شرطان للعقلانية في تنظيم الكون وعالم الإنسان

في النظرة الحديثة تحولت الأرض إلى كوكب لكن الشمس لم تعد كذلك (أ.ب)
في النظرة الحديثة تحولت الأرض إلى كوكب لكن الشمس لم تعد كذلك (أ.ب)
TT

شرطان للعقلانية في تنظيم الكون وعالم الإنسان

في النظرة الحديثة تحولت الأرض إلى كوكب لكن الشمس لم تعد كذلك (أ.ب)
في النظرة الحديثة تحولت الأرض إلى كوكب لكن الشمس لم تعد كذلك (أ.ب)

قبل انتشار تيارات ما بعد الحداثة في نهايات القرن العشرين، كانت مقولة عالم الفيزياء ماكس بلانك في بداياته: «الحقيقة العلمية الجديدة لا تنتصر من خلال إقناع خصومها حتى يروا النور، إنما لأن الخصوم يموتون ويصعد جيل جديد نشأ عليها». فليس من السهل «إقناع» من أضاع حياته في معتقدات معينة، وربما ربط ذاته وكيانه بها واستثمر سمعته وهيبته ومكانته فيها، بالتخلي عنها، حتى إن كان عالماً.
تمسك بلانك بمبدأ «الحقيقة العلمية»، لكنّ غيره لم يفعل. في منتصف القرن العشرين، جاء توماس كوهن بأطروحاته عن «بنية الثورات العلمية»، وكان مفادها أنها مثل الثورات السياسية تتخللها حالات من الفوضى الفكرية، حيث تتصارع التصورات المختلفة لملء الفراغ، في ظل غياب الأرضية المشتركة المطلوبة لإمكانية الحوار (والاختيار) العقلاني بينها. وكان الإيحاء بأن «الحقيقة العلمية» التي تسود في نهاية المرحلة الثورية ليست بالضرورة نتاج عملية عقلانية، إنما تدخل في تشكيلها وترجيح فرصها عواملُ مثل النفوذ المؤسسي والتمويلي الداعم لمنهجها، وسلطة وتأثير العلماء المتبنين لتصور العالم المصاحب لها (ما سماه الـ«بارادايم»). وهذا الجانب من أطروحات كوهن هو الذي طوّره كثيراً أمثال ميشيل فوكو فيما بعد.
في نهايات مشواره الفكري تراجع كوهن كثيراً عن أطروحاته الأكثر راديكالية، خصوصاً بعد أن تابع تطورها على يد مَن تطرفوا في سرد تداعياتها. لكنه ظل متمسكاً بعنصر مهم يتعلق بصعوبة التواصل العقلاني بين البشر الذين ينتمون إلى جماعات (علمية أو غيرها) تستخدم لغة فكرية مغايرة جذرياً لشرح العالم**.
يسرد كوهن مثالاً بسيطاً لشرح ما يعنيه: في نظرية بطليموس للعالم، التي سادت خلال العصور الوسطى، الأرض لا تتحرك، بل تظل في مركز الكون الذي يدور حولها، لذلك لا يمكن اعتبار الأرض كوكباً. في المقابل، الشمس والقمر يدوران حول الأرض، ولذلك يجب تلقيبهما بالكوكب. أما في النظرة الحديثة، فالأرض تحولت إلى كوكب لكن الشمس لم تعد كذلك، والقمر تحول إلى مفهوم جديد لم يكن موجوداً من قبل، وهو الجسم الفلكي الذي يدور حول أحد الكواكب بدلاً من مركز الكون. ثم توالت الطفرات في تصور الإنسان للعالم الطبيعي، واختفت فكرة وجود مركز للكون من الأساس.
يمكن إذن سؤال: كيف يمكن للعلماء التواصل، كي يصلوا إلى توافق عقلاني بخصوص تطور تصوراتهم، رغم وجود اختلافات جذرية في تصوير العالم والتعبير عن منطقه؟ بأي لغة يتحاورون في كل مرحلة؟
الرد على هذا السؤال يُبرز مدى قصور أطروحات كوهن الأصلية، الرابطة بين الثورات في العلم والسياسة، وفي الوقت نفسه سيشير إلى الظروف التي تمكّن بعض الأنظمة السياسية من استيراد العقلانية العلمية إلى المجال العام، على عكس استيراد العقلانية السياسية إلى المجال العلمي، كما في طرح كوهن الأصلي، وذلك في سبيل تفادي أن يكون العنف هو السبيل الأساسي لتنظيم المجتمع وإبقائه تحت السيطرة.
الرد على السؤال ببساطة هو أن العلماء يربطون النظريات المختلفة، بلغاتها المغايرة ومنطقها المختلف، مباشرةً بمعطيات الواقع. على هذا الأساس يختبرون مدى نجاح كل نظرية على حدة، ليستقروا في النهاية على التصور الذي يشرح أكبر كمٍّ من المعطيات بأقل قدر من الفرضيات النظرية.
قد تبدو هذه عملية بدهية وبسيطة للغاية، لكنها تعتمد على تحقق شروط دقيقة، أعتقد أنه يمكن تلخيصها كالآتي:
الشرط «1» وجود اتفاق عام على طبيعة «معطيات الواقع» التي يجب شرحها، وعلى كيفية التحقق من صحة النتائج التجريبية المؤدية إليها.
الشرط «2» أن يستحيل على أي فريق من الجماعات المتنافسة على شرح معطيات الواقع تغيير تلك المعطيات لصالحه. (في مجال العلوم الطبيعية هذا يعني إلغاء «الغش»، لأن في غير ذلك فالمعطيات تأتي مرتبطة بآليات وقوانين الكون التي ليست لدينا سلطة تغييرها).
خصوصية طبيعة تلك الشروط، التي تفسح المجال أمام الفصل العقلاني بين التصورات المختلفة جذرياً للعالم الطبيعي، تتضح عند محاولة نقلها لعالم الإنسان.
في أعقاب الثورة العلمية، في عصر التنوير، بدأت محاولات نقل عقلانية المنهج العلمي، بما يتضمنه من آليات «الفصل السلمي» في النزاعات بين التصورات المختلفة، إلى عالم الإنسان. وربما كان ذلك واضحاً بالذات في عملية بناء النظام الأميركي، من حيث الإشارات المكثفة في كتابات ونقاشات «آباء مؤسسين»، مثل جيفرسون وماديسون وهاملتون، لفلاسفة من أمثال جون لوك ومونتسكيو. وكان الهدف، حسبما دوّنه هاملتون في أول فقرة من أول «ورقة فيدرالية» تعلّل وتشرح الدستور، هو الرد على «السؤال المهم المتعلق بما إذا كان بإمكان المجتمعات الإنسانية تشييد الحكم الرشيد، المؤسَّس على التعقل والاختيار، بدلاً من التأسيس على العشوائية والعنف».
استقرار مثل هذا النظام، كما لاحظ الفيلسوف السياسي جون رولز، يضمنه وجود توافق اجتماعي بخصوص ما هو معقول أو عقلاني، مما يتطلب مثلاً إخراج الأطروحات التي تُلوّح بامتلاك حقائق مطلقة تعتمد على غيبيات (على عكس مجرد التمسك بأخلاقيات ومبادئ عامة معبّرة عن روح العقيدة) من المجال السياسي. فوجود مثل هذه الأطروحات يجهض إمكانية تكافؤ الفرص في التنافس بين التصورات والأطروحات المختلفة فقط على أساس نجاحها في التعامل مع «معطيات الواقع»، كما في المنهج العلمي.
دون ذلك، لا يمكن أن يتبلور «التوافق العقلاني». وفي غيابه يتشرذم المجتمع إلى قبائل متصارعة، لا تتواصل عقلانياً فيما بينها لأنها لا تتعامل مع نفس العالم؛ لا تتفق على أبسط المفاهيم، بل لا تتفق حتى على حقائق «معطيات الواقع» ومعايير التحقق من صحتها.
هذا وضع عرفناه جيداً في عالمنا العربي (راجع بالذات فصل «الربيع»)، لكنه يتبلور الآن كذلك في ديمقراطيات ليبرالية عريقة مثل الولايات المتحدة. فالعشائر المتصارعة في المجال العام الأميركي باتت لا تتفق على طبيعة وهوية الدولة والمجتمع: لا تتفق على دور الدين، ولا تتفق على ما إذا كانت التعددية الثقافية والعرقية شيئاً حميداً أم مدمِّراً. بل لا تتفق حتى على أبسط حقائق الواقع، فبعضها متقوقع في عوالم فكرية بديلة من صنع سياسيين مثل دونالد ترمب ومسانديهم في الإعلام والتواصل الاجتماعي. هكذا كان يمكن لجريدة وقورة مثل «نيويورك تايمز» أن تسرد عشرات الأكاذيب لترمب خلال خطاب واحد، لكنّ مؤيديه كانوا يصدقونه في كل حال؛ لأنهم لم يبحثوا عن الحقائق التي تتوافق مع الواقع؛ إنما عن «حقيقة» تريحهم معنوياً، لأنها تدعم ترابط عصابيتهم القبائلية المبنية على معانٍ ليست قابلة للتفنيد.
هكذا يتلاشى الشرط رقم «1» من المشهد. أما محاولات تدمير الشرط «2» فتأتي عادةً لاحقاً، كما في اقتحام مناصري ترمب للكونغرس. وقد تنجح تلك المحاولات في النهاية، لأن من أهم السمات التي تفصل عالم الإنسان عن العالم الطبيعي هي أن الإنسان لديه قدرة تغيير أسس وقوانين ومنظومات عالمه عن طريق الفعل (العنيف أحياناً). في عالم الإنسان، على عكس الحال في العالم الطبيعي، يستطيع كل من لديه تصورات فكرية وسياسية عن طبيعة هذا العالم أن يتحرك ليثبت صحة نظرياته. مثلاً، إذا اعتقد قائد أو تيار سياسي ما في حتمية الصراع العنيف مع عدو داخلي أو خارجي، يمكنه التحرك لخلق مقومات هذا الصراع وجعلها واقعاً، لتصبح نبوءاته محقَّقة. لذلك، فالعقلانية في إطار عالم الإنسان تتطلب الاتفاق المسبق على أن ذلك ليس مقبولاً.
هكذا، فإن استمرار النظام العقلاني في عالم الإنسان يتطلب الاتفاق الاجتماعي المسبق على المبدئين «1» و«2» اللذين سردناهما، لأنهما لا يتحققان تلقائياً كما في مجال العلوم الطبيعية. دون ذلك يتزعزع النظام وينقطع الاستمرار.
أما واقع مداهمة هذا الخطر لنظام سياسي تعددي عريق -في جوهره محاولة دؤوبة، ومدونة في دستور دقيق، لبنائه على أسس عقلانية- فيشير إلى أن الحضارة الناتجة عن الفكر العلمي دائماً ما تظل مجرد قشرة تغطي واقعاً إنسانياً فوضوياً، قاسياً وشرساً.
هذه هي الإشكالية التي لاحظها أمثال سيغموند فرويد وإرنست كاسيرير عند انهيار العالم الألماني في النصف الأول من القرن العشرين، الذي كان ربما الأكثر تقدماً تقنياً وعلمياً وفكرياً وثقافياً عندما انحدر نحو الوحشية.
التقدم في فهم الكون لا يصاحبه تطور موازٍ في عالم الإنسان، إلا عندما تتوفر الشروط التي تتيح الاختيار العقلاني في المجال العام كما في مجال العلم. غير ذلك تكون تداعيات التطور العقلاني في العلم، لا سيما في صورها التكنولوجية المدمرة، بمثابة لعنة وليس خلاصاً.

* كاتب مصري ومدير مركز الفيزياء النظرية بالجامعة البريطانية في مصر
** أفكار وآراء كوهن الأخيرة ملخَّصة في كتاب بعنوان «The Road since Structure» صادر عن دار نشر جامعة شيكاغو سنة 2002.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟