قناة السويس الجديدة في الإعلام.. المياه تكذب الغطاس

إجراءات لمواجهة مروجي الشائعات وسط مخاوف على حرية النشر

الرئيس عبد الفتاح السيسي في جولة له مع ضيوفه داخل المجرى الملاحي الجديد لقناة السويس (الرئاسة المصرية)
الرئيس عبد الفتاح السيسي في جولة له مع ضيوفه داخل المجرى الملاحي الجديد لقناة السويس (الرئاسة المصرية)
TT

قناة السويس الجديدة في الإعلام.. المياه تكذب الغطاس

الرئيس عبد الفتاح السيسي في جولة له مع ضيوفه داخل المجرى الملاحي الجديد لقناة السويس (الرئاسة المصرية)
الرئيس عبد الفتاح السيسي في جولة له مع ضيوفه داخل المجرى الملاحي الجديد لقناة السويس (الرئاسة المصرية)

يدقق المعد التلفزيوني المصري، خالد حسنين، في الأخبار التي تتدفق من الإنترنت قبل التعامل معها للتأكد من مصداقيتها. وبالنسبة لكثير من الإعلاميين والمعدين الآخرين أصبحت مسألة التحري عن الأحداث تزداد صعوبة في بلد غارق في «الشائعات الإلكترونية»، وهو يحارب عدة تنظيمات متطرفة في عموم البلاد، خاصة في شبه جزيرة سيناء.
أبرز وآخر مثال على معضلة الشائعات تلك التي تخص قناة السويس الجديدة، كانت مع ظهور تقارير، يستند معظمها إلى مصادر مجهولة، تقلل من جدوى مشروع المجرى الملاحي. ويقف خلفها عادة خصوم النظام المصري. وما بين وسائل الإعلام التي تتحدث عن مزايا المشروع القومي الكبير، والأخرى التي تصفه بـ«الطشت (حوض غسل الملابس)» أو «الترعة (مجرى نهري صغير)»، انتظر الرأي العام ليرى بنفسه الحقيقة على أرض الواقع، ولسان حاله يقول إن المياه تكذّب الغطاس.
وبينما كان الرئيس عبد الفتاح السيسي يلقي كلمة الافتتاح للمشروع الذي تكلف نحو ثمانية مليارات دولار، مرت من خلفه، في المجرى الملاحي، سفن عملاقة في أول عبور لها في قناة السويس الجديدة. كانت لحظة فارقة أظهرت إلى حد كبير مشكلة ترديد الشائعات التي انجرفت فيها كثير من الصحف والمواقع الإخبارية ليس بشأن قناة السويس الجديدة فقط، ولكن في قضية أخرى لا تقل خطورة وهي قضية الإرهاب. وبدأت السلطات في اتخاذ إجراءات لمواجهة مروجي الشائعات وسط مخاوف على حرية الصحافة.
يقول حسنين الذي يُعدُ برامج حوارية وسياسية في قناة للتلفزيون الرسمي، وهي «قناة النيل للأخبار»، إن أصول الإعلام معروفة، وهي تحري الدقة.. «خاصة في الأخبار التي تتعلق بالأمن القومي والقوات المسلحة، ويمكن أن تؤثر على استقرار المؤسسة العسكرية». وهو لا ينسى الحدث الذي أربك ملايين المصريين والعرب وحتى الأجانب، وذلك حين سارعت وسائل الإعلام في تصوير وقائع بدا منها أن الإرهابيين استولوا على سيناء قبل نحو شهر من الآن.
فجأة، ومع ساعات الصباح الأولى، امتلأت صفحات الوكالات والمواقع الإخبارية، المفترض أنها رصينة، بأنباء عن قتل «داعش» سبعين من أفراد الجيش المصري، واحتلال التنظيم المتطرف لمدينة الشيخ زويد في شبه جزيرة سيناء. ومع نهاية النهار ثبت لدى غالبية المتابعين أن هذه المعلومات لم تكن صحيحة، وسط حالة من الذهول والتعجب.
وتسعى الحكومة لاتخاذ إجراءات تحد من تدفق «الأخبار المضروبة» التي يصفها البعض بأنها أصبحت مثل «شبح يطارد وسائل الإعلام المصرية»، فحتى مشروع قناة السويس، الذي أطلقه السيسي في أغسطس (آب) 2014 وافتتحه قبل أيام، لم يسلم من التشكيك فيه، رغم وقوف ألوف العمال تحت الحر والشمس لشق قناة بطول عشرات الكيلومترات، من أجل تيسير حركة الملاحة في القناة والتأسيس لمشروعات كبرى في هذه المنطقة.
ومن بين الإجراءات الحكومية المزمعة تغليظ العقوبة على مروجي الشائعات التي تضر بالأمن القومي. إلا أن أوساطا إعلامية وسياسية أخذت تعرب عن مخاوفها على حرية الصحافة وحرية التعبير. لكن البعض يرى أن الجدية في العمل الإعلامي والتزام معايير المهنة، كفيلة بحل المشكلة بين السلطة التنفيذية والصحافة، وأن الرغبة في تحقيق السبق الصحافي لا ينبغي لها أن تضرب القواعد المتعارف عليها في العمل الإعلامي، كما يقول حسنين.
ويضيف أنه من المعتاد التعامل مع الأخبار التي تتعلق بنجوم الرياضة والفن والسياسة، وغيرها من الأخبار الأخرى، ومن المحتم، بطبيعة الحال، تحقيق سبق صحافي، لكن في القضايا التي تتعلق بالأمن القومي لا بد من الحرص قبل النشر. والمشكلة التي يعاني منها الإعلامي حسنين، مثل كثير من الإعلاميين الآخرين، تتعلق بتيار الشائعات والأخبار المنقوصة التي تبثها مواقع لا أول لها ولا آخر على الإنترنت.
ونقلت قنوات التلفزيون صورا من كاميرات محمولة على الطائرات وأخرى متحركة فوق مراكب وثالثة مثبتة على الأرض، مشاهد من زوايا مختلفة للمشروع أثناء افتتاحه بمشاركة المئات من ممثلي حكومات ووسائل إعلام من دول العالم. ومنذ الصباح الباكر كان من يراقب يضع يده على قلبه لكسب الرهان. وكما خسر أصحاب مواقع الشائعات المصداقية بسبب «الأخبار المضروبة» عن «داعش سيناء»، تكبدوا خسارة جديدة حين شاهد ملايين المصريين السفن العملاقة وهي تضرب المياه على جانبي القناة الجديدة. أو كما قال أحد الصحافيين مازحًا: هذه سفن ضخمة.. هذا ليس طشت. إنه مشروع كبير.
وحظي افتتاح القناة بتغطية إعلامية عربية ودولية واسعة. واستمرت وقائع بث الحفل على القنوات المحلية أكثر من خمس عشرة ساعة في يوم واحد. يقول سعيد عبد الله المعد في إحدى القنوات التلفزيونية الخاصة، إن عملية بث وقائع افتتاح مشروع قناة السويس، يوم الخميس الماضي، ومشاهدة السفن وهي تعبر في المجرى الجديد، كان بمثابة رد عملي على كل من شكك في المشروع.. «في كل لحظة كنت أشاهد فيها وقائع الافتتاح، ونحن في الاستوديو، أتذكر حملة التشويه التي كان يروجها البعض ومنها قول أحد الدعاة الهاربين ومن المعادين للحكومة في تسجيل جرى نشره على «يوتيوب» وقنوات موالية لجماعة الإخوان المسلمين تبث من خارج البلاد، إن القناة مجرد «طشت» أو «ترعة».
تجول الرئيس السيسي في المجرى الملاحي، وتأمين السلطات للضيوف، كان ردا عمليا آخر على أن مصر ليست كما يصورها البعض. وسبق للرئيس القيام بخطوة مماثلة عقب أحداث الشيخ زويد بعدة أيام. فقد توجه بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، لتفقد مسرح الأحداث. وفي مثل هذه الزيارات الخطرة يبقى وزير الدفاع، وهو الفريق أول صدقي صبحي، في مكان آخر لمتابعة تأمين زيارة الرئيس، تحسبا لوقوع أي طارئ، كما يقول مصدر أمني.
لكن ظهرت في نفس وسائل الإعلام تقارير تزعم وجود خلافات بين الرجلين، اعتمادا على «تكهنات». ويضيف أن عدة مواقع إعلامية على الإنترنت تعاملت، للأسف، مع هذه الشائعة باعتبارها حقيقة، مشيرًا إلى أن الصفحات والمواقع المحسوبة على المتطرفين روجت لهذا النبأ الوهمي. كما انتقل سريعا لصفحات المواقع الصحافية الكبيرة.
يقول أحد الإعلاميين ممن بثوا هذا الحدث كخبر إنه اضطر للإشارة إلى الموضوع على موقع صحيفته الإلكتروني، بعد أن انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي. وقام بنسبته إلى حسابات على «تويتر» و«فيسبوك». ويضيف أنه حاول الحصول على تعليق من الجهات الرسمية، لكن لم يتلق أي رد. وفي نهاية المطاف، وبحثا عن السبق الصحافي، كتب «تردد على مواقع التواصل كذا وكذا». وجرى حذف الخبر بعد أن تدخل رئيس التحرير. لم يكن من المناسب التعامل مع «كلام» و«تكهنات» لمجهولين في الفضاء الإلكتروني، في قضية تشكك في استقرار سلطة الحكم في دولة تخوض حربا على الإرهاب وتحاول أن تثبت للعالم أن كل شيء على ما يرام. ويضيف أن الحدث الخاص بالشيخ زويد وما كان فيه من ملابسات خطيرة، جعله يتعامل بحرص مع المصادر الإخبارية التي تقلل من أهمية مشروع في حجم المجرى الملاحي الجديد.
يقول مسؤول أمني يشرف في القاهرة على جهاز لمراقبة الإنترنت، إن المصادر الأساسية لكل ما جرى بثه من شائعات تقلل من أهمية مشروع قناة السويس الذي وضع فيه المصريون أكثر من ستين مليار جنيه من مدخراتهم، وعن حوادث الشيخ زويد الإرهابية في ذلك اليوم، كانت مصادر غير موجودة لا في القاهرة ولا في قناة السويس ولا في الشيخ زويد ولا في سيناء.
ويضيف: «مثلا، وفيما يتعلق بسيناء، وببساطة، كانت اتصالات الهواتف والإنترنت مقطوعة هناك بشكل كامل طيلة النهار. كنا نرى مواقع لوكالات وصحفًا كبرى تبث عن مصادر في المدينة وتقول إنه جرى الاتصال بها عبر الهاتف. كان هذا مثيرا للسخرية بالنسبة لنا. حتى الاتصال بالهواتف المربوطة بالأقمار الصناعية ليس متاحا بذلك الشكل الواسع في سيناء».
ولم تتوقف الشائعات لكن وقعها أصبح أقل من السابق. مثلا.. نشرت إحدى صفحات التواصل على «فيسبوك» أن «داعش يهدد باحتلال الساحل الشمالي خلال أسابيع». ومعروف أن هذه المنطقة الواقعة شمال غربي القاهرة على البحر المتوسط تعد مصيفا لملايين المصريين. وانتشر الخبر «الشائعة» في الصحف الكبرى سريعا وفي محطات تلفزيون أيضا. لكن الرد العملي جاء من الساحل الشمالي نفسه حين امتلأ بالمصطافين عقب عيد الفطر حتى وصل متوسط تأجير شقة مصيفية لليلة واحدة إلى نحو 500 دولار.
لكن مقاومة الشائعات ليست بالأمر الهين كما يقول خالد عبد البر المشرف على موقع إخباري متخصص في الشؤون النيابية. ففي بلدان يصعب فيها التواصل مع المسؤولين على مدار الساعة وتعاني من حالة تشبه التربص في مسألة تدفق المعلومات، يعتمد كثير من المراسلين والمحررين والمعدين على ما تحت أيديهم من بيانات غير مكتملة التفاصيل، أو على «أخبار تبثها صفحات وحسابات مجهولة وغامضة»، كما يقول.
ومن جانبه، يوضح المعد حسنين: «لو قلت إن الإرهابيين استطاعوا الاستيلاء على ثكنة عسكرية، فهذا يمكن أن يؤدي إلى انخفاض الروح المعنوية للجنود الآخرين، فما بالك إذا كان الموضوع برمته لم يكن صحيحا. أو لم يكن على ذلك النحو المبالغ فيه. يوجد نوعان من الأخبار، كما يرى حسنين.. الأخبار التي يمكن أن يكون فيها مساحة من التكهنات، مثل تغطية الانتخابات البرلمانية والرئاسية وترجيحات من يمكن أن يفوز فيها، من خلال تقارير من المندوبين، حتى قبل أن يصدر بيان رسمي بنتيجة هذه الانتخابات.. وهناك نوع آخر يتعلق بالأمن القومي وهذا لا مجال فيه للتكهنات أو التأويل».
الرئيس السيسي، وخلال مشاركته في حفل حضره عدد من أسر شهداء الجيش والشرطة وقطاع من الشباب ومن أطياف المجتمع أيضا، تحدث عن مساع وإجراءات من أجل «تحصين الدولة والحفاظ على كيانها ومؤسساتها، والحيلولة دون نجاح المخططات التي تستهدف تثبيط عزيمة المواطنين وزعزعة أمن واستقرار البلاد». كما دعا الرئيس وسائل الإعلام إلى «الالتزام بالموضوعية وتحري الدقة في نقل ونشر المعلومات، حفاظًا على الروح المعنوية لأبناء الشعب ورجال القوات المسلحة والشرطة في مواجهة حروب الجيل الرابع التي تستغل وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة في شن حرب نفسية تستهدف تحطيم معنويات الشعوب وبث الإحباط في نفوس مواطنيها».
العقبة التي تواجه خطط ملاحقة الشائعات التي تنطلق من الإنترنت، تكمن في وجود إمكانية لإخفاء هوية المستخدم الإلكتروني، وبالتالي لا يخشى من العقاب أو من احتمال الوصول إليه إلا عبر إجراءات طويلة ومعقدة. كما أنه في كثير من الأحيان يكون موجودا في دولة أخرى. والأمر لا يتعلق بمصر فقط، كما يقول مسؤول أمني في القاهرة، ولكن هناك الكثير من الحكومات الأخرى، من الصين إلى أوروبا، تشكو من ظاهرة «الأخبار المكذوبة»، وبدأت كثير من الدول في البحث عن إجراءات لمواجهة هذه المشكلة، مشيرا إلى أن الحكومة المصرية تعتزم اعتماد سياسة تواجه بها «هذه الحرب الإعلامية».
وفي المقابل اعترض إعلاميون ونشطاء على مثل هذه التدابير الحكومية المزمعة. ويبدو أن العشرات من الأحزاب والمنظمات الحقوقية والشخصيات العامة رأت أنه يمكن الوصول لحل وسط، خاصة فيما يتعلق بالشائعات التي تهدد الأمن القومي وتشجع المتطرفين، فقامت بإصدار بيان يحمل عنوانا مزدوجا لإرضاء الطرفين، وهو «ضد الإرهاب.. وضد تقييد الحريات». وقع على البيان سبعة أحزاب و23 منظمة حقوقية و26 شخصية عامة.
لا يوجد تعمد لعرقلة العمل الإعلامي من جانب الحكومة كما يزعم البعض وسط الجدل الدائر هنا. الموضوع، في النهاية، يتعلق بمدى الالتزام بالمعايير المهنية. يقول حسنين: «مسألة تحري الحقيقة لا يقف ضدها أحد، لكن لا بد من مراعاة تحقيق المصالح العليا للدولة، خاصة ونحن في معركة مع الإرهاب». ويضيف أن «التواصل مع المصادر الرئيسية للخبر يؤدي إلى أمرين.. أولا تقوية الخبر نفسه بنسبته إلى مصادره، وثانيا الحصول على تفاصيل إضافية تخدم القارئ».



إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.