من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتعددة، مما يجب معه أن يطلق عليه لقب «موسوعة الجزيرة» وقائد الحملات الصحافية الجريئة وغارس بذور اليقظة الاجتماعية والوطنية في السعودية.
ترك ابن خميس، الذي غادر والده مع جده الدرعية إلى ضرما (40 كيلومترا غرب الرياض) بعد تخريبها عام 1818م ليعود إلى بلدته الأصل بعدما عادت الأمور إلى مجاريها، بصمات تدين له وتعترف بفضله وجهوده في خدمة جغرافية وتاريخ وصحافة بلاده.
وقد تأثر الراحل بمجلة «الرسالة» وبأسلوب صاحبها أحمد حسن الزيات، حيث يذكر محمود رداوي في كتابه عن ابن خميس وآثاره الأدبية أن صلته بالزيات «صلة قديمة.. صلة قراءة، صلة لقاء وصداقة أدب، لا صداقة أرب»، وكانت مجلته «الرسالة» هي المفضلة والصديق له من بين سائر المجلات، ولقد كان الزيات أستاذه الأول والأخير في تكوين قلمه.
ونوه محمود رداوي بدور ابن خميس في الحركة الصحافية السعودية وبدور مجلته الشهرية في ازدهار العمل الصحافي أولا. وفي خدمة قضايا المجتمع، والإرهاصات التي كان يستشرف بها المستقبل الأفضل، وقال عنه إنه يعي جيدا أهمية الصحافة في نهضة الشعوب، وفي غرس بذور اليقظة الاجتماعية والوطنية، وكونها وجها من وجوه الفكر المعاصر ولونا من ألوان الثقافة، وأنها أصبحت علما من العلوم، كما هي فن من الفنون. وأضاف في كتابه: «إن من يدرس تاريخ الصحافة في المملكة لا يمكن أن يتجاهل دور مجلة (الجزيرة) وصاحبها في فترة من الفترات الحرجة والحاسمة في تاريخ المملكة».
ثم يصف محمود رداوي كيف تعامل ابن خميس الأديب مع قضايا السياسة من منظور صحافي فيقول: «على أن تحليله السياسي يظل مصبوغا بألوان أدبية بلاغية، فهو يحيل النص السياسي إلى نص أدبي والرؤية السياسية تستحيل إلى رؤية نقدية.. لذلك كانت كتابات ابن خميس الصحافية تخرج عن نطاقها الرسمي والآني الصحافي لتحلق في أجواء سامية وأبعاد متألقة للفن الأدبي والنثر الرفيع».
وإذا ما تصفح الباحث في «فواتح الجزيرة»، والمقالات الصحافية التي كانت يحررها في مجلته، يجد أن ابن خميس قد تبنى قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية متعددة ومهمة وفي مقدمتها شؤون فلسطين، كما أفسح المجال واسعا للقلم النسائي بالتوقيع الصريح ولمناقشة قضايا المرأة، وقاد حملات صحافية جريئة، من بينها شؤون العمل والحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية للمجتمع بأسلوب ينبض بالصدق والحماسة والوطنية والأصالة والتراث. ولقد قال ذات مرة إنه كتب في مواضيع المياه ما قد يصل حجمه إلى كتاب، ويظل كتاب «فواتح الجزيرة»، على الرغم من مرور عقدين على جمعه وإصداره، يتجدد ويزداد قيمة ووزنا، وإن كان لا يتضمن كل المقالات التي كتبها في مجلته بسبب جرأتها.
ترك الراحل ابن خميس قائمة بـ24 عنوانا لكتب ألفها، وهي: «الأدب الشعبي في جزيرة العرب»، «الشوارد» (ثلاثة أجزاء)، «المجاز بين اليمامة والحجاز»، «شهر في دمشق»، «على ربى اليمامة» (ديوان شعر)، «الديوان الثاني» (ديون شعر)، «راشد الخلاوي»، «بلادنا والزيت»، «من أحاديث السمر»، «معجم اليمامة» (جزآن)، «من جهاد قلم» (في النقد)»، «من جهاد قلم (محاضرات وبحوث)»، «من جهاد قلم (فواتح الجزيرة)»، «الدرعية»، «أهازيج الحرب أو (شعر العرضة)»، «معجم أودية الجزيرة» (جزآن)، «مَن القائل؟» (أربعة أجزاء)، «تاريخ اليمامة» (سبعة أجزاء)، «معجم جبال الجزيرة» (خمسة أجزاء)، «رموز من الشعر الشعبي تنبع من أصلها الفصيح»، «جولة في غرب أميركا»، «رمال الجزيرة (الربع الخالي)»، «تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات» (تخريج وتقديم)، «أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل» (إعداد).



انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

* أكاديمي وناقد من العراق.