الجهاد في جوهره مفهوم سلمي لا عنفي

عدد جديد من مجلة «الإسلام في القرن الحادي والعشرين»

الجهاد في جوهره مفهوم سلمي لا عنفي
TT

الجهاد في جوهره مفهوم سلمي لا عنفي

الجهاد في جوهره مفهوم سلمي لا عنفي

كرّست هذه المجلة الباريسية المرموقة عددها الأخير لموضوع واحد، هو «الجهاد في الإسلام». وقد شاركت فيه نخبة من الباحثين والباحثات. افتتح العدد رئيس رابطة الإسلام في القرن الحادي والعشرين البروفسور الجزائري الأصل الدكتور صادق بلوصيف. وقد جاء في افتتاحيته للعدد الجديد ما فحواه: كلمة الجهاد أصبحت ترعب الكثيرين وتحدث في نفوسهم الكثير من المخاوف والهلوسات. فما هي حقيقة الأمر؟ ما هي حقيقة الجهاد؟ هل كلمة الجهاد حربية صراعية عسكرية؟ هل الجهاد نوع من «صدام الحضارات» قبل الأوان؟ أسئلة كثيرة متلاحقة يضطر المرء إلى طرحها، بل ويطرحها الكثيرون على أنفسهم، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. ولكن الجميع ينسون أن الجهاد في الإسلام يعني مجاهدة النفس ومقاومة انحرافاتها وتقويم اعوجاجها وتعويدها على الفضيلة ومكارم الأخلاق. وهذا هو الجهاد الأكبر في الإسلام. ولكن لا أحد يتحدث عنه. الجميع مهووسون بالجهاد الأصغر: أي الجهاد الحربي العسكري. كلنا مشغول بالجهاد الخارجي وننسى الجهاد الداخلي: أي مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء.
ثم يختتم رئيس التحرير افتتاحيته قائلاً ما معناه: هكذا تجدون أننا ابتعدنا كثيراً عن المفهوم الأصلي للجهاد الأكبر، والذي يعني كما قلنا مجاهدة النفس ونزعاتها الشريرة؛ بغية إصلاحها وتحسينها وتدريبها على الفضائل. وهذا ما ينصح به الإسلام كل مسلم. هذا ما يعلمنا إياه الإسلام دين السلام والتعايش والتعارف بامتياز. جاء في الذكر الحكيم «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات: 13). هنا يكمن جوهر الإسلام العظيم الذي شوّهوه، وينبغي أن يدفعوا ثمن هذا التشويه يوماً ما.
وقد ابتدأ الكلام الباحث المعروف أسامة حسن بدراسة مطولة اتخذت عنواناً لافتاً، هو «كيف يمكن تخليص الإسلام من الإسلاموية». المقصود كيف يمكن تخليصه من الاتجاهات الجهادية المتعصبة والدموية على طريقة «داعش» و«القاعدة»، إلخ. وقد أنهى الباحث الإسلامي مداخلته بعبارة فاجأت الجميع، وهي أن الجهاد في جوهره وأساسه مفهوم سلمي لا عنفي.
ولكن يبقى صحيحاً القول بأن الجهاد حُرّف عن معناه الحقيقي وتحول على أيدي المتطرفين الدواعش إلى تفجيرات دموية مرعبة ولم يعد مسالماً على الإطلاق. ولهذا السبب ينبغي تحرير الإسلام من الإسلاموية. فالإسلام في جوهره دين الرحمة والشفقة والمغفرة. ولكن اتجاهات متعصبة سطت على الإسلام في السنوات الأخيرة واحتكرته لصالحها وكأنها الممثل الوحيد له في حين أنها تشويه له. ولهذا السبب ينبغي تخليصه من براثنها.
أما الدراسة الثانية في العدد، فهي مكرّسة للتحدث عن مناضلي الجهاد الفرنسي، عن منشئهم السوسيولوجي الاجتماعي، عن آيديولوجيتهم، عن مساراتهم الشخصية أو الفردية، إلخ. وقد كتبها الباحث المعروف التونسي الأصل حكيم القروي بالإضافة إلى الباحث بنيامين هودايا.
وانتهى العدد بدراسة ثالثة كتبتها البروفسورة والمحللة النفسانية المعروفة حورية عبد الواحد. وقد تحدثت فيها عن كيفية تحويل أطفال «داعش» إلى مسلحين قتلة مرعبين في حين أنهم كانوا أطفالاً أبرياء. بمعنى آخر، لقد حوّلوهم من ضحايا إلى جلادين.

منطق الأصولية الإسلاموية

ننتقل الآن إلى كلام سكرتيرة التحرير إيفا جانادان، الباحثة المختصة المتبحرة في العلم والدراسات الإسلامية. فماذا تقول لنا يا ترى عن موضوع الجهاد؟ إنها تتحدث عن نظرية الجهاد قائلة ما معناه: لكي نفهم عقيدة الجهاد جيداً، فإنه لمن الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار رأي كبار الفقهاء في القرون الوسطى الذين قسّموا العالم إلى قسمين: دار الإسلام/ ودار الحرب التي تدعى أيضاً دار الكفر. وهذا التقسيم الثنائي أو الثنوي يرتكز على الفرضية التي تقول بأن الإسلام سيعمّ العالم كله يوماً ما وأن شريعته ستحلّ محل جميع الشرائع وأنه لا يمكن أن يوجد حكم شرعي مرضي عند الله على وجه الأرض إن لم يكن إسلامياً. وهذا يعني أن أرض الإسلام بالمعنى الديني كما السياسي للكلمة مفتوحة لا حدود لها. ولكن بانتظار أن يعمّ الإسلام العالم كله فإن الفقهاء اضطروا إلى تقسيم المعمورة إلى قسمين: أرض الإسلام والطهر/ وأرض الحرب والكفر. وبين هذين القسمين ينبغي أن تستمر الحرب حتى يتحقق الانتصار الكلي والنهائي للإسلام على بقية العقائد والأديان. ثم تردف الباحثة قائلة: ضمن هذا المنظور خلع فقهاء القرون الوسطى المشروعية الإلهية على الجهاد الحربي العنيف.
ننتقل الآن إلى المداخلة القيّمة التي كتبها الباحث الإنجليزي ولكن العربي السعودي الأصل الدكتور أسامة حسن. وهذا الباحث لمن لا يعرفه ذو مسار مدهش حقاً وغير متوقع على الإطلاق. فقد كان أصولياً جهادياً قبل أن ينقلب إلى مسلم مستنير! ينبغي العلم أنه كان في شبابه الأول ولمدة عشرين سنة على الأقل مناضلاً حركياً من أتباع الخط السلفي الراديكالي. بل وحتى عندما كان لا يزال طالباً في جامعة كمبردج فإنه شارك فعلياً في عمليات الجهاد ضد القوات الشيوعية في أفغانستان (9019 - 1991). ولكن على أثر التفجيرات الإرهابية التي أصابت ميترو لندن عام 2005، فإنه غيّر موقفه جذرياً وراح يناضل ضد التطرف والتعصب الديني. بل وراح ينخرط في خط الإصلاح الإسلامي المستنير ويروّج له داخل البيئات والحلقات الإسلامية. وهناك شيء آخر لا نعرفه عنه، وهو أنه خدم كإمام جامع لمدة 40 سنة على الأقل. وهو مشبّع بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وبقية النصوص الإسلامية المقدسة. وقد ترجم العديد من هذه النصوص إلى لغة شكسبير. كما وساهم في تأليف كتاب جماعي بعنوان «أهل الكتاب: كيف يفهم اليهود والمسيحيون والمسلمون نصوصهم المقدسة» (2019). وأخيراً، ينبغي العلم أنه المحلل الفكري والسياسي والاستراتيجي الأول «لمعهد توني بلير للتغيير العالمي». ماذا يقول هذا الباحث الخبير المطلع من الداخل على شؤون الحركات الأصولية وشجونها؟ إنه يقول لنا ما معناه: أن منطق الأصولية الإسلاموية يرتكز إلى أربع مسلّمات: الأولى هي أن مسلمي العالم كله يشكلون الأمة الإسلامية بصفتها أمة عالمية موحدة تقف في مواجهة جميع الأمم الأخرى غير المسلمة. وهم يعتمدون على مفهوم أساسي ذاع صيته وانتشر، هو: الولاء والبراء. بمعنى أن ولاء كل مسلم هو لصالح الإسلام والمسلمين الآخرين فقط. وبالتالي، البراء من جميع من هم غير مسلمين من أتباع الأديان والفلسفات والعقائد الأخرى. أما المسلّمة الثانية، فتقول بضرورة تشكيل دولة الخلافة الإسلامية التي تضم جميع مسلمي الأرض والتي لا تعترف بالحدود الحالية الكائنة بين الدول الإسلامية كالسعودية ومصر والمغرب، إلخ. كل هذه يعتبرونها حدوداً مصطنعة. وأما المسلّمة الثالثة، فتقول بضرورة تطبيق الشريعة كقانون وحيد لدولة الخلافة الإسلامية. ينبغي تطبيقها بما فيها الحدود البدنية كقطع يد السارق وجلد شارب الخمرة ورجم المرأة المخطئة، إلخ. إنهم يطبّقون تفسيرهم الأصولي للشريعة بشكل حرفي على جميع رعايا المملكة الإسلامية حتى ولو كانت مضادة بشكل صارخ للمفاهيم الحديثة لحقوق الإنسان. وأما المسلّمة الرابعة، فتقول بضرورة توسيع رقعة الدولة الإسلامية أكثر فأكثر بواسطة الجهاد. وهم يقصدون الجهاد الحربي الدموي فقط؛ لأنهم يجهلون كلياً الجهاد الأكبر الذي تحدثنا عنه سابقاً أو يتجاهلونه. ضمن هذا المعنى، فإن الأصوليين الإسلامويين يستخدمون الجهاد كأداة فعالة وفتاكة لإرهاب الآخرين وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية.

فتوى ماردين

يقول لنا هذا الباحث الضليع المطلع بأنه اجتمع في مدينة ماردين التركية أكثر من اثني عشر عالماً إسلامياً كبيراً وأعلنوا إدانتهم للتطبيق المتطرف لفتوى شهيرة كان ابن تيمية قد أصدرها في المدينة ذاتها قبل سبعة قرون. لقد شوّه الجهاديون الدمويون فتوى شيخ الإسلام التي تقول حرفياً «يُعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويُعامل الخارج على شريعة الإسلام بما يستحقه». فأصبحت على أيدي المتطرفين المعاصرين: تنبغي «محاربة» غير المسلمين بالطريقة التي يستحقونها! وهكذا شوّهوا فتوى ابن تيمية أو قُلْ حرفوها عن طريق إحلال كلمة «محاربة» أو «مقاتلة» محل كلمة «معاملة». ثم يخبرنا الباحث بأن الجماعات التكفيرية كانت منذ سنوات الستينات من القرن الماضي تستخدم هذه الفتوى المحرفة كأداة فعالة وفتاكة لتبرير اعتداءاتها الدموية على الآخرين. كما واستخدموها ضد الأنظمة العربية والإسلامية القائمة بحجة أنها مرتدة عن الإسلام، وبالتالي فيحق شرعاً إسقاطها واغتيال قادتها لأنهم لم يعودوا مسلمين في نظرهم! وهكذا بلغ التطرف بالجهاديين الدمويين مبلغه... ولكن لحسن الحظ، فإن فتوى ماردين الجديدة أعادت الأمور إلى نِصابها وقالت حرفياً «فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في ماردين لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون متمسكاً أو مستنداً لتكفير المسلمين والخروج على حكامهم، بل هي فتوى تحرّم كل ذلك». ثم أردفت فتوى ماردين الجديدة قائلة بأن العالم كله ينبغي أن يصبح أرض سلام وتسامح وتعايش بين مختلف الأديان والأقوام والمذاهب دون استثناء. وكل هذا متوافق مع جوهر الآية القرآنية الكريمة المذكورة سابقاً «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى....» إلخ. وهذا ما أعلنته أيضاً وثيقة الأخوة الإنسانية الموقّعة في أبوظبي من قِبل بابا روما وشيخ الأزهر بحضور الشيخ محمد بن زايد (بتاريخ 4 فبراير (شباط) 2019). وهذا ما أعلنته أيضاً وثيقة مكة المكرمة الموقّعة من قِبل أكثر من 1200 عالم إسلامي كبير (بتاريخ 30 مايو (أيار) 2019). وقد حصل ذلك في ظل القيادة الحكيمة لخادم الحرمين الشريفين وللأمير محمد بن سلمان، الذي هو قائد نهضوي وتنويري عربي كبير.
ولكن ماذا فعل المتطرفون الظلاميون؟ لقد رفضوا هذا الانفتاح الفكري والديني الكبير الذي حصل في ماردين وأبوظبي والرياض. وكان من بين الرافضين أحد منظّري «القاعدة» أنور العولقي، الذي زعم بأن فتوى ماردين هي فتوى النظام العالمي الجديد. كما ورفض هو وبقية قادة التطرف القاعدي - الداعشي فكرة الحوار بين الأديان. وقالوا بأن الإسلام يفرض علينا شرعاً محاربة جميع الأديان والمذاهب الأخرى بلا هوادة. هكذا نلاحظ أننا نقف في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة من تاريخ الإسلام أمام تفسيرين متضادين له أو مفهومين متخاصمين: مفهوم منفتح/ ومفهوم منغلق، مفهوم متسامح/ ومفهوم متعصب، مفهوم أنواري/ ومفهوم ظلامي. وحتماً سوف تنتصر الأنوار على الظلمات ولو بعد حين.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.