آخر ليالي جون ستيوارت.. أكثرها صخبًا

هيلاري كلينتون: يا لسوء الحظ.. تترك برنامجك وأنا بدأت حملتي الانتخابية؟

جون ستيوارت يغادر محطة «كوميدي سنترال» بعد انتهاء آخر حلقات برنامجه «ذا ديلي شو»(أ.ف.ب)، جون ستيوارت أنهى برنامجه الشهير «ذا ديلي شو» بعد 16 عامًا، في حلقته الأخيرة أول من أمس استضاف ستيوارت المقدم ستيفن كولبيرت وهو من تلاميذه وصار مثله صاحب برنامج أخبار فكاهي
جون ستيوارت يغادر محطة «كوميدي سنترال» بعد انتهاء آخر حلقات برنامجه «ذا ديلي شو»(أ.ف.ب)، جون ستيوارت أنهى برنامجه الشهير «ذا ديلي شو» بعد 16 عامًا، في حلقته الأخيرة أول من أمس استضاف ستيوارت المقدم ستيفن كولبيرت وهو من تلاميذه وصار مثله صاحب برنامج أخبار فكاهي
TT

آخر ليالي جون ستيوارت.. أكثرها صخبًا

جون ستيوارت يغادر محطة «كوميدي سنترال» بعد انتهاء آخر حلقات برنامجه «ذا ديلي شو»(أ.ف.ب)، جون ستيوارت أنهى برنامجه الشهير «ذا ديلي شو» بعد 16 عامًا، في حلقته الأخيرة أول من أمس استضاف ستيوارت المقدم ستيفن كولبيرت وهو من تلاميذه وصار مثله صاحب برنامج أخبار فكاهي
جون ستيوارت يغادر محطة «كوميدي سنترال» بعد انتهاء آخر حلقات برنامجه «ذا ديلي شو»(أ.ف.ب)، جون ستيوارت أنهى برنامجه الشهير «ذا ديلي شو» بعد 16 عامًا، في حلقته الأخيرة أول من أمس استضاف ستيوارت المقدم ستيفن كولبيرت وهو من تلاميذه وصار مثله صاحب برنامج أخبار فكاهي

كانت ليلة الخميس هي آخر ليالي المعلق التلفزيوني الساخر الجاد جون ستيوارت في قناة «كوميدي»، بعد ستة عشر عاما جذب فيها برنامجه «ذا ديلي شو» المعجبين داخل وخارج أميركا. بدأ البرنامج مع انتقادات من صحافيين ومعلقين بأن سخريته سخيفة، وأنهى البرنامج بنتائج استطلاع أوضح أنه أكثر شعبية من كثير من مقدمي نشرات الأخبار المسائية الرئيسية.
لهذا، اختلفت آخر ليلة مع ستيوارت عن آخر ليلة مع عمالقة مقدمي نشرات الأخبار الأميركية. مثل:
أولا: ليلة 6 - 3 - 1981، حين ختم وولتر كرونكايت، ربما أشهرهم عبر تاريخهم، آخر نشرة أخبار، في تلفزيون «سي بي اس»، بعبارته التقليدية، وفي هدوء: «هذا هو ما هو».
ثانيًا: ليلة 5 - 4 - 2005، ختم بيتر جنننغ، الأميركي الكندي، آخر نشرة أخبار، في تلفزيون «إي بي سي» بخبر مفاجئ. قال، في هدوء: «ربما لا تعرفون أننى ظللت أدخن السجائر لأكثر من عشرين عاما. مؤخرا، قال لي الأطباء إنني مصاب بسرطان الرئة». بعد شهور قليلة توفى.
لكن، كانت آخر ليالي ستيوارت أبعد ما تكون عن الهدوء. كانت أكثر لياليه صخبا في برنامجه اليومي الذي اشتهر بالصخب كل ليلة.
حسب استطلاع أجراه مركز «بيو» (في واشنطن العاصمة)، قال نصف الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاما إن «ديلي شو» (العرض اليومي) الذي يقدمه ستيوارت، وهو خلطة من أخبار جادة ونكات لاذعة، هو مصدر إخبارهم مع نهاية اليوم. وقالت مجلة «رولنغ ستون» إن شعبية ستيوارت خارج أميركا أكثر منها داخل أميركا.
حتى صباح أمس الجمعة، لم تنقل الأخبار أرقاما عن عدد الذين شاهدوا ليلة ستيوارت الأخيرة. لكن، يتوقع أن يكون العدد بمئات الملايين، خاصة خارج أميركا لأن الشباب هم أكثر الذين شاهدوا البرنامج، واهتم به السياسيون، بهدف كسب هؤلاء الشباب. حتى الرئيس باراك أوباما، بعد ست سنوات في البيت الأبيض، وافق، أخيرا، على الظهور في البرنامج. وطبعا، كانت الأسئلة فكاهية، لكنها، طبعا، كانت أسئلة في الصميم.
لم يظهر أوباما ليودع ستيوارت في آخر لياليه، لكن، ظهر وزير خارجيته جون كيري، ووزيرة خارجيته السابقة هيلاري كلينتون، التي ترشحت باسم الحزب الديمقراطي لانتخابات رئاسة الجمهورية في العام القادم. وفي جانب الجمهوريين، ظهر السناتور جون ماكين، ومذيع التلفزيون بيل أورايلي.
قبل ظهور هؤلاء، بدا ستيوارت البرنامج، وسط تصفيق المشاهدين: «ماذا يجرى؟ هل هناك شيء غريب الليلة؟» ومع تصفيق وضحكات المشاهدين، واصل: «هذه هي النهاية. هذه آخر حلقات هذا البرنامج. ما أكبرها، وأروعها، من ليلة».
وكعادته كل ليلة، انتقل إلى مراسليه الذين يقدمون الأخبار من داخل وخارج الولايات المتحدة. لحسن حظه، في نفس الليلة، عقد قادة الحزب الجمهوري المرشحون لرئاسة الجمهورية أول مناظراتهم في نفس وقت عرض برنامج ستيوارت. ومن كليفلاند (ولاية أوهايو)، حيث انعقدت المناظرة، نقل مراسل الخبر، طبعا، في خلطة من جد وفكاهة.
لكن، لأن عدد المرشحين الجمهوريين كان كثيرا، تندر ستيوارت بأنهم أكثر من عدد مراسليه. وواحدا، بعد واحد، انضم إليه مراسلوه، ليغطي كل مراسل واحدا من مرشحي الحزب الجمهوري. وزادوا الفكاهة فكاهة.
طبعا، كانت الصورة الكبيرة هي السخرية من السياسيين. منذ عام 1999، عندما بدا ستيوارت برنامجه، ظلت هذه السخرية أساس البرنامج، وسبب إقبال الناس (خاصة الشباب).
بعد تغطية مؤتمر الحزب الجمهوري، عدد ستيوارت بعض مراسلي البرنامج خارج الولايات المتحدة. وأشار إلى اسم (مع صورة) المصري باسم يوسف، صاحب برنامج تلفزيوني يشبه برنامج ستيوارت، وأيضا، يخلط بين الجد والمرح. وزيادة في المرح، قدم ستيوارت مراسله في الفضاء الخارجي: دارث فيدار من أفلام «حروب النجم».
في منتصف البرنامج تقريبا، ظهرت صور وفيديوهات السياسيين الحقيقيين. قال بعضهم جملة مرحة قصيرة. ولم يتكلم آخرون.
قالت له هيلاري كلينتون: «تترك برنامجك، وأنا بدأت حملتي الانتخابية؟ يا لسوء الحظ».
وظهر جون كيري، وزير الخارجية. ومن السناتورات: جون ماكين، شاك شومار، لندسي غراهام. ومن المذيعين التلفزيونين: مذيع «فوكس» بيل أورايلي، ومذيع «سي ان ان» وولف بلتزار. ومن حكام الولايات، كريس كريستي، حاكم ولاية نيوجيرسي. ومن العمد، راحم إيمانويل، عمدة شيكاغو.
خلال كل هذه الفقرات، كان المشاهدون يهتفون، ويغنون، ويضحكون. ومرات كثيرة، كانوا يرددون: «دونت جو» (لا تذهب، لا تترك البرنامج).
زادت الهتافات عندما ظهر ستيفن كولبيرت، من تلاميذ ستيوارت، وصار مثله صاحب برنامج أخبار فكاهي. وخلال كلمات ثناء من تلميذ إلى أستاذه، تدفقت عواطف الرجلين، وسالت دموع من عيني ستيوارت.
قرب نهاية البرنامج، أسهب ستيوارت في الإشادة بالذين يعلمون معه، أو عملوا معه. وظهر عشرات منهم. حتى الفنيين، والكهربائيين والإداريين والعمال.
عكس آخر كلمات كرونكايت، وآخر كلمات جيننغز، وآخر كلمات دان راثر، وغيرهم من عمالقة نشرات الأخبار الأميركية، كانت آخر كلمات ستيوارت عن «سخف الدنيا، وسخف الحياة، وسخف الناس» (استعمل كلمة بذيئة). وأضاف: «توجد في الحياة أشياء قليلة جدا ليس فيها سخف». وقسم السخف إلى أقسام. منها:
أولا: سخف مقبول، مثل الذين يكذبون كذبات «بيضاء» (لا تؤذي أحدا، ولا تؤذي شيئا).
ثانيا: سخف وطني لكنه شرير. مثل قانون «باتريوت» (الوطنية) الذي أصدره الكونغرس بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001.
كانت من أسباب نجاح ستيوارت سنوات كثيرة انتقد فيها الرئيس جورج بوش الابن. ورغم أن ستيوارت كرر التعبير عن وطنية قوية وحماسية، ركز على أن السياسيين يخدمون مصالحهم الخاصة أكثر من مصالح وطنهم.
وأضاف: «إذا سمعت أي شيء فيه كلمات مثل: الوطنية، الحرية، العائلة، التراث، العدل، أميركا، ادرسه جيدا. يمكن أن يكون فيه سخف كثير».
كعادته، جمع بين سخف (فساد) السياسيين وسخف (طمع) الأغنياء. وقال: «لا يجب أن يشتري عدد قليل من المليارديرات انتخاباتنا. يجب أن تكون حرة ونزيهة. لكن، كيف تكون حرة ونزيهة إذا يشتريها المليارديرات؟»
قبل نهاية البرنامج بثمان دقائق، جاء وقت كلمات الوداع. قال: «هذا أجمل مكان في العالم. بالنسبة لي، يظل كل شيء يبدو مثل حلم». وقال إن كل العاملين في البرنامج كانوا حزينين خلال آخر يوم. وسالت دموع من عينيه. ثم أثنى على زوجته وأطفالهما. وسالت دموع من عينيه مرة أخرى.
ثم جاء مسك الختام: المغنى الكبير بروس سبرينغستين. غنى أكثر من أغنية، فيها خلطة من عاطفة ووطنية: «أرض الأمل والأحلام» و «ولدت في الولايات المتحدة الأميركية» و«ولدت لأركض».
ثم صعد ستيوارت إلى المسرح، وحضن المغنى، وشكره، ونظر إلى المشاهدين، ورفع يديه إلى أعلى، وقال: «شكرا، ليلة سعيدة»، واختفى من على المسرح.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)