«مدرسة الحمقى»... التأثيرات الموازية للمجتمعات القمعية

مهّدت لمرحلة جديدة في السرد الروسي

«مدرسة الحمقى»... التأثيرات الموازية للمجتمعات القمعية
TT

«مدرسة الحمقى»... التأثيرات الموازية للمجتمعات القمعية

«مدرسة الحمقى»... التأثيرات الموازية للمجتمعات القمعية

صدر حديثاً عن المركز القومي للترجمة بمصر النسخة العربية من رواية «مدرسة الحمقى» تأليف الروائي الروسي ألكسندر سوكولوف، التي ترجمها عن لغتها الأصلية الدكتور محمد نصر الجبالي، وهي واحدة من روائع الأدب الروسي في القرن العشرين، ومهّدت لمرحلة جديدة في فن السرد. السردي. وينظر الباحثون في الأدب الروسي إلى «مدرسة الحمقى» باعتبارها «القصة الأكثر سيريالية في الأدب الروسي الحديث». ويجسّد سوكولوف من خلال أحداثها الوجه الآخر للمجتمعات القمعية التي لا تمنح أبناءها حريةً في التعبير عن أرواحهم، وتجعل منهم أفراداً يعيشون عوالمهم في دواخلهم، ويتحاورون مع أنفسهم، وبصوت داخلي لا يمكنه الخروج إلى العالم، فلا أحد يقدّره أو ينصت إليه.
يسرد المؤلف أحداث الرواية على لسان صبي يعاني انفصاماً في الشخصية، تسيطر عليه حالة من الدهشة والذهول من تنوع العالم المحيط به، لكنه رغم ذلك مثل كل المراهقين يكره أسوار المدرسة، ويحب النساء والطبيعة الجميلة الخلابة، ولديه الكثير من الطموحات التي يأمل أن تتحقق.
وخلال الأحداث يركز سوكولوف على البطل الذي تكونت لديه من جراء إصابته الذهنية تصورات غير مألوفة عن العالم وعن الزمن، نتيجة إصابته بشيزوفرنيا حادة. ومن خلال المونولوج الداخلي يتذكر الصبي، وهو مجهول الاسم، طفولته وحياته بالمدرسة، ويصف العالم المحيط به، ويعلق عليه، بينما يختلط لديه الماضي بالحاضر، ويستعصي عليه فَهم ما يدور حوله من مجريات الحياة.
وهو يصف معاناته التي ترتبط بذكرياته، وحياته في القرية التي تقطنها عائلته، وما يحيط بها من ربوع خضراء، ويتذكر بافل نورفيجوف أستاذه مدرس الجغرافيا الذي يكنّ له تقديراً خاصاً؛ لأنه كان الوحيد الذي استطاع أن يتعاطى معه بقلبه في العالم الذي يحيط به، كما يتحدث عن ابنة البروفسير التي تدعى فيتا أكاتوفا والتي انجذب لها البطل بمشاعره الخاصة، لكن المدهش في «مدرسة الحمقى» أن كل ما يأتي في تفاصيلها من وقائع تتنامى، تأتي كأنها نوع من التهويمات، تحدث فقط في عقل الطفل محرّك الحدث، ففيها يختلط الواقع بالخيال، وتتداخل الأزمنة والأماكن.
استغل سوكولوف الإعاقة الذهنية لدى بطله في جعل كل ما يحيط به يبدو ضبابياً وغائماً، فلا يوجد بالنص شيء أو خبر محسوم ونهائي، فالواقع يفقد ملامحه المعتادة، ويبدو وكأنه يرى لأول مرة، وهذا المظهر الواضح في الرواية لجوء سوكولوف جاء نتيجة اللعب بالألفاظ وقيام المؤلف بتحريك مقصود وممنهج في بنية الأحداث، وقد نتج من ذلك الكثير من الأشياء غير منطقية، والمدهشة في الوقت نفسه، والتي ظهرت في العلاقات المتبادلة بين الأبطال المحيطين بالصبي، سواء كان والده الذي يعمل قاضياً، أم أمه التي تتحكم فيه بطريقة مرضية أم أستاذه مدرس الجغرافيا أم طبيبه في مستشفى الأمراض العقلية التي كان يتردد عليها أيضاً، فضلاً عن الفتاة التي يتمنى الزواج منها، حيث تعتمل في روحه مشاعر حب لا تجد لها مكاناً في أرض الواقع.
«مدرسة الحمقى» هي الرواية الأولى لسوكولوف، وتوصف من قِبل النقاد بكونها واحدة من أهم الأحداث الفارقة في الأدب الروسي في القرن العشرين، وقد نالت تقديراً كبيراً من المهتمين بالشأن الإبداعي بسبب جدية موضوعها وسعي كاتبها لسبر خبايا الواقع غير المرئية ، فضلاً عن موهبته في تصوير العلاقات المتبادلة بين الأبطال وبين الأحداث، وهي ربما واحدة من الروايات الأكثر تعقيداً من الناحية اللغوية، والتي يتحدث فيها البطل بحكمة الأحمق التي يصعب أن ينالها الأذكياء.
صياغة سوكولوف أحداث روايته وجعلها تدور في خيال ورأس بطله فقط، ربما كان وراء تعزيز فقدان صلتها بالواقع، فلا أحد قادراً على الجزم بما إذا ما كان يقوله الراوي يحدث في الآن، أم وقع في الماضي، أم يتخيله البطل ويراه أمامه في المستقبل، وهذا بالطبع نتيجة طبيعية لحالة القمع وعدم التحقق التي عاشها الطفل في «مدرسته»، وقد صوّرها بحيث تبدو واحدة من المؤسسات القمعية بدايةً من مديرها بيريُّو، ونهاية بطرق التدريس التي يتم تطبيقها بين جدرانها، وهي مصممة في الغالب، في تلك المجتمعات بحيث لا تعطي مساحة لظهور إبداعات الأطفال المحصورين هناك، فلا يسمح لهم بالانطلاق بحرية ولا تجد مبادراتهم الفردية طريقة للخروج إلى النور والتعبير عن نفسها.
وُلد ألكسندر سوكولوف في العاصمة الكندية أوتاوا عام 1943، وغادر إلى الاتحاد السوفياتي بعد ترحيل والده، الذي كان ملحقاً عسكرياً بالسفارة السوفياتية، لاتهامات بالتجسس، وبعد عودة والده درس سوكولوف الصحافة في جامعة موسكو الحكومية، لكن الوضع وقتها لم يرُق له، فقام بمحاولات عدة للهروب من البلاد، عبر الحدود الإيرانية، وفي عام 1975، سمحت له السلطات السوفياتية بالمغادرة، واستقر في الولايات المتحدة في العام التالي بعد نشر «مدرسة الحمقى»، خارج روسيا، حيث لم تجد طريقها للنشر هناك إلا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وما زال سوكولوف يعيش في أميركا، وقد حصل على جائزتي «أندريه بيلي» المرموقة عام 1981، و«بوشكين للأدب» عام 1996، وصدر له عدد من الكتب والروايات منها «أستروفوبيا» و«بين الكلب والذئب» و«في بيت المشنوقين».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.