كل «غلاف» ينضح بما فيه

دور النشر المحترفة توظف له مصممين محترفين

غلاف «منصب شاغر» بالعربية و غلاف «منصب شاغر» بالإنجليزية
غلاف «منصب شاغر» بالعربية و غلاف «منصب شاغر» بالإنجليزية
TT

كل «غلاف» ينضح بما فيه

غلاف «منصب شاغر» بالعربية و غلاف «منصب شاغر» بالإنجليزية
غلاف «منصب شاغر» بالعربية و غلاف «منصب شاغر» بالإنجليزية

لو قُيض لك أن تختار لنفسك وجها، هل كنت لتختار وجها يعكس روحك، أم آخر يعاكسها، أم أنك تفضل فقط وجها جميلا قادرا على جذب الناس.. هل كنت لتختار لنفسك وجها بلا ملامح، بلا مشاعر؟
لعلك لن تنال فرصة اختيار وجه على مقاس رغباتك، لكنك بالتأكيد ستواجه هذه المعضلة، فيما لو طلب منك أن تختار غلافا لكتابك.
باختصار، ذلك ما يقوله الكاتب والرسام الأميركي تيم كرايدر في معرض حديثه عن التباينات التي قد تنشأ بين الكاتب ودار النشر فيما يتعلق بتصميم أغلفة الكتب. فالكاتب غالبا ما ينحاز للنص، بوصفه مرآة لروحه، فيما تنحاز دور النشر لعناصر الجذب، بوصفها الواجهة التي ستقرر مصير الكتاب وبالتالي، مصير.. المبيعات.
ويروي كرايدر في مقال نشرته مجلة «نيويوركر» الأميركية في يوليو (تموز) الماضي، كيف أنه، أكثر من مرة، اختار لغلاف كتابه، التصميم الذي رفضته دار النشر، والعكس صحيح.
يعود كرايدر، صاحب كتاب «لم نتعلم شيئا»، إلى نظرية التماهي بين الوجه والغلاف، ويقول إن هناك فرقا «محرجا للغاية» بين الكيفية التي نحاول أن نظهر بها، والحقيقة التي نحن عليها، ولهذا نسأل أصدقاءنا عن رأيهم الصريح عن شكلنا وكيف نبدو، وهو السبب ذاته الذي يدفع دور النشر إلى توظيف مصممين محترفين ليصمموا أغلفة الكتب، من دون أن يتيحوا للكاتب ذاته مجالا كبيرا لإبداء الرأي.
فهؤلاء المحترفون لا يقعون في فخ النص.. هم ينظرون إلى أغلفة الكتب على أنها «أداة أساسية لتسويق الكتاب»، ولهذا هم ينصحون الكتاب، المكدسة كتبهم على رفوف المكتبات، بأن يغيروا وجوهها.
دور النشر العربية ليست بمنأى عن هذه «الصرعة»، بل إنها أصبحت تمنح أغلفة كتبها اهتماما أكبر، خاصة أنها تملك في يدها أداة «فنية» مهمة تزين بها هذه الوجوه، وهو الخط العربي.
العناصر المكونة للغلاف ليست كثيرة: الخط لكتابة العنوان، والرسم أو الصورة على الغلاف، والألوان المستخدمة. وهي عناصر لا بد أن تكون متوائمة لتمنح كل كتاب هوية.
هكذا يكون للرواية الأدبية مفهوم فني قائم بذاته، بينما تبدو الكتب المدرسية نمطية في أحجامها وألوانها، فيما يفترض أن تلتزم كتب التوجيه الاجتماعي بأسلوب مباشر لا مواربة فيه، بينما يتم تصميم المراجع والكتب الأكاديمية أو البحثية غالبا بطريقة رصينة. أما الأطفال فلهم عالمهم الخاص، ملون ومدور.
المصمم الفني باسكال زغبي، صاحب أستوديو «29 حرفا» (29 Letters)، يقول لـ«الشرق الأوسط» إنه يتعامل مع كل كتاب على أنه حالة بذاتها، مضيفا: «حين أحب الكتاب الذي أعمل عليه، أصبح حساسا لتصوير ما تركه علي من انطباع. في بعض الأحيان أستبعد بطل الرواية أو العقدة الأساسية فيها لصالح تفصيل ما استوقفني، مما يجعلني أمنح القارئ تلميحا من دون أن أحرمه من لذة الاكتشاف بنفسه».
يبدأ مشوار تصميم غلاف الكتاب في دار النشر، «بدردشة مع المحررين أو المترجم، حول الكتاب، لأتلمس في مخيلتي أطياف فكرة تليق بالنص»، يقول زغبي. «بعدها، أحمل العمل إلى المحترف.. أقلب صفحاته، بحثا عن تفصيل ربما يفجر شياطين الإبداع لدي. أحيانا أحتاج إلى إجراء بحوث عن الكاتب لأكتشف شخصيته. وأحيانا أضطر إلى قراءة الكتاب برمته، لأستوحي من الرواية أو بطلها أو بطلتها غلافا».
يؤكد زغبي أن الكتاب، مهما كان خياليا، يظل عملا غير منفصل عن الكاتب. هناك دوما شيء ما من الحقيقة في النص، حقيقة عايشها الكاتب. وهنا تكمن أهمية فهم الكاتب ودوافعه.
الكاتب الغامض لن يحب لكتابه غلافا شفافا إلى درجة الملل. الباحث الأكاديمي لن يريد لكتابه غلافا مرمزا. كاتب التشويق لن يرغب في غلاف وردي الطابع.
ومع ذلك، فإن غالبية دور النشر لا تمنح الكاتب ترف الاختيار.. أقله ما دامت تستطيع إلى ذلك سبيلا.
تقول مديرة التحرير في دار «هاشيت أنطوان» العربية للنشر باسكال قهوجي: «الكتاب الكبار يفضلون الإشراف على كل تفصيل في الغلاف، من اللون إلى الخط إلى الرسم واللوحة».
لكن المثل الحاضر في ذهن قهوجي هي رواية «منصب شاغر» للكاتبة البريطانية ج. ك. رولينغ، صاحبة السلسلة الأكثر مبيعا «هاري بوتر». وتروي أنه «عندما فزنا (دار هاشيت أنطوان) بحق ترجمة الرواية إلى اللغة العربية، كنا ندرك أن علينا العودة إلى رولينغ في كل تفصيل خلال مختلف مراحل صناعة الكتاب، حتى إننا كنا ملزمين باقتباس التصميم ذاته المعتمد في غلاف النسخة الإنجليزية من الرواية. المساحة الوحيدة التي أتيح لنا التحرك فيها كانت الخط العربي. هكذا، لجأنا إلى المصمم باسكال زغبي ليرسم لنا خطا عربيا يحاكي ذلك الإنجليزي المستخدم على النسخة الأجنبية من الكتاب».
يقول زغبي إنه «ابتكر الخط» من العدم؛ إذ «ليس هناك خط إلكتروني جاهز يشبهه». كان عليه أن يرسمه يدويا، ليبدو كأنه نسخة طبق الأصل عن الحرف اللاتيني. رواية «منصب شاغر» لم تكن مهمة صعبة بالنسبة لزغبي؛ إذ هناك أعمال تطلبت منه جهدا «ابتكاريا» أكبر، إذ «ليس سهلا أن تختصر رواية معقدة متعددة الشخصيات والعوالم في صورة واحدة» كما يقول.
يحكي الشاب الثلاثيني بشغف عن مشروع إعادة إصدار أعمال الشاعر الكبير نزار قباني، التي ستصدر في الخريف المقبل عن دار «هاشيت أنطوان»، وكيف أنه توصل بعد جلسات من العصف الذهني مع لجنة التحرير في الدار، إلى مفهوم يوحد هوية جميع أغلفة كتب قباني. ولم تكن مهمة مستحيلة، فالشاعر السوري الذي توفي عام 1998، كان عاشقا أبديا، له في المرأة وحبها دواوين.
لم يشأ المصمم الشاب أن يقحم المرأة، حتى لا يقع في الابتذال والتكرار. هكذا، قرر اختيار جزء من جسد المرأة وتصويره بطريقة «رمزية ومبهمة»، كأن يرسم على أحد الأغلفة مجرد انحناءة أو تضريس يحاكي ملمحا من الجسد الأنثوي.
فتمثيل المرأة أو جسدها على أغلفة الكتب لطالما كان شركا يحرص البعض على تفاديه.
ففي مقال نشرته مجلة «نيويوركر» الأميركية، قال الباحث ستيفن بلاكويل إن الكاتب الروسي الشهير نابوكوف كان ميالا إلى «التحكم في صورته العامة وسمعته، وهذه النزعة كانت تطال حتى ترجمات كتبه ومقابلاته وأغلفة كتبه».
وتابع بلاكويل أن نابوكوف كتب إلى ناشر روايته الأشهر «لوليتا» يقول: «أريد لغلاف الرواية ألوانا صافية وسُحُبا طرية وتفاصيل مرسومة بدقة وأشعة شمس على طريق ملتوية، مع نور تعكسه الأثلام بعدما تساقط عليها المطر. ولا أريد أي فتاة على الغلاف». ويتابع: «أريد صورة رومانسية مرسومة بعناية وبعيدة عن الفرويدية». ولمزيد من التأكيد، يكرر نابوكوف: «هناك أمر واحد أرفضه تماما: أي شكل من أشكال تجسيد الفتاة».
وبينما لا يؤول شرف نجاح النص سوى لكاتبه، يكمن جيش من الجنود المجهولين خلف صناعة الكتاب.. فالمنتَج النهائي، لناحية التصميم، لا يعود ابن صانعه الأول.. أحيانا يشبهه وأحيانا لا يفعل.. هو وليد يحمل قبسا من روح كل من وضع لمسة عليه.



متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»


قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».