القاهرة مدينة الألف وجه

من «منف» إلى العاصمة الإدارية

القاهرة... مجسم لجانب من العاصمة الإدارية
القاهرة... مجسم لجانب من العاصمة الإدارية
TT

القاهرة مدينة الألف وجه

القاهرة... مجسم لجانب من العاصمة الإدارية
القاهرة... مجسم لجانب من العاصمة الإدارية

«القاهرة وعمرانها... تواريخ وحكام وأماكن» كتاب جديد للدكتور نزار الصيَّاد، صدر مؤخراً عن دار «العين» بالقاهرة متزامناً مع كتاب آخر للمؤلف، صدر عن دار «المرايا»، بعنوان «المدينة الأصولية»، عبارة عن تحرير وتقديم لأبحاث مؤتمر نظَّمه عن ممارسات التدين والتطرف وآثارها على العمران. وقد سبق للصياد أن نشر 20 كتاباً بالإنجليزية؛ حيث يعمل أستاذاً للعمارة والتخطيط والتأريخ العمراني بجامعة كاليفورنيا – بيركلي، التي رأس مركزها لدراسات الشرق الأوسط لمدة 20 عاماً.
كتاب «القاهرة وعمرانها» يبدو مرجعاً جامعاً عن المدينة، كتبه المؤلف بالعربية فيما يشبه التحرير الجديد لـ4 من كتبه بالإنجليزية عن المدينة. كتب الأول منها بينما لم يكن عمره يتجاوز 25 عاماً، كدراسة أكاديمية عن الشكل العمراني للقاهرة الإسلامية، نشرها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بكامبردج عام 1981، وهو غير مترجم إلى العربية، بينما الثلاثة الأخرى مترجمة.

ويستند في الكتاب الجديد إلى المصادر الأصلية من «الخطط» والسير التاريخية، مروراً بتواريخ المقريزي وابن إياس والجبرتي، وكتب الرحالة المسلمين والأجانب، حتى الروايات المعاصرة، مثل ثلاثية نجيب محفوظ، ورواية خيري شلبي «رحلات الطُّرشجي الحلوجي»، مستنداً إلى عدة مناهج تاريخية، حيث يصعب تماماً أن يكون هناك منهج لا يدخله الانحياز الآيديولوجي، فكل كتابة تاريخية عن زمن مضى تحب أن تؤكد على عناصر في زمنها وتنحاز إليها.
الكتاب محاولة شديدة الطموح للإحاطة بمدينة متعددة في طبقاتها التاريخية وشاسعة المساحة، حيث يضم حيزها العمراني عاصمتين فرعونيتين: «منف» جهة الجنوب في منطقة الهرم، و«أون» في الشرق (هليوبوليس باليونانية)، الاسم الذي لم يزل متداولاً، للإشارة إلى جزء من حي مصر الجديدة شرق القاهرة.
وتمتد العصور الإسلامية للمدينة وتتنوع وظائفها، التي تأتي في مقدمتها غالباً وظيفتها كمعسكر، من فسطاط عمرو بن العاص إلى قطائع أحمد بن طولون، ثم بوصفها قصراً لخليفة الفاطميين، ثم بوصفها قلعة للأيوبيين إلى حقبتين مملوكيتين، ثم بوصفها إقليماً في الدولة العثمانية، ثم مدينة تقاوم الحملة الفرنسية، ثم القاهرة الأوروبية التي بناها الخديوي إسماعيل، وما تبع ذلك من تحديث بداية القرن العشرين، ثم عاصمة الجمهورية الاشتراكية، فجمهورية الانفتاح، ثم أخيراً العاصمة الإدارية الجديدة!
القاهرة الحالية هي كل تلك المدن وأكثر في امتداد عمراني واحد لمدينة مترامية الأطراف، بحيث يتعين على من يريد الذهاب من شرقها إلى غربها أو من شمالها إلى جنوبها أن يقطع نحو 150 كيلومتراً من العمران المتصل.
وفي ظل الضخامة والتعقيد اللذين ينطوي عليهما تاريخ وجغرافيا القاهرة، يصعب على مؤرخ، رحَّالة، أو سائح أن يحيط بها، وكل من زارها يعود بوجه أو وجهين من وجوهها، الوجه الذي صادفه أو تمكن من رؤيته، أو ما أرادت القاهرة أن تكشفه له. في هذا الإطار، يذكر الصيَّاد على سبيل المثال أن الخديوي إسماعيل كان يسابق الزمن للانتهاء من عاصمته الأوروبية، المنقولة عن قلب باريس، بينما وصل الضيوف بشغف لرؤية عمران القرون الوسطى (القاهرة الإسلامية) محملين بخيال «ألف ليلة وليلة».
وقد شهدت القاهرة الإسلامية في العقدين الماضيين تطويراً يعتبره الصيَّاد تغييراً لوظائفها الحقيقية لتصبح فضاءً للسياحة، لا للحرفيين كما كانت، فصارت التسميات المرتبطة بالحرف، مثل «النحاسين»، مجرد تسميات تسبح في فضاء قصبة القاهرة القديمة، المعروفة بـ«شارع المعز».
في بعض الأحيان، تضطر المدن للخضوع لصورتها المتخيلة، فتتقمصها ويصبح الأصل تابعاً للصورة. يروي الصياد واقعة تاريخية طريفة، حيث تم تمثيل القاهرة في معرض إكسبو شيكاغو عام 1893. وقام المهندس المعماري ماكس هرتز بتصميم الجناح المصري في المعرض، ليكون صورة طبق الأصل من منطقة سبيل وكُتَّاب عبد الرحمن كتخدا وبعض المساجد والبيوت حوله. وعند ترميم الأصل المتهالك بعد ما يزيد على 70 عاماً تمت الاستعانة بالنسخة المقلدة لترميم السبيل الأصلي.
كما يروي المؤلف واقعة كان هو نفسه شاهداً عليها، عندما نظَّم مؤتمراً في القاهرة يناقش ظاهرة اختلاق التراث، وخلال زيارة ضيوف المؤتمر لهضبة الهرم، وقف أستاذ أميركي يطل على أبي الهول مندهشاً ويتمتم بخيبة أمل: «ما هذا؟ أبو الهول صغير جداً، إنه صغير جداً». الرجل يعمل أستاذاً في جامعة نيفادا، يرى كل يوم فندق «لوكسور» الذي يتمثل اسم مدينة الأقصر، على شكل هرم بالحجم الطبيعي لهرم منقرع، ومدخله مصمم على هيئة أبو الهول، بضعف حجم التمثال الأصلي، وقد شعر الزائر بالإحباط عندما رأى أن الأصل أصغر من الصورة المحفوظة في خياله.
ربط الصياد الحقب التاريخية بحكامها، حيث لا يمكن برأيه النظر إلى حقبة معمارية دون معرفة شكل الحكم فيها ورأي الشعب في ذلك الحكم واستجاباته له. لكن العمارة المصرية القديمة لم تمت بشكل مفاجئ ذات لحظة، وإنما جرت عليها تحولات تلبي احتياجات الغالب، منذ أن قام الإسكندر بغزوها في 332 - 331 قبل الميلاد، وقد تبع ذلك الغزو 3 قرون من حكم البطالمة، ثم الحكم الروماني، ثم الحكم الإسلامي، بعد أن أنهى عمرو بن العاص الحكم البيزنطي المضطرب عام 641م وأسس الفسطاط على الشاطئ الشرقي للنيل بعد التغلب على حصن بابليون في الموقع ذاته.
ومع الخلافة العباسية، صار مركز الثقل في بغداد، وغربت شمس الفسطاط، وأسس الحاكم العباسي «العسكر» إلى الشمال الشرقي منها. ومع ظهور نفوذ الجنود ذوي الأصول التركية، برز أحمد بن طولون ونقل المركز من الفسطاط والعسكر، فأقام ما سماه «القطائع» ويعني بالعربية العنابر أو الأحياء، وقد شيدها على غرار مدينة سامراء العراقية التي أثرت على ذوقه في العمارة.
لا ينافس مسجد أحمد بن طولون في القاهرة من حيث الحجم سوى مسجد الحاكم بأمر الله الفاطمي، وقد كانت المرحلة الفاطمية من أزهى المراحل في تاريخ القاهرة، منذ أن دخلها جوهر الصقلي أو الصقلبي قائداً لحملة الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، حيث أوقع الهزيمة بالإخشيديين عام 969م، ثم بحث عن موقع لإقامة ثكنة لقواته، لأنه كان يحمل أفكاراً لتأسيس عاصمة جديدة طبقاً لتصورات الحاكم بأمر الله عن كرسي ينافس كرسي الخليفة في بغداد. واختار الصقلي لذلك قطعة الأرض شرق الفسطاط والقطائع، فكأن العواصم الإسلامية صارت سلسلة تتجه شرقاً.
وبعد 4 سنوات وصل المعز وسكن القاهرة وأعلنها عاصمة لخلافته، وقام رحالة إيطالي بعد ذلك بتحريف الاسم إلى «الكايرو» وهو الاسم الذي استقر في اللغات الأجنبية!
كل مرحلة تاريخية كانت تأذن بأفول موقع وإشراق آخر، ولم يكن مرور الجند على القاهرة هو المؤثر الوحيد في تخطيطها وعمارتها، بل ساهمت الأوبئة كالطاعون والكوليرا في تشكيلها. وهكذا مضت أزمنة المدينة، شهد بعضها تشييد الصروح الضخمة، والبعض اكتفى برموز بسيطة، وبعض العصور تركت ندوباً عميقة على جسدها.
يختتم نزار الصياد الكتاب الذي يقع في 416 صفحة من القطع المتوسط بفصل «خواطر عن قاهرة المستقبل... بين العاصمة الجديدة والجمهورية الجديدة». ويبرر الكاتب السرعة التي مر بها على مشروع مثير للجدل بأن التأريخ العمراني عمل يتم بعد انقضاء الحقبة، لا في أثنائها.


مقالات ذات صلة

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

كتب غلاف كتاب «العراق دراسات في المتغيرات السكانية»

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

شهد المجتمع العراقي تحولات عميقة في بنيته الديموغرافية، ارتباطاً بما شهده البلد من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحروب.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب شللي

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر

لطفية الدليمي
كتب «سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر والطرق الحديدية» للكاتب محمد أمين حسونة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق مجموعة من الكتب القديمة (أرشيفية - رويترز)

خبراء الكيمياء يحذّرون: الكتب العتيقة تحتوي على صبغات سامة

أطلقت الجمعية الكيميائية الأميركية تحذيراً بشأن المخاطر الصحية المحتملة التي قد تنطوي عليها الكتب القديمة، خصوصاً تلك التي تعود إلى العصر الفيكتوري.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» بلندن ديوان شعريّ باللغة الكردية يحمل عنوان «Toza Rojên Berê» للشاعر السوريّ حسين درويش، وهو من ترجمة الشاعر والمترجم ياسين حسين.

«الشرق الأوسط» (لندن)

في البدء كان الزمان

غريمي فوربس
غريمي فوربس
TT

في البدء كان الزمان

غريمي فوربس
غريمي فوربس

لم أزل أذكر الضجة الكبرى التي رافقت نشر كتاب «موجز تاريخ الزمان» للفيزيائي الراحل ستيفن هوكنغ عام 1987. مثّل هذا الكتاب حينها انعطافة محسوسة وعملية في تاريخ النشر العلمي على النطاق الشعبي الواسع؛ إذ فضلاً عن شخصية كاتبه ذي العقل الحر والجسد المقيّد بعجلات أربع فإنّ طبيعة المادة المعروضة فيه كانت مثالاً متوازناً للمقدرة على المواءمة العملية بين متطلبات الكتابة الفيزيائية الصارمة وشروط المقروئية الواسعة. كانت «دار المأمون» العراقية المختصة بالترجمة أوّل دار نشر عربية سارعت في ترجمة هذا العمل بعد قرابة السنتين من نشره؛ فقد صدر أوائل عام 1990 أو ربما أواخر عام 1989، ولم يكن مترجمه (باسل محمد الحديثي) فيزيائياً بل كان مختصاً بالهندسة الكهربائية وهندسة الحاسوب والسيطرة والنظم الهندسية. الدهشة الفلسفية والمساءلة الفكرية للأسئلة الكبرى في الكون ليست حصرية على فئة دون أخرى من المهنيين أو العامة.

غلاف «فلسفة الزمان»

قرأتُ الكتاب حينها بشغف، وكان كتاباً رائعاً بكلّ الاعتبارات، لكنّ ما يلفت النظر أنّ هوكنغ بدا وكأنّه آلة احتسابية لا تستطيبُ أيّ ميل فلسفي، هذا إذا لم نَقُل إنّه يرى الفلسفة اشتغالاً غير منتج. قد يستطيع فيزيائي أن يتملّص أو يناور على المداخلات الفلسفية الضرورية عندما يتناول مادة تقنية خالصة، لكن كيف له ذلك وهو يتناولُ مفهوماً غارقاً في لجج التفكّر الفلسفي العميق: الزمن Time الذي يحسبه فيزيائيو عالمنا المعاصر أسبقية على كلّ ما سواه من مكان أو مادة أو حركة. كلّ مفهوم أو فكرة أو موجود مادي إنما هو مقترن اقتراناً شرطياً بالزمان ودالة له. نحن في النهاية مخلوقات الزمان وغارقون فيه. لم أستطِب هذه النكهة العدائية لهوكنغ تجاه الفلسفة، ثم أفصح الرجل لاحقاً عن موقفه الكاره للفلسفة باعتبارها غير كفؤة في تناول الموضوعات مثلما يفعل العلم. هذا رأي هوكنغ بالتأكيد، وثمة كثيرون من أعاظم الفيزيائيين يخالفونه الرأي، مثلما أنّ هناك قلّة يعاضدونه، ومنهم ريتشارد فاينمان، الذي كتب، في كتابه السيري المترجم إلى العربية «أنت تمزح بالتأكيد سيد فاينمان»، أنّ أسوأ يوم في حياته هو ذلك اليوم الذي صارحه فيه ابنه برغبته في دراسة الفلسفة.

الزمان في سياق الفلسفة العلمية

لم يكن كتاب «موجز تاريخ الزمان» أوّل عهدٍ لي بالفلسفة العلمية أو فلسفة الفيزياء (وفلسفة الزمان والمكان على وجه التخصيص). سبق لي في سبعينات القرن العشرين أن قرأتُ كتاب «نشأة الفلسفة العلمية» لفيلسوف العلم الألماني هانز رايشنباخ، الذي ترجمه الفيلسوف الراحل فؤاد زكريا. لطالما أعجبتُ كثيراً بترجمات وأعمال الدكتور زكريا وجهوده الفلسفية التنويرية وانتخابه لأعمال معروفة بثرائها الفكري والفلسفي. أمضيتُ أياماً رائعة مع كتاب رايشنباخ الذي نقرأ فيه موضوعات على شاكلة: قوانين الطبيعة، هل توجد ذرات؟، التطوّر، المعرفة التنبؤية، هاملت يناجي نفسه، طبيعة علم الأخلاق، مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة. كتاب رايشنباخ - كما أرى - أكثر إمتاعاً بكثير من كتاب هوكنغ، فضلاً عن النكهة الأدبية والفلسفية الرائقة السائدة فيه. ثمة فصل في الكتاب عنوانه: ما الزمان؟ ومن هنا كانت نقطة الشروع لي في التدقيق بمفهوم الزمان على المستوى الفلسفي. علمتُ في سنوات لاحقة أنّ رايشنباخ ألّف كتاباً كاملاً عنوانه «The Philosophy of Space and Time»، لكنّه لم يترجم إلى العربية للأسف، ولم نكن في القرن الماضي بقادرين على اقتناء كلّ ما نرغب بقراءته من كتب لأسباب عملية معروفة.

الفلسفة وأبعاد الزمن

لو سلّمنا بمقولة الفيلسوف كانْت، عن استحالة تعريف أبعاد الزمان الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، فإننا سنغرق في بحار المقولات الفلسفية ونتبدد ونبدد الزمان في تساؤلاتنا. وضَعَ كانْت أمامنا شرط المستحيل؛ فالماضي هو الذي تبدّد وما عاد موجوداً، والمستقبل هو ما لم يَحِن أوانه بعدُ؛ فلا يتبقى من ممكن خاطف كالبرق الخُلَّب إلا الحاضرُ، وهو ليس الوقت كله، لكنه الزمان الذي تدركه الحواس ويعيه العقل وتعبره أجسادنا الحية في حركتها أو سباتها.

يكتب القديس أوغسطين: الزمان هو أكثر من شيء واحد، فهو بُعْدُ الوعي الذي يتوجه انطلاقاً من الحاضر نحو المستقبل في الانتظار، ونحو الماضي في التذكر، ونحو الحاضر في الانتباه؛ وعلى هذا فالحاضر هو برهة انتباهنا لوجودنا في المكان والزمان، أو كما يقول برغسون: «لا وجود للماضي ولا للمستقبل. ليس الوقت إلا هذا الشعور بالتعاقب لهذه اللحظات الآنية، وإنّ ذكاءنا هو الذي يفهم الوقت انطلاقاً من اللحظة الآنية، يربطه بالمكان لأنّ الآنية ليست من طبيعة الزمان، وإنما من طبيعة المكان. في مقابل هذا الزمان الفيزيائي هناك الزمن النفسي (الديمومة). الديمومة ليست آنية، هي متصلة لأن الشعور في حاضره غير منفصل عن ماضيه وهو مقبل في الوقت نفسه على المستقبل، كما أنها (الديمومة) ليست قابلة للقياس ومتجانسة. هذا هو الزمان قبل أن يتصرف فيه ذكاؤنا ويفككه إلى لحظات متمايزة».

الزمن عند هايدغر هو ما يحقق لنا الوجود؛ فهو يرى أن الزمان يقذف الإنسان باستمرار، وهو ما جعله الوحيد الذي يوصف بأنه موجود. الوجود لا يعني الخضوع للزمان، وإنما أن يقذفك الزمان دوماً نحو المستقبل، ونحو الممكن، ويكون عليك الاختيار وتبريرُ الاختيار. هذا هو القلق الوجودي الملازم للكائن البشري.

لكن ثمة اقتران يبدو حتمياً في حدود خبرتنا البشرية بين الزمان والمكان. استطاع آينشتاين في نظريته النسبية العامة، وبضربة تنمّ عن أستاذية لامعة، ربط الزمان والمكان في مفهوم واحد هو الزمكان Space-time، لكن يبدو أنّ الزمان يتقدّمُ على المكان. هذه العلاقة الشرطية بين الزمان والمكان هي الأساس الفلسفي الذي تنبثق منه كلّ تساؤلاتنا العميقة بشأن وجودنا البشري. نحن في النهاية كينونات مادية توجد في محيط متصل من الزمكان، ومحكومون بشروطه، وليست كل مفاهيمنا عن الكينونة والهوية والعلاقات البشرية سوى تجسيدات لوجودنا في هذا الزمكان.

فلسفة الزمان في كتاب حديث

لم تعد فلسفة الزمان مبحثاً فرعياً في سياق دراسة فلسفة العلم. تأسست مراكز بحثية مستقلة لدراسة فلسفة الزمان في كبريات الجامعات العالمية الرصينة، وصارت كتب كثيرة تنشَرُ بحثاً واستقصاء للتطورات الحثيثة في مفهوم فلسفة الزمان وتأثيراتها المؤكدة في إعادة تشكيل رؤيتنا العلمية للعالم، وربما فلسفة الزمان تتماثل في أهميتها مع فلسفة العقل ونظرية المعرفة في علاقة كل منهما مع التطورات الحاصلة في علم الحاسوب والذكاء الاصطناعي.

من الكتب الحديثة المنشورة في فلسفة الزمان كتابٌ ألّفه البروفيسور غريمي فوربس Graeme A. Forbes ونشرته حديثاً دار نشر «راوتليدج» العالمية، ضمن سلسلتها المعروفة الأساسيات The Basics. الأستاذ فوربس مختص بفلسفة الزمان، عمل لأكثر من عقد في قسم الفلسفة بجامعة كنت البريطانية قبل أن يتقاعد عن التدريس فيها عام 2022.

الكتاب طبق فلسفي بتوابل لذيذة ستثير شهية كلّ من تمرّس بالقراءات الفلسفية الخاصة بالموضوعات التأصيلية الأساسية: أصل الزمان والمكان، أصل الوعي، أصل الكون، أصل الحياة. ولما كان الزمان سابقاً لكلّ هذه الموضوعات وشرطاً لوجودها فسيكون من الضرورة اللازمة إيلاؤه قدراً غير يسير من الاهتمام والمساءلة.

بعد مقدمة تمهيدية يبدأ الكتاب بموضوعة جوهرية لكلّ كتاب يتناول فلسفة الزمان، أقصد بذلك مفهوم التغيّر Change. التغيّر هو حجر الأساس في بناء كلّ فلسفة منتجة للزمان، ومنها يمكن الانطلاق لإثراء الموضوع، وهذا هو ما فعله المؤلف تماماً في فصول لاحقة تناول فيها: اختبار التغيّر، واختبار الذات، ثمّ يتناولُ موضوعات النسبية والآنية، وسهم الزمان، والسفر عبر الزمان، الانحياز الزماني، إعادة كتابة التاريخ، العيش في الحاضر.

عقب مقتبس من مقطع شعري لإليوت، يكتب المؤلف في مقدمته:

«لم أحاولْ أبداً إخفاء شخصيتي أو آرائي عن القارئ. تتبدى آرائي في عدد من الكيفيات، منها: اختيارُ الموضوعات. العديد من المقدمات المكتوبة عن فلسفة الزمان تركّز بؤرتها البحثية على الميتافيزيقا أو فلسفة الفيزياء فحسب. فعلتُ هذا مثلما فعلوا، لكنني لم أكتفِ به، بل اجتهدتُ لتضمين موضوعات أخرى مثل فلسفة التاريخ؛ لأنني أرى أنّ موضوعات التاريخ يجب أن تكون مبعث إثارة وتفكّر لدى كلّ من يشتغلُ في نطاق فلسفة الزمان...».

يبدو الكتاب مُعدّاً عن منهاج دراسي جامعي لأنّ الصبغة البيداغوجية (التعليمية) واضحة فيه. أرى في هذه الخصيصة مصدر قوة للكتاب لأنّه سيفي بمتطلبات التعلّم الذاتي التي صارت سمة شائعة في معظم الكتب المنشورة حديثاً. يبدو أنّ المؤلفين المعاصرين باتوا يتلمّسون روح العصر الحديث حيث التعلّم الذاتي Self-Study سيكون النمط الشائع للتعلّم فيه عمّا قريب، وبخاصة مع انفتاح الفضاء الرقمي على فضاءات لا محدودة من البيانات الكبيرة ومصادر المعلومات.

فلسفة الزمان: الأساسيات

Philosophy of Time: The Basics

المؤلف: غريمي فوربس

Graeme A. Forbes

الناشر: Routledge, Taylor & Francis Group

السلسلة: The Basics

عدد الصفحات: 224

السنة: 2024