«خانق بوسطن» يطلق صوت السيدات المخنوق

أثبتت حكايات القتلة المتسلسلين جاذبيتها بوصفها مادة تلفزيونية، أخيراً، فشكّلت قصصٌ مستوحاة من سيرة جيفري دامر أو تيد بوندي محتوى دسماً على منصة «نتفليكس». وقد فتح الأمر شهية باقي المنصات على إنتاج أعمال مماثلة؛ أحدث التجارب قدّمتها منصة «هولو» الأميركية، إنما هذه المرة على شكل فيلم وليس مسلسلاً أو وثائقياً.

يعود فيلم «خانق بوسطن (Boston Strangler)» إلى عام 1962، تحديداً إلى سلسلة الجرائم الغامضة التي ضربت الولاية الأميركية آنذاك، مستهدفةً سيدات يُقمن بمفردهنّ. هو ليس العمل المصوّر الأول الذي يتطرق إلى تلك الواقعة التاريخية، لكن ما يميز الفيلم الصادر حديثاً من كتابة مات راسكن وإخراجه، هو معالجة القضية من خلال عيون الصحافيتين اللتَين تابعتا القضية. يشكّل فيلم «خانق بوسطن» تحيةً لمراسلتَي صحيفة «بوسطن ريكورد أميركان»، لوريتا ماكلولين وجين كول ولشجاعتهما الاستثنائية في استقصاء الجرائم وخلفيتها، خلال حقبة لم تكن الساحة فيها مفتوحة أمام الصحافيات الاستقصائيات الإناث.

«هنّ مجرّد نكِرات»، بهذه الجملة واجهَ رئيس التحرير الصحافية ماكلولين عندما طلبت منه متابعة قضية 4 سيدات قُتلن خنقاً في ظروف غامضة. تطلّب الأمر عناداً من قِبَل ماكلولين التي تؤدي دورها ببراعة الممثلة كايرا نايتلي، وازدياداً في عدد الجرائم، حتى ترضخ رئاسة التحرير للأمر.

بالتعاون مع زميلتها في الصحيفة، جين كول التي تؤدي دورها الممثلة كاري كون، تغوص ماكلولين في الملف. وسط الليالي الحالكة، تترك بيتها وزوجها وولدَيها ما إن تتلقّى اتصالاً يبلغها بوقوع جريمة جديدة. بين صيف 1962 وشتاء 1964، حصلت 13 جريمة في محيط بوسطن راحت ضحيتها سيدات تتراوح أعمارهن بين 19 و85 عاماً. القاسم المشترك بينهن أنهن فتحن أبواب بيوتهن طوعاً للقاتل، وأنهن وُجدن مخنوقات وقد رُبط حول أعناق معظمهن جورب حريريّ.

يفتقر الفيلم إلى الإثارة وإلى عناصر الرعب والتشويق التي ترافق عادةً هذا النوع من الإنتاجات الدرامية. يتجنب المخرج الدخول إلى مسرح الجريمة وتوثيق اللحظات التي تجمع القاتل بالضحية، فيكتفي بالإيحاءات وباللقطات السريعة. يُبقي التركيز على يوميات الصحافيتَين، فيحرم المشاهدين من القشعريرة الضرورية والمتوقعة من حكايات كهذه.

يتّضح مع مرور دقائق الفيلم أن الهدف الذي أراد فريق العمل تحقيقه من خلاله، هو استرجاع مسيرتي ماكلولين وكول، الصحافيتَين الرائدتَين في مجالهما، اللتَين صارعتا أمواجاً عاتية من الذكورية. تقف الصحافيتان وسط غرفة تحرير يتحكم بها رجال، وتحققان في قضية يتقاعس رجال الشرطة عن أداء واجبهم فيها. من بين الذكور، وحدَه زوج ماكلولين يبدو داعماً لها، إلا أن هذا التفهّم يتناقص تدريجياً بسبب تكريسها وقتها كله للقضية، ما يأتي على حساب البيت والعلاقة الزوجية والأطفال.

تلاحق الصحافيتان خيوط الجرائم المتشابكة، تلاصقان المحققين والشرطيين في بيوت الضحايا، تُطلقان على القاتل لقبَه التاريخي «خانق بوسطن». لكن المجرم يبقى مجهول الهوية ومموّه الوجه. يصل الخطر إليهما فتتلقى لوريتا اتصالات هاتفية صامتة، ويقف شخص مجهول تحت نافذتها واضعاً جورباً حريرياً في بريدها.

على الرغم من التهديدات والمخاطر، فإن لوريتا وجين لا تتراجعان عن المهمة. تسيران على خطٍ موازٍ مع الجرائم، وفي مقابل الرسائل المفخخة تصلُهما مئات رسائل الاستغاثة من قارئاتهما الخائفات على حيواتهن من القاتل المتخفّي في شوارع بوسطن. يبلغ التضامن النسائي ذروته في هذا الفيلم الذي يصوّر علاقة مثالية بين زميلتَين، لا يقف التنافس المهني عائقاً بينهما، ولا تخنق صوتَيهما السطوة الذكورية.

لولا تحليلاتهما المهنية، ومثابرتهما في المتابعة، وعناوينهما الجريئة، لغرقت القضية في الإهمال الذي أرادته لها السلطات الأمنية غير الكفؤة بالتنسيق مع رجال الصحافة المتواطئين. ربما لم تنقذ الصحافيتان 13 امرأة من يدَي القاتل، إلا أن جهودهما ومواجهتهما لمحاولات الإسكات وضعت حداً لأفعاله ولمزيد من الجرائم التي كان من الممكن أن تُرتكب.

لا تنقذ واقعية السَرد واحتراف الممثلتين الفيلم من البطء والملل، لا سيّما في نصفه الثاني، هذا إضافةً إلى بعض الضياع الذي قد ينتاب المشاهد خلال متابعته سياق الأحداث. فسلسلة الجرائم بحدّ ذاتها معقّدة، وحتى إلقاء القبض على المتهم الأساسي ألبيرت دي سالفو لا يشفي غليل لوريتا التي لا تقتنع بنظرية «القاتل الأوحد».


ألبرت دي سالفو موقوفاً عام 1967 (أ ب)
لا يزال لغز «قاتل بوسطن» غامضاً حتى اليوم. فبعد 60 عاماً على وقوعها، لم يُعرَف ما إذا كان قاتل واحد أو مجموعة من القتَلة يقفون خلف الجرائم الـ13. اتُّهم دي سالفو بارتكاب واحدة منها، بينما وُجهت بعض أصابع الاتهام إلى مشتبه فيه آخر هو جورج نصار المسجون حتى اليوم في ولاية ماساتشوستس لارتكابه جرائم قتل أخرى. وحسب الوقائع التي يرويها الفيلم، فإن نصار درّب دي سالفو على الاعتراف بتنفيذه الجرائم كلها، في مقابل أن يتكفّل بمصاريف عائلته.

في وقت أشار فيه بعض التحقيقات إلى أن جرائم خنق السيدات هي حتماً من تنفيذ مجموعة من الأشخاص وليست من تنفيذ قاتل واحد، ما زالت علامات استفهام كثيرة تحيط بقضية «خانق بوسطن». ولعل ذلك الغموض هو الذي يجذب حتى اللحظة شركات الإنتاج ومنصات البث إلى الاستثمار في القصة وإعادة إحيائها.