يخت «المحروسة».. يزف قناة السويس الجديدة

أول عائمة بحرية في العالم تعبر قناة السويس عام 1869.. و«السيسي» على متنه متوجًا 150 عامًا من الإبحار

يخت «المحروسة» و يخت «المحروسة» وعليه العلم المصري الملكي و الرئيس السادات على متن «المحروسة» و من داخل قمرة القيادة الملكية و طاقم أدوات طعام من الذهب الخالص من بين المقتنيات الثمينة
يخت «المحروسة» و يخت «المحروسة» وعليه العلم المصري الملكي و الرئيس السادات على متن «المحروسة» و من داخل قمرة القيادة الملكية و طاقم أدوات طعام من الذهب الخالص من بين المقتنيات الثمينة
TT

يخت «المحروسة».. يزف قناة السويس الجديدة

يخت «المحروسة» و يخت «المحروسة» وعليه العلم المصري الملكي و الرئيس السادات على متن «المحروسة» و من داخل قمرة القيادة الملكية و طاقم أدوات طعام من الذهب الخالص من بين المقتنيات الثمينة
يخت «المحروسة» و يخت «المحروسة» وعليه العلم المصري الملكي و الرئيس السادات على متن «المحروسة» و من داخل قمرة القيادة الملكية و طاقم أدوات طعام من الذهب الخالص من بين المقتنيات الثمينة

يدشن اليوم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قناة السويس الجديدة من على متن يخت «المحروسة»؛ أفخم وأقدم يخوت العالم، الذي يمخر عباب القناة، مستعيدا مجده قبل 146 عاما بصفته أول عائمة بحرية في العالم تعبر قناة السويس عام 1869.
أبحر «المحروسة» من مرساه أمام قصر رأس التين المنيف بالإسكندرية، إلى بورسعيد، ليصل إلى البحيرات المرة، وثم إلى القناة الجديدة، حاملا تاريخا بحريا فريدا عمره نحو 150 عاما، جاب خلالها بحار ومحيطات وأنهار العالم، وكانت أول رحلة بحرية قام بها من ميناء لندن في شهر أغسطس (آب) 1865، وعانق خلالها مياه نهر التيمس البريطاني، وصولا إلى مرساه في ميناء الإسكندرية المصري.
تعود قصة بناء يخت «المحروسة» إلى عام 1863 حين أمر الخديو إسماعيل بإنشائه ليدشن به قناة السويس التي ستربط آسيا وأفريقيا وتغير تاريخ البشرية. وأسندت المهمة لشركة «سامودا» بلندن، وتم الانتهاء منه في أبريل (نيسان) عام 1865، وكان طوله 411 قدما، وعرضه 42 قدما، وحمولته 3417 طنا، وكان يسير بالبخار وبوقود الفحم بواسطة «طارات» جانبية بسرعة 16 عقدة في الساعة، وله مدخنتان، ومسلح بثمانية مدافع من طراز «آرمسترونغ» الإنجليزية العريقة.
ويعد «المحروسة» أقدم يخت في العالم؛ بل يعد قصرا ملكيا عائما، ويأتي في المرتبة الثانية بوصفه أكبر يخوت العالم، بعد اليخت الخاص بالشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الذي يبلغ طوله 525 قدما. ويستحق يخت «المحروسة» أن يدخل موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية نظرا لأنه قطعة بحرية نادرة الوجود والفخامة وتحتفظ بتاريخ فريد من عظماء كانوا على متنه على مدى قرن ونصف من الزمان.
ففي عام 1867 استخدم اليخت في نقل الحملة المصرية المرسلة لإخماد الثورة بكريت، كما سافر على متنه الخديو إسماعيل عام 1868 لحضور المعرض الدولي المقام بباريس، وكان رفيقه أيضا عام 1869 لميناء مرسيليا بفرنسا لدعوة ملوك وأمراء أوروبا لحضور حفل افتتاح قناة السويس.
وقبيل الافتتاح الرسمي للقناة، أهدت الإمبراطورة أوجيني «بيانو» أثريا للخديو إسماعيل، كان قد صنع خصيصا للإمبراطورة في «شتوتغارت» بألمانيا عام 1867، وعزفت عليه بنفسها على ظهر اليخت، وما زال موجودا حتى الآن بحالته الأصلية نفسها. وفي احتفالات افتتاح القناة، حمل على متنه الملوك والأمراء، ومنهم: الإمبراطورة أوجيني إمبراطورة فرنسا وزوجة نابليون الثالث، وأمير وأميرة هولندا، وإمبراطور النمسا فرنسوا جوزيف، وولي عهد ألمانيا الأمير فريدريك.
يعد «المحروسة» أحد القصور الملكية العائمة، بما يحتويه من نقوش وزخارف ولوحات زيتية لأشهر الرسامين العالميين، فقد سجلت على جدرانه حضارات مصر عبر العصور المختلفة؛ سواء الفرعونية، أو اليونانية الرومانية، أو العربية الإسلامية، كما يحتوي على مشغولات فضية وكريستالات وليموج (خزفيات) وصيني وسجاد يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر. ويتكون «المحروسة» من خمسة طوابق؛ يضم الطابق السفلي الماكينات والغلايات وخزانات الوقود، بينما يضم الطابق الرئيسي غرف الجلوس، والمطابخ، والمخازن، والجناح الشتوي، والقاعة الفرعونية، إضافة إلى جناح الأمراء والأميرات. أما الطابق العلوي الأول فيحتوي على المقدمة، والمخطاف، والأوناش، وصالة الطعام وصالة التدخين، ويضم الطابق العلوي الثاني سطح المدفعية، والحديقتين الشتوية والصيفية، والجناح الصيفي، والصالة الزرقاء، فيما يضم الطابق العلوي الثالث الممشى والعائمات، ويضم اليخت أربعة مصاعد؛ منها المصعد الخاص بالجناح الخصوصي، كما يوجد «جراج» خاص لسيارة الملك.
وعلى الرغم من مرور ما يقرب من قرن ونصف من الزمان على تدشين «المحروسة»، فإنه يحتفظ بقدرته على الإبحار، ومؤخرا، قامت القوات البحرية المصرية، بتجهيزات وترميمات على أعلى مستوى للتأكد من جاهزية اليخت الملكي «المحروسة»، وتم تعليق الصور التاريخية الملكية وفرش المفروشات الحريرية للأسرة، بالإضافة إلى وضع أثمن أنواع السجاد على الأرضيات، وكذلك وضع المقتنيات والتحف الثمينة في أماكنها، بعد الانتهاء من إجراء «العمرة»، وترميمات الجناح الملكي «خصوصي الملك»، وكذلك تلميع الأرضيات الخشبية «الباركيه»، وتركيب أحدث المحركات وماكينات التشغيل بكل أرجاء اليخت.
ولم تكن التعديلات الأخيرة التي خضع لها من قبل البحرية المصرية هي الأولى؛ فقد أدخلت عليه تعديلات كثيرة غيرت من معالمه؛ أبرزها في عام 1872 عندما أرسل إلى لندن لزيادة طوله 40 قدما، وبعدها أقلّ الخديو إسماعيل بعد عزله عن العرش عام 1879 إلى نابولي في إيطاليا.
وفي عام 1894 تم تغيير الغلايات بورشة «حسبو بك» بالإسكندرية، وفي عام 1905 تم تعديل الشكل الخارجي وتطوير وسائل الدفع بترسانة إنجلترا، وزود بأحدث توربينات بخارية في العالم. كما تم تزويده بالتلغراف عام 1912. وفي عام 1919 عاد اليخت إلى إنجلترا لدخول الحوض بميناء «بورت ثموث» لتغيير وقود الفحم إلى مازوت، وتمت إطالة اليخت 27 قدما من المؤخرة، وفي عام 1949 تم تطوير وتعديل اليخت بالترسانة البحرية في جنوه بإيطاليا ليصبح عام 1952 من أحدث اليخوت.
يعد «المحروسة» بطل الأحداث التاريخية، فقد كان شاهدا على أفراح وآلام وأمجاد مصرية وعالمية. ومن بين الأحداث المهمة التي كان «المحروسة» حاضرا فيها، إبحاره من الإسكندرية إلى بورسعيد للاحتفال بإزاحة الستار عن تمثال ديليسبس عام 1899، وفي عام 1914 أقل اليخت الخديو عباس حلمي الثاني إلى منفاه بالأستانة في تركيا، كما حمل شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي وهو في طريقه لعقد قرانه على الأميرة فوزية شقيقة الملك الراحل فاروق عام 1939.
أما أبرز الأحداث التي سجلتها ذاكرة «المحروسة»، فكانت لحظة رحيل الملك فاروق عن مصر إلى إيطاليا في 26 يوليو (تموز) عام 1952، بعد تنازله عن حكم مصر لابنه الأمير أحمد فؤاد الثاني، مصطحبا بناته الأميرات معه. وفور عودة اليخت إلى مصر تم تغيير اسمه ليصبح «الحرية»؛ حيث شارك في عهد الرئيس جمال عبد الناصر عام 1956 في كثير من الرحلات البحرية التاريخية.
كما سافر على ظهره الرئيسان خروشوف وتيتو، وشارك في مؤتمرات باندونغ وبريوني والدار البيضاء واللاذقية لـ«دول عدم الانحياز»، في الفترة من 8 وحتى 14 فبراير (شباط) عام 1962. أبحر اليخت مقلاً الرئيس جمال عبد الناصر وبصحبته المرشال تيتو رئيس جمهورية يوغوسلافيا في رحلة بحرية بالبحر الأحمر. كما شارك اليخت في المناورة البحرية عام 1974 وعلى متنه العاهل السعودي الراحل الملك فيصل، وصعد على متنه أيضا الملك خالد والملك حسين والسلطان قابوس.
وافتتح الرئيس السادات به قناة السويس للمرة الثانية في 5 يونيه 1975، بعد إغلاقها فترة الحرب، ومن أشهر الرحلات التي قام بها السادات على متن «المحروسة»؛ رحلته إلى يافا لتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل. وفي عام 1976 أبحر اليخت مسافة 12700 ميل بحري إلى الولايات المتحدة الأميركية للاحتفال بالعيد رقم «200» لاستقلال أميركا.
قطع اليخت خلال تاريخه البحري مسافة تقارب نصف مليون ميل بحري، سواء في المياه الإقليمية أو البحار والمحيطات المختلفة، وتوالى على قيادته حتى الآن 40 قائدا بحريا؛ أولهم الأميرالاي فريدريك بك، وتلاه عدد من أمراء البحار والضباط البحريين المصريين.
وظل يخت «المحروسة» في عهد الرئيس الأسبق مبارك مقصورا على تدريبات القوات البحرية المصرية، ولكن تلك الأحداث وهذا التاريخ العريق أثار فضول كثير من المصريين لطلب زيارته في الأعوام التي سبقت ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، فكانت القوات البحرية المصرية تسمح بصعود الزوار على متنه في مرساه أمام قصر رأس التين بالإسكندرية، بعد أخذ التصريحات اللازمة، فيستطيع الزائر أن يتجول على متنه ويستمع لشرح كامل عن تاريخه ويدخل حجراته وصالوناته ليعايش حكايات الملوك والرؤساء على متنه.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)