يرفع لقاء سلوم حداد وباسم ياخور احتمال الثقة بمسلسل وانتظار مشاهدته. المفاتيح في جيوبهما تُدخلهما إلى صدور المنازل فيما آخرون ينتظرون الإذن للتفضّل بعد وقوفٍ على العتبة. يجمعهما موسم رمضان 2023 بعملين: «العربجي» و«خريف عُمَر». يحلو ترقّب ما قد تكشف الثنائية وتُخبّئ، في مسار خوضها مبارزة تبلغ حبْس النَفَس.
إن كان «خريف عُمَر» (تأليف حسام شرباتي ويزن مرتجى، إخراج المثنى صبح، إنتاج «بنتالنز»، تعرضه «أبوظبي»)، يسير على مهل نحو فك لغزه وتفسير حالته الخاصة، فإنّ «العربجي» (تأليف عثمان جحى ومؤيد النابلسي، إخراج سيف السبيعي، إنتاج «غولدن لاين»، تعرضه عدة قنوات و«شاهد») يعتمد «تكتيك» رمي القنابل. حداد وياخور أمام منعطفين، يُحسب عليهما عبور طرق تتقاطع وهي تؤدي بهما إلى مسالك الخير والشر. فالأول هو «الشرير» والثاني «الخيِّر». حتى الآن، يحسم «العربجي» تصنيفهما مع صرف النظر عن واقعية أنّ البشر مجبولون من طينتين، لا يشكّل مكوِّنٌ واحد الروح وإنْ غلب الطبع.
السياق الدرامي مفتوح على مصراعيه منذ الحلقة الأول؛ فياخور بدور «عبدو العربجي» وحداد بشخصية «أبو حمزة النشواتي»، صراعُ الحق في وجه الباطل. الشخصيتان ترميان أوراقهما المكشوفة على الطاولة استعداداً لقلبها. في «خريف عُمَر»، حداد بدور «عُمَر الدالي» يمارس شراً يتستّر خلف «الطيبة». وإن كان زخمٌ من النفاق الاجتماعي يشكّل قاسماً مشتركاً بين الشخصيتين، فحداد مُعلّم في الفصل وحماية كل «كراكتير» من اقتحام حدود الآخر والتسرّب إلى عالمه.
ليس «عبدو العربجي» من الطمّاعين للزعامة ليبني النص أسسه على كباش المناصب. يأتمنه المنحى الدرامي على ضمان سيره من الإجحاف إلى العدل المنشود. على الحلبة، تحضر أشكال القوة لتقول إنّ الصنف المتكئ على الشرّ ليس دائماً المُنتصر. حداد بارع في حبْك شخصية تُحرّك مَن حولها ولو جلست على كرسي واكتفت بمَدّ القدمين. براعة ياخور تتخذ منحى آخر.
هي على مستويَيْن: الظاهر والباطن. في «العربجي»، يُطلق انفعالات علنية ويحفر غضبه في العمق. السعي إلى ترويضه يقابله مزيد من الجموح. ومحاولات كسر شوكته تصطدم بالتجذّر في الأصل الصلب. يرفعه «أبو حمزة» إلى درجة الخصم ويذلّه بانتهاك حرمة عائلته وتخريب علاقته بابنته. ياخور محترف في «فلش» (إظهار) القهر على الملامح، فتتجهّم وتتكوّر؛ وعلى العيون فتُنذر بقدح الشرر.
ليست مقارنة؛ هي اعتراف بنضج لقاء النجمَيْن السوريَيْن مسلسلاً تلو مسلسل، من «خاتون» و«الندم» و«على صفيح ساخن» و«ولاد البلد». تحالفهما هذا الموسم يهدم القوقعة فوق رأس البيئة الشامية ويقشّر جلدها الميت. بمظهر «الثور الهائج»، يناطح ياخور بشخصية «العربجي» علّة المجتمعات منذ القدم: الاستبداد. شعره الطويل وقامته الشاهقة، ورفض مشيته التواءَ المنكسرين؛ كلها تقنيات إضفاء الواقعية، يمتهنها امتهان سلوم حداد جعْل «أبو حمزة» امتداداً للحاكم الفضفاض على العرش، من الأمس إلى اليوم.
يعمّ هدوء حذر على مقلب «خريف عُمَر» ويلفّ الغموض الأرجاء. المسلسل سوري اجتماعي، لا يتّبع فن إسقاط الأقنعة بضربة واحدة. يسير باتجاه تبيان حقيقة النفوس على مهل. خلف الثغر المبتسم لسلوم حداد واللسان المعسول (يتطلّب دوره في «العربجي» أيضاً استعماله)، رجل بارتكابات كثيرة. شرّه خارج السياق المفضوح، وبشاعته الداخلية مخبّأة وراء طبقة من ادّعاء المحاسن. يدوزن العزف هنا؛ وهناك يقرع طبوله.
المقدّم في الأمن «فارس»، يحمل باسم ياخور إلى دور مغاير، فيُنوّع بإطلالتَيْن رمضانيَّتين. يبرز جانب «أرستقراطي» من مظهر يعتمد لبنائه على منزل أنيق وملابس «راقية» تليق بالمكانة الاجتماعية. بينما سلوم حداد يحاول فكَّ خوارزمية المكعّب، ويقود سيارة «مرسيدس» من طراز قديم، يشيّد ياخور حوله استفهامات تعلو حتى ملامسة الحيرة. لِمَ دوَّن «عُمَر» اسمه على إحدى جرائمه؟ ماذا يربط الرجلين؟ أي ماضٍ يتربّص بالحاضر؟ إنها الحلبة مرة أخرى، أمام متفرجين مفتوحة شراهتهم على الوجبة الكاملة.
«خريف عُمَر» في بداياته يحتدم بالضبابية. جوّه ملبّد بالأسئلة المعلّقة. غير مفهوم بعد، لكنه مُعبّأ بالرغبة في فهمه. اللاعبان كبيران في مبارزة تلتقي بقدر ما تتباعد. هما معاً أقوى من وقوف كلٍّ منهما على حدة. المسلسل الذي يجمعهما، يضخّ التشويق في عروقه. وقد يسري منساباً، كما التنزّه في الأمسيات، وهي حالٌ هنا؛ وقد يعدو كأنه في مطاردة وعليه الوصول قبل فوات الأوان، وهي حالٌ هناك؛ في المسلسلَيْن.
القبّعة الرياضية تحجب الشمس عن وجه يستلقي الرياء على تجاعيده؛ ومثل خيوط عنكبوت حُبكت بغرض القتل، يسير «عُمَر» نحو الإيقاع بضحاياه. سلوكه حمّال أوجه، لا يُشك بأمره للوهلة الأولى. يُضيّع، ولا يلفت الأنظار. «أبو حمزة» مثال الحاكم الذي تخافه الرعيّة، فتطيعه. شرّه مُوارب. يحوم حوله مَن يتحسّسون رقابهم، ويُقبّل يده مَن يتمنّون لها الكسر.
الفنان في صنعته هو مُتفادي التكرار والخارج على المقارنة. في سوريا، فنانون، منهم سلوم حداد وباسم ياخور وقافلة شطّار. مَن يمثّل ليس ممثلاً إلا بقدر اتّساع مساحات الإبداع داخل الشخصية واحتمالات الإقناع العالية. هذه الثنائية تُقنع وتُبهر.
سلوم حداد وباسم ياخور... الحلبة المنتظرة
يتبارزان على التفوّق في الأداء بمسلسلَيْن خلال رمضان
سلوم حداد وباسم ياخور... الحلبة المنتظرة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة