يبدو فاكلاف سمل Vaclav Smil مصداقاً لعبارة (وُلِد ليعمل Born to Work)، إنه قاطرة عمل بشرية حقيقية وأحد كبار المفكّرين في هذا العالم، ولديه القدرة على التفكير بالمشخّصات المادية والأفكار الموغِلة في التجريدية. لا تكاد تمرّ سنة أو سنتان - في أقصى الحالات - إلا ونشهد له كتاباً جديداً يحقق أعلى أرقام المبيعات، رغم صعوبة مادته وطبيعتها التي تتطلب ذهناً بحثياً مدققاً لا يرتاح للقراءات السياحية العابرة. تمتاز كتب سمل بخصيصتين مميزتين: الموسوعية، والعمل على حقول معرفية متعددة. مهارة سمل الاستثنائية تكمن في كيفية ربط هذه الحقول المعرفية بطريقة مدهشة حقاً.
فاكلاف (ويسمى فاتسلاف بالتشيكية) سمل، المولود في تشيكوسلوفاكيا (السابقة) عام 1943، هو أستاذ مميز Emeritus للجغرافيا البشرية ومحلل السياسات الحكومية في قسم البيئة بجامعة مانيتوبا الكندية. تضم قائمة موضوعاته البحثية موضوعات الطاقة والبيئة والغذاء والسكان والدراسات الاقتصادية والتاريخية، ومبحث السياسات العامة.
بدأ سمِل النشر عام 1976 بكتاب عن سياسات الطاقة في الصين، ثم مضى منذ ذلك الحين في النشر المنتظم، حتى تعدّت كتبه المنشورة الخمسين كتاباً، منها كتابه الأحدث المنشور، هذا العام 2023، وهو بعنوان «الاختراع والابتكار Invention and Innovation». أودّ الإشارة بالتخصيص إلى 3 كتب لفاكلاف من بين عشرات كتبه:
- تحوّلات عظمى: كيف صُنع العالم الحديث
Grand Transitions: How the Modern World Was Made
نشرته جامعة أكسفورد عام 2021.
- النمو: من العضويات الدقيقة إلى المدن العملاقة
Growth: From Microorganisms to Megacities
نشرته مطبعة MIT عام 2019.
- الطاقة والحضارة: تاريخ
Energy and Civilization: A History
نشرته مطبعة MIT عام 2017، وهو الكتاب الوحيد الذي ترجم لـ«سمل» إلى العربية ضمن سلسلة مشروع «كلمة».
لكنّ الكتاب الذي سأقدّم مراجعة مقتضبة له هو كتاب سمل المنشور عام 2022 بعنوان «كيف يعمل العالَم حقاً؟ دليل عالِمٍ إلى ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا
How the World Really Works: A Scientist›s Guide to Our Past, Present and Future
الذي نشرته دار نشر بنغوين.
يضمّ الكتاب مقدمة بعنوان (لماذا نحتاج إلى هذا الكتاب؟)، يعقبها 7 فصول يسعى المؤلف في كل منها لفهم جانب من العالم، وهي، على الترتيب: فهمُ الطاقة، فهم إنتاج الغذاء، فهم عالمنا المادي، فهم العولمة، فهم المخاطر الوجودية، فهم البيئة، فهم المستقبل. ولمّا كان سمل مولعاً بالأرقام والبيانات فلن ينسى أن يضمّن كتابه ملحقاً عنوانه (فهم الأرقام). يختتم سمل كتابه بقائمة مكثفة من المصادر والملاحظات يمكن للقارئ أن يتلمّس فيها تخوم العقل الموسوعي الذي يمثله سمل.
لماذا يتوجّب على كل منّا أن يفهم شيئاً عن الكيفية التي يعمل بها العالم المعاصر؟ ثمة أسباب عديدة يقدمها سمل لذلك:
- العقود الثلاثة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في مستويات المعيشة بصورة غير مسبوقة. صحيحٌ أن هذا التقدم المطّرد في مستويات المعيشة تنقصه العدالة والمساواة، لكن لا يمكن نكران أن أغلبية سكّان العالم نالت شيئاً من هذا التقدم. لنتذكّر مثلاً الإنتاج الوفير للمحاصيل الغذائية الاستراتيجية (قمح، ذرة)، وكذلك منتجات الحيوان (لحوم، ألبان)، وسواها. لا يمكن أن ننسى اللقاحات التي جعلت الوباءات العالمية القاتلة شيئاً من الماضي. إن الانتفاع الأقصى من هذه الخدمات لا بدّ أن يقترن بفهم أساسيات صناعة هذه الخدمات وتأثيرها في تشكيل السياسات العالمية. الفرد الذي يمتلك فهماً مقبولاً لهذه الأساسيات هو وحده القادر على تعظيمها وإدامتها وعدم التفريط بها جهلاً أو حماقة أو سوء بصيرة.
- التوسّع غير المسبوق في فهمنا لكلّ من العالم المادي وكلّ أشكال الحياة الأخرى. يكتب سمل بهذا الشأن في مقدمة كتابه:
«باتت معرفتنا تتوسّع من التعميمات العامة الكبرى الخاصة بالنظم المعقّدة على المستوى الكوني نحو النظم الممعنة في الصغر (المستوى الذري وما دون الذري). الدوائر الإلكترونية المطبوعة على سطح أحد أكثر المعالجات الدقيقة قوةً، لها أبعاد لا تتجاوز ضِعفي قُطر جزئية الـDNA البشري».
يريد سمل القول إن هذه التطورات الدقيقة التي تقوم عليها حضارتنا البشرية المعاصرة تتطلب فهماً لأساسياتها التقنية من جانب كل فرد.
لكن لا بدّ منذ البدء أن نتساءل - كما فعل سمل في مقدّمته: لماذا يمتلك معظم الناس، وفي كل أرجاء العالم، معرفة سطحية هشة بأساسيات عمل العالم؟ ألأنّهم لا يفكرون؟ كلنا مفكّرون، لماذا؟ لأن تلك واحدة من الشروط اللازمة لإدامة الوجود البشري في شكليه البيولوجي والمعرفي. هذا ما قادت إليه سلسلة تطوّرية طويلة. الدماغ البشري يعمل من أول لحظة الوجود، وحتى آخِر مراحل الانطفاء؛ ولأجل هذا لا يُعدّ الشخص ميّتاً إلا إذا تحققت شروط (الموت الدماغي). الطفل سيعمل على ترسيخ وجوده البيولوجي بكل الوسائل، ثمّ كلما تقدم الإنسان في العمر تبدأ الانشغالات المعرفية تزيد مساحة وتأثيراً في حياة الإنسان. القانون الأساس في ذلك هو أن التفكير يكون أشبه بعملية ميكانيكية (مثل عملية التخاطب باللغة الأم قبل الذهاب إلى المدرسة)، ثمّ كلما تقدّم الإنسان في العمر، ازدادت معه إمكانية اقتران التفكير الميكانيكي بالتفكير الخلاق (أو الإبداعي)، علام يعتمد هذا الأمر؟ يعتمد بالطبع على طبيعة الشخص وبصماته العقلية والنفسية، ومستوى خبراته. ثمة ملمحٌ آخر لهذا النسق التطوّري: العقل الخلاق (الإبداعي) ينفرد بخصيصة قدرته على نقل حدود تفكيره من الملموس المرئي إلى التخوم التجريدية، وهذه واحدة من أثمن الخصائص البشرية، وهي القوة الدافعة لكل محرّكات تقدمنا العلمي والتقني.
إنّ ما يحاول سمل فعله في سلسلة كتبه هو زحزحة عقل المرء ودفعه لنقل مستوى تفكيره من المستويات العابرة إلى الآفاق العليا التي قد تبدو غير منظورة أو غير ملموسة لكثيرين.
بيل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت وأحد أقطاب صانعي العالم الرقمي الحديث، هو أحد أكبر المعجبين بفاكلاف سمل وعقله الموسوعي. كتب غيتس، في مدوّنته الإلكترونية، أن كل كتاب ينشره سمل هو مصدر إلهام شخصي له. لا يكتفي غيتس بالإطراء، بل نراه يكتب مراجعة دقيقة للكتاب. استضاف غيتس مرة سمل، وظهر اللقاء في موقع غيتس على الشبكة العالمية: جلسة بسيطة على مائدة صغيرة. غيتس يخاطب سمل: أهلاً صديقي فاكلاف، ويجيبه سمل: أهلاً بك بيل، ثم يواصلان الحوار بشغف ومتعة.
قراءة أي كتاب لفاكلاف سمل تمثل تطويراً وإعداداً للعقل الذي يسعى لفهم أساسيات عمل عالمنا. الفهم هو الخطوة الأولى الضرورية للمساهمة في الارتقاء بهذا العالم وعدم الركون في زاوية النسيان واللامبالاة وخذلان الإرادة الفردية والجمعية.