حمزة الفيلالي لـ«الشرق الأوسط»: نصوّر البؤس ليصدّقه الناس

«مشهد خير» في رمضان: درس من الحياة

الفيلالي يطرق المنازل ليعين أصحابها
الفيلالي يطرق المنازل ليعين أصحابها
TT

حمزة الفيلالي لـ«الشرق الأوسط»: نصوّر البؤس ليصدّقه الناس

الفيلالي يطرق المنازل ليعين أصحابها
الفيلالي يطرق المنازل ليعين أصحابها

فجٌّ واقع الجدران المتداعية والزوايا الرطبة. وتلك المنازل المُفرغة من احتمالات الحياة، لولا السقف الذي يؤوي. يشكو سكانها لمقدّم البرامج المغربي حمزة الفيلالي اشتهاء اللحوم والفاكهة، وبأنهم استبدلوا كهرباء المولّد بالشموع. برنامج «مشهد خير» (تلفزيون «المشهد») في مساحات البؤس اللبناني، يطل يومياً خلال رمضان لمدّ اليد لمَن لم يبق لهم أحد.
أول ما يخطر على البال أمام تصوير قسوة الفقر، سؤال نوجّهه للمقدّم: هل يحق لنا أخلاقياً «تعرية» المنازل؟ هل يجوز «فضح» المستور وإخراج المستتر إلى العلن؟ ما نراه مخيف. بشرٌ لا شيء يدلّ على أنهم أحياء سوى الأنفاس المتبقية. أيامهم تمرّ بانتظار حال يرجون أن تتغيّر.
يردّ أنّ تصوير المآسي بصراحتها الفجّة هو صرخة إنسانية: «نصوّر لتصل الرسالة. يجب فعل ذلك ليدرك الآخرون ماذا يجري. أنا مغربي مقيم في دبي لا أعرف أنّ الوجع يبلغ درجة مشابهة. نصوّر البيت بفجاعته، بشرط عدم المسّ بالكرامات».
خيطٌ رفيع بين فعل الخير وإذلال المحتاج بافتراس الكاميرات ملامحه المكسورة وترقُّب انهمار دموعه. المسألة شائكة. رسالة برنامج الفيلالي «منح الأمل»، «لذا نطرق الأبواب ونسأل أصحابها الوقوف إلى جانبهم». يقول إنّ الفريق يستأذن للتصوير وقلما يلاقي غير هذا الجواب: «صوِّروا كيف نعيش، لربما يلتفت إلينا أحد». مَن يرفض المجاهرة بخبايا البيوت، يلاقي إذعاناً لمشيئته.
له رجاء أقرب إلى تأكيد، عن كون الخير سيمتد إلى ما بعد رمضان، رداً على تذكُّر البرامج المحتاجين فقط في المناسبات: «البؤساء يتطلبون منا التفاتة لا تقتصر على شهر. العالم بأسره يجب أن يرأف ويساعد، والقناة تدرس احتمال استمرار البرنامج أطول مدّة». ينادي السيدة إلى جانبه «أمي» ويقبّل رأسها كابن يمتلئ بالرحمة. تُطلعه على مرارتها، فيمنحها مظروفاً يحتوي المبلغ المُساعِد. تشكره وتدعو بدوام العطاء.
يُخبر «الشرق الأوسط» بأنّ المبالغ «أمانة من المحطة ويجدر منحها لمَن يحتاج إلى سند». بحثُ فريق العمل عن حالات لا يكون منطلقه الديانة أو الجنسية، «بل الإنسان بلا اعتبار آخر». وإن نوَّعت الحلقات بين لبنانيين على الهوامش ولاجئين، فذلك لأنّ الغلاء يعمّ، والفقر والذل والظلام.

الفيلالي يعاين البؤس ويصوّر مآسي المحتاجين

صنف هذه البرامج مؤثّر، يعدّل شيئاً في الطباع. في الفندق، حيث يستريح الفيلالي، يحضُر طعام فرَّ من موائد عائلات. يتدخّل الوجع في ولادة الذنب، فيشاء الامتناع عن تناوله لكون كثيرين ممن يعاين آلامهم محرومين من النِعم: «هذا ليس برنامجاً. إنه درس في الحياة».
أي دروس يتلقاها المرء من ممارسات المهنة؟ لا يمكن التغاضي عن عذابات البشر المتروكين. ووصل الأمر بالفيلالي لوضع نفسه أمام معادلة غير متكافئة: «كيف أسمح بالتهام ما يطيب، وفئات من حولي تسدّ الجوع بوجبة؟». هنا دوره: «على الخير أن يعمّ وهذه رسالة الإعلام والفن. أي واجب مهني نقدّم حين نراكم العجز حيال نجدة الإنسان؟».
الدرس الأكبر، هو الحياة الفانية في ذاتها: «العُمر قصير، والمرء لا يُنزل أشياءه معه إلى مرقده الأبدي. التضامن يعين البشر على التحمّل». نسأله عن حلقة تركت تأثيراً مختلفاً عن سواها، فيردّ: «كل الحلقات لها مكانها المؤثر في داخلي، لكن بدا مرعباً لي أنّ بعض المنازل خالية من الأسرة. سكانها يفترشون الأرض. كلما أصوّر حالة، أدّعي أنّ التأثير يبلغ ذروته، لأكتشف، حالة تلو حالة، بأنه لا محدود».
سيدة تروي حكاية الدواء الباهظ، وأخرى الإيجار المرتفع فجأة وبالدولار. يستوقف حمزة الفيلالي الإجماع على حمد الله رغم الأسى: «هالني أنّ الوضع مزرٍ، ومع ذلك، الجميع يمتنّ. كلمة (الحمد لله) لا تفارق الألسنة».
الجانب الخيري في البرنامج أحلى ما فيه. يحاول مقدّمه نسيان الكاميرا ودخول المنازل بعفوية، كأنه فرد من عائلة أتى بعد غياب لينتشل وينقذ. ذلك الخير على شكل لفتة، قبل أن يكون على هيئة مبلغ. وحسنٌ أننا لا ندري بقيمة العطاء ولا الموجود بداخل المظروف، من باب عدم استصغار المحتاج مهما يعلو حجم المساعدة. فالسيدة المتلوّعة من ارتفاع أسعار اللحوم والناقمة على إيجار يهدّ الحيل، يُطيّب ضيفها خاطرها ويُسديها ما يقول إنه سيدفع المتعذّر عليها دفعه ويأتي باللحم إلى الموائد. ضحايا الظروف يستحقون برامج طوال السنة. على جميع المحطات.



من الخطابات الرئاسية إلى قراءة الوثائقيات... «محيطاتنا» بصوت باراك أوباما

وثائقي جديد عن المحيطات من إنتاج باراك أوباما وبصوته (نتفليكس)
وثائقي جديد عن المحيطات من إنتاج باراك أوباما وبصوته (نتفليكس)
TT

من الخطابات الرئاسية إلى قراءة الوثائقيات... «محيطاتنا» بصوت باراك أوباما

وثائقي جديد عن المحيطات من إنتاج باراك أوباما وبصوته (نتفليكس)
وثائقي جديد عن المحيطات من إنتاج باراك أوباما وبصوته (نتفليكس)

ليست الوثائقيات المخصصة لاستكشاف أعماق البحار مادّةً تلفزيونية جديدة، فأول هذه الأعمال يعود إلى عام 1954. ومع مرور السنوات، توالت تلك الأفلام الوثائقية إلى أن باتت تُعَدّ بالآلاف وتملأ شاشات التلفزيون ومنصات البث. صحيح أنّها مادّة عابرة للأزمنة ولا يُملّ منها، غير أنه صار من الصعب إنتاج وثائقي آخر عن عالم ما تحت الماء، وتقديم محتوى جديد ومختلف عمّا سبق.

لعلّ التميّز والاختلاف هما أكثر ما سعى إليه فريق عمل «Our Oceans (محيطاتنا)»، السلسلة الوثائقية الجديدة التي تُعرض على «نتفليكس». وقد اجتمعت عناصر كثيرة لتحقّق هذا الهدف؛ بدءاً باللقطات الحصريّة للمخلوقات البحريّة التي جرى تصويرها بتكنولوجيا تُستَخدم للمرة الأولى ومن مسافاتٍ قريبة جداً، وليس انتهاءً بصوت الراوي... باراك أوباما شخصياً.

وما بين هاتين الميزتَين، عناصر أخرى كثيرة تجعل من مشاهَدة «Our Oceans» تجربة استثنائية، لا تختلف كثيراً عن متابعة مسلسل مشوّق وزاخرٍ بالمؤثّرات البصريّة.

تُخصَصُ كلٌ من الحلقات الـ5 لأحد محيطات هذا العالم، بدءاً بالمحيط الهادئ، وصولاً إلى الجنوبي، مروراً بالهندي والأطلسي والمتجمّد. يقول الراوي إنّ تيّاراً يسافر بين تلك المحيطات ويجعل منها عالماً واحداً. لكن بين الحلقة والحلقة، تختلف السرديّات وتتنوّع المَشاهد، لتبقى نبرة الراوي ثابتةً ومُريحة للسمع.

ليس من المنصف مقارنة موهبة أوباما الصوتيّة بأيقونة وثائقيات الطبيعة، المذيع والعالِم البريطاني ديفيد أتينبورو. فالأخير رائدٌ في مجاله وأحد مؤسسي هذا النوع من الأعمال التوثيقية، بينما أوباما حديث العهد في هذا المجال. قد يغرق الرئيس الأميركي الأسبق في السرد الرتيب أحياناً، إلا أنه يحاول جاهداً أن يجعل من صوته مرآةً للصورة المذهلة، لاجئاً إلى التلوين في النبرة، وإلى خفّة الظلّ المثيرة للابتسام، وإلى التفاعل الصوتيّ البارز مع المَشاهد المُدهشة. فأوباما، إلى جانب كونه موهبة تلفزيونية صاعدة، مدافعٌ شرس عن البيئة البَحريّة، هو الذي ترعرع في جزيرة هاواي الأميركية.

صُوّر الوثائقي بتكنولوجيا متطوّرة أتاحت الاقتراب من الكائنات البحريّة بشكل غير مسبوق (نتفليكس)

يتلاقى صوت أوباما مع نصٍّ كُتبَ بحنكةٍ وإحساسٍ عاليَين، مع لمسةٍ لافتة من الفكاهة. تتميّز السلسلة الوثائقية بسرديّتها التي لا تُشبه النصوص المرافقة عادةً لهذا النوع من المحتوى، وهي ترتكز إلى تقنية الكتابة على الصورة، أي استلهاماً ممّا تقدّمه المحيطات وكائناتها من مَشاهد مذهلة. في «Our Oceans»، تتحوّل الكائنات البَحريّة إلى شخصيات، لكلٍّ منها قصة بما فيها من كفاح وتحديات ومشاعر وعلاقات صداقة وعداوة. وأمام هكذا نص على قدرٍ عالٍ من الإنسانية، لا بدّ للمُتفرّج من أن يتماهى مع المواقف التي تواجه المخلوقات المائية والطيور البَحريّة.

في المحيط الهنديّ، يتعرّف المُشاهد إلى أنثى الحوت التي تسعى جاهدةً لأكل ما تستطيع، من أجل إرضاع صغيرها المولود حديثاً الذي يستهلك الكثير من الحليب. أمّا في المحيط الأطلسي، فيجهّز ذكور سمكة الفرّيدي الأرض لاستقبال إناثها من أجل أن تضع بيضها. تتنافس الأسماك فيما بينها لترتيب المكان وتنظيفه من كل ما قد يزعج الإناث، كالأعشاب والأصداف وحتى نجمات البحر.

يُدرك فريق «Our Oceans» أنّ المعلومات العلميّة وحدَها لا تُقنع الجمهور ولا تكفي لتُعلّقه في شرك العمل. لذلك فقد ارتأى أن يستند إلى المشاعر، من خلال ملاحقة الأسماك وسائر الحيوانات، وتصويرها ضمن مواقف يسهل التماهي البشري معها؛ كما أنثى الدب تلك في حلقة المحيط المتجمّد الشمالي، والتي تبحث بشراسة عن طريدةٍ ما من أجل إطعام صغيرها المتضوّر جوعاً.

ومن بين المَشاهد التي تذهل العين والفكر على حدٍّ سواء، ذاك الأخطبوط الصغير في المحيط الهندي، الذي يصرّ على العثور على طبقتين متجانستَين من إحدى الأصداف، كي يختبئ بينهما من عيون الأسماك المفترسة وأفواهها.

لا يعتمد الوثائقي بث المعلومات العلمية بقدر ما يرتكز إلى نص وتصوير زاخرَين بالمشاعر (نتفليكس)

ما يميّز السلسلة الوثائقية كذلك، مواكبتُها لسلوكيّات المجتمعات البَحريّة. تساعد في التقاط تلك المشاهد عن قُرب، تكنولوجيا متطوّرة جداً تُستخدم للمرة الأولى على هذا العمق. ولم تنتج عن ذلك التصوير الفريد متعة بصريّة فحسب، بل انهماكُ علماء البحار في تحضير 20 دراسة جديدة حول سلوكيّات الكائنات البحريّة، بناءً على ما شاهدوه ضمن السلسلة. مع العلم بأنّ 700 عالِم وباحث شاركوا في تحضير «Our Oceans».

من المواضيع المهمّة التي يلقي الوثائقي الضوء عليها، التلوّث البحري والآثار السلبية للتغيّر المناخي على المحيطات. يأتي ذلك انطلاقاً من الاهتمام الذي يوليه المنتجان المنفّذان، باراك وميشيل أوباما، للتوعية البيئية. وإذا كانت الحلقة الأولى مكرّسة لتصوير السِّحر البحري، فإنّ الحلقة الثانية والخاصة بالمحيط الهندي تُظهر كيف يمكن أن تتحوّل جنّة ما تحت الماء إلى حاوية نفايات ضخمة. وفي هذه الحاوية، كائناتٌ صغيرة وكبيرة تآلفت مع المواد البلاستيكية وسائر أشكال القمامة وباتت تقتات منها.

لا يغفل الوثائقي موضوع التلوّث البحري المتسببة به أيادي البشر (نتفليكس)

ليس الهدف من الوثائقي تجارياً بقَدر ما هو توعويّ إلى خطورة اليد البشريّة على جمال المحيطات. يجتاز فريق العمل 75 ألف ميل انطلاقاً من حب كبير للبحار والمياه التي تغطّي 71 في المائة من مساحة كوكب الأرض. على رأس الفريق، الثنائي الرئاسي الأميركي الأسبَق المنشغل منذ عام 2018 بمشروعٍ ترفيهيّ كبير، هو عبارة عن شركة إنتاج تُدعى Higher Ground.

اجتاز فريق العمل 75 ألف ميل واستعان بـ700 باحث وعالِم بحار (نتفليكس)

أنتجت شركة آل أوباما حتى اللحظة، أكثر من 20 مشروعاً تتنوّع ما بين أفلام روائية، ووثائقيات، ومسلسلات، وبرامج للأطفال، وبودكاست. وتُعتبر معظم تلك الإنتاجات هادفة، بما أنها تتضمّن رسائل توعويّة إنسانياً، وبيئياً، ومجتمعياً.

أمّا الموهبة الصاعدة التي يلوّن صوتُها بعض تلك الأعمال، أي باراك أوباما، فيبدو صاحبَ مستقبلٍ واعد في المجال. تُوّج مجهوده الصوتيّ بجائزة «إيمي» عام 2022 عن فئة أفضل راوٍ. وكان قد حاز سابقاً جائزتَي «غرامي» في الإطار ذاته.