سباق تسلح متسارع على تخوم الحرب الأوكرانية

دول بارزة عززت نفقاتها العسكرية قبل المعارك وبعدها

سباق تسلح متسارع على تخوم الحرب الأوكرانية
TT

سباق تسلح متسارع على تخوم الحرب الأوكرانية

سباق تسلح متسارع على تخوم الحرب الأوكرانية

أجبر النزاع الروسي- الغربي على الساحة الأوكرانية منذ انطلاقه بدايات العام الماضي، العالم على إعادة حساباته في كثير من المجالات. فبالإضافة إلى الأزمات التي فجرتها في قطاعات الطاقة أو الغذاء، فضلاً عن موجة التضخم العالمية، أدخلت المواجهات دولاً مختلفة في سباق تسلح غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة.
وأظهرت إحصائيات متخصصة وإفادات رسمية، زيادة كثير من الدول -سواء على تخوم الحرب في أوكرانيا أو على بعد آلاف الأميال منها- إنفاقها العسكري بنسب قياسية، تتسابق التقارير ومراكز الفكر والدراسات في العالم من أجل رصدها وتحليلها. وذكر تقرير لـ«معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام» (SIPRI) أنه للمرة الأولى يتجاوز حجم الإنفاق العسكري عالمياً (تدريباً، وتسليحاً، وأجوراً) تريليوني دولار، حسبما تم رصده في عام 2021؛ العام السابق على الحرب. وجاءت قيمة تجارة السلاح فقط في العام نفسه 592 مليار دولار.
أشار التقرير الصادر يوم 13 مارس (آذار) الحالي، إلى التأثير البالغ للحرب الروسية- الأوكرانية على تدفقات الأسلحة إلى أوروبا؛ إذ كشف أن واردات الدول الأوروبية من الأسلحة الرئيسية زادت بنسبة 47 في المائة بين الفترتين الخماسيتين (2013- 2017) و(2018- 2022). وأوضح أن الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) زادت وارداتها من الأسلحة في عام 2022 بنسبة 65 في المائة، سعياً لتعزيز ترساناتها التي واجهت صعوبات حقيقية في الوفاء بمتطلبات القتال على الجبهة الأوكرانية.
وفي الفترة من 2013 إلى 2017 مقابل الفترة من 2018 إلى 2022، زادت حصة الولايات المتحدة من صادرات الأسلحة العالمية من 33 إلى 40 في المائة، بينما انخفضت حصة روسيا من 22 إلى 16 في المائة، وسجلت فرنسا نسبة 11 في المائة مقابل 7 في المائة سابقاً، وفقاً للبيانات الجديدة حول عمليات نقل الأسلحة العالمية التي نشرها «معهد استوكهولم». وتزداد صادرات الأسلحة الأميركية والفرنسية مع انخفاض الصادرات الروسية، وهو ما أرجعه التقرير إلى أن «روسيا ستعطي الأولوية لتزويد قواتها المسلحة، وسيظل الطلب من الدول الأخرى منخفضاً بسبب العقوبات التجارية عليها، وزيادة الضغط من الولايات المتحدة وحلفائها على عدم شراء الأسلحة الروسية».
وتعد روسيا خامس أكبر منفق على السلاح في العالم، بعد أن وصل إنفاقها قبل بدء الحرب إلى 4.1 في المائة من الناتج المحلي، ليصبح العام الثالث على التوالي في نمو التسلح الروسي، كما تعد أكبر قوة نووية عالمياً، وفقاً لعدد الرؤوس النووية التي تمتلكها.

مأزق أوروبي
ومنذ بداية الحرب الأوكرانية أعادت الدول الأوروبية تقييم قدراتها العسكرية من مخزون الأسلحة والذخيرة ومنظومات الصواريخ، وأيضاً خطوط الإمداد وحتى معدل الإنفاق العسكري، إذ واجهت تلك الدول مأزقاً حقيقياً مع انطلاق الهجوم الروسي في فبراير (شباط) من العام الماضي. وبيَّنت إحصاءات لحلف «الناتو» أن 9 دول فقط من أصل 30 دولة في الحلف تمكنت من الوصول إلى نسبة إنفاق عسكري تبلغ 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2022، وهي النسبة التي يطالب الحلف أعضاءه بتخصيصها للشؤون الدفاعية.
وفي يونيو (حزيران) الماضي، أكد المستشار الألماني أولاف شولتس أن بلاده سوف تمتلك أكبر جيش أوروبي تقليدي في «الناتو» بفضل الاستثمارات الضخمة التي أقرها، بعد الموافقة على إنشاء صندوق استثنائي بقيمة 100 مليار يورو، بينما تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي تمتلك بلاده حالياً أقوى الجيوش داخل الاتحاد الأوروبي، بتخصيص أكثر من 400 مليار يورو بين عامي 2024 و2030 للإنفاق العسكري، بينما أعلنت بريطانيا زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2.5 في المائة من الناتج المحلي بحلول عام 2030.
أما بولندا، فقد أقرت قانوناً يسمح بزيادة حجم الجيش من 114 ألف فرد إلى 250 ألف فرد خلال 12 سنة، كما سارعت لشراء الأسلحة من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، بعد زيادة إنفاقها العسكري إلى 4 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، بما يعادل تقريباً 100 مليار يورو، في حين قررت المجر التي تجمعها بروسيا علاقات جيدة، إعادة النظر في ميزانيتها العسكرية، وفقاً لتصريح رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، بضرورة «إضافة زيادة جذرية» في القدرات الدفاعية لبلاده.
من جانبهما، قررت فنلندا والسويد -على الرغم من قربهما الجغرافي من موسكو- الانضمام إلى حلف «الناتو»، وقررت الدنمارك تخصيص 940 مليون يورو إضافية لقواتها المسلحة خلال عامي 2022 و2023.
وعلى الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، كانت واشنطن على موعد مع زيادة قياسية في إنفاقها العسكري، ففي ديسمبر (كانون الأول) الماضي تم إقرار ميزانية الدفاع الأميركي لعام 2023، بمبلغ 858 مليار دولار، بزيادة 45 مليار دولار عن الميزانية التي طرحها الرئيس الأميركي جو بايدن، وذلك بهدف زيادة رواتب الجنود بنسبة 4.6 في المائة، وزيادة الإنفاق على الأسلحة والطائرات، في ظل استمرار الدعم الأميركي لأوكرانيا.

تحولات جوهرية
أما أبرز التحولات الجوهرية التي فرضتها الحرب، فقد شهدتها أوكرانيا التي أصبحت –حسب تقرير «معهد استوكهولم»- ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم في عام 2022، نتيجة للمساعدات العسكرية من الولايات المتحدة وكثير من الدول الأوروبية، في أعقاب الغزو الروسي في فبراير 2022. ووفقاً للتقرير فقد شهدت أوكرانيا ارتفاعاً لإنفاقها الدفاعي بنسبة 72 في المائة، منذ أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في 2014، على الرغم من أنها استوردت من عام 1991 حتى نهاية 2021، شحنات محدودة من الأسلحة الرئيسية.
ويرى ريتشارد وايتز، كبير زملاء ومدير مركز التحليل السياسي العسكري في معهد «هدسون» بالولايات المتحدة، أن الحرب الروسية الأوكرانية فرضت على العالم وعلى القارة الأوروبية واقعاً مغايراً لما عهدته على مدى عقود، وأنها «وضعت حداً لما عُرفت بحقبة ما بعد الحرب الباردة». وأضاف وايتز لـ«الشرق الأوسط» أن الحرب «غيرت نظرية الأمن الأوروبي برمتها»، والتي كانت تراهن على أن القارة بمأمن من قتال واسع على أراضيها، واستطاعت منذ تسعينات القرن الماضي أن تأسس جسور تعاون مع روسيا، إلا أنها واجهت موقفاً مفاجئاً باندلاع الحرب على الحدود الشرقية لحلف «الناتو»، بينما كثير من الدول الأوروبية الكبرى غير مستعدة عسكرياً لمواجهة الموقف الذي فرضته موسكو.
وأوضح الخبير العسكري الأميركي أن الغزو الروسي لأوكرانيا «أشعل سباق التسلح عالمياً من جديد»؛ خصوصاً لدى الدول الأوروبية، ودفعها إلى التخلي عن سياسة خفض الإنفاق العسكري التي كانت متبعة منذ الحرب الباردة، وبدأت دول كثيرة في تعديل خططها المستقبلية لكي تواجه تحديات تعزيز جيوشها الوطنية، وتوفير احتياجاتها من الأسلحة والذخائر، في ظل زيادات ضخمة في ميزانيات الدفاع للسنوات الخمس المقبلة.
وحسب تقرير حول الدروس المستفادة في العام الأول من الحرب في أوكرانيا، أجراه معهد Royal United Services Institute (RUSI) البريطاني، ونشر في الأول من مارس الحالي، فإن الدول الأوروبية «واجهت مأزقاً حقيقياً لتوفير إمدادات القوات الأوكرانية، من أجل الصمود في وجه الهجومي الروسي»، وأوضح أن ألمانيا التي كان شطرها الغربي وحده يمتلك آلاف الدبابات في الثمانينات من القرن الماضي، لديها الآن 321 دبابة فقط.
وفي مفارقة لافتة، أضاف التقرير أن «عدد القذائف التي أطلقتها القوات الروسية في منطقة دونباس بأوكرانيا من قذائف المدفعية الثقيلة في أسبوع واحد، يعادل ما استخدمته قوات الجيش الفرنسي في 13 عاماً من التدريب والانتشار في أفغانستان ولبنان ومالي والعراق، وأن الوضع يبدو أكثر حرجاً» بالنسبة للمملكة المتحدة التي لا يكاد يصل مخزونها بالكامل من قذائف المدفعية «عيار 155 ملم» إلى ما يطلقه الجيش الروسي في يومين فقط في منطقة دونباس.

مراجعة العقائد العسكرية
لم تفرض مجريات الحرب في أوكرانيا سباقاً للتسلح فحسب؛ بل فرضت إعادة النظر في كثير من التصورات بشأن المواجهات المسلحة في العالم بشكل عام، وعلى الجبهة الأوروبية بشكل خاص، وهو ما يعتقد اللواء أركان حرب ياسر هاشم، رئيس القسم السياسي العسكري بمعهد الأمن العالمي وشؤون الدفاع (IGSDA)، أنه سيغير كثيراً من القرارات السياسية والعقائد العسكرية الأوروبية في المرحلة المقبلة، بالنظر إلى أن تكتيكات الحرب التقليدية واستخدام الأسلحة الثقيلة، والعمليات البرية التي تجيدها القوات الروسية: «فرضت على الدول الأوروبية مراجعة خططها، سواء في التسليح أو الإنفاق العسكري وتدريب القوات».
وأضاف هاشم لـ«الشرق الأوسط» أن سباق التسلح العالمي «صار حقيقة وواقعاً»، وأن كل المؤشرات تؤكد أن العالم «يتجه إلى تنافس مفتوح لامتلاك أدوات القوة المناسبة التي تسهم في تأمين متطلبات أمن كل دولة»، وأن الحرب الروسية الأوكرانية دفعت كل دول العالم، وفي القلب منها الدول الأوروبية، إلى مراجعة خططها المستقبلية، وخصوصاً الدول المجاورة لروسيا، والتي «ربما تكون هدفاً في مرحلة تالية من المواجهات».
وتابع الخبير العسكري بأن «الحرب الروسية- الأوكرانية تأتي في صدارة الأسباب التي دفعت باتجاه سباق تسلح عالمي؛ لكنها ليست الوحيدة»؛ مشيراً إلى أن هناك موجات عالمية لتحديث الصناعات العسكرية وتحديث ترسانة الأسلحة، وغالباً ما يحدث ذلك كل 20 عاماً، والعالم يمر حالياً بواحدة من تلك الموجات التحديثية لأنظمة التسليح.
ويشير هاشم كذلك إلى أن ما يثيره النشاط الكبير للصين في رفع قدراتها العسكرية وتأهيل جيشها بصورة لافتة، يساهم في زيادة حدة الترقب أميركياً وعالمياً؛ خصوصاً في ظل وجود حلفاء لواشنطن على الصعيد الآسيوي يحذرون من مخططات بكين، ومن بينهم اليابان وكوريا الجنوبية.

سباق آسيوي للتسلح
وعلى الرغم من أن الجبهة الآسيوية تبدو بعيدة، على الأقل جغرافياً، عن نطاق المواجهات العسكرية في أوكرانيا، فإن سباقاً للتسلح لا يقل ضراوة في شرق أكبر قارات العالم؛ خصوصاً مع اتجاه الصين إلى تحديث ترسانتها العسكرية. ففي مارس الماضي أمر الرئيس الصيني شي جينبينغ، بتحديث القوات المسلحة بشكل كامل بحلول عام 2035، مشدداً على أن يصبح الجيش الصيني قوة عسكرية «متفوقة عالمياً» بإمكانها «خوض الحروب وتحقيق النصر فيها» بحلول عام 2049.
وفي هذا الصدد، يقول ريتشارد وايتز إن آثار الصراع «لن تقتصر على جيران أوكرانيا، فالصين والهند وتايوان والولايات المتحدة تراقب من كثب الآثار المترتبة على آلاف الكيلومترات إلى الشرق، لدرجة أن بعض المسؤولين الأميركيين يتحدثون عن التعامل مع المسارح الأمنية الأوروبية والآسيوية على أنها مترابطة، أو ربما في مرحلة ما على أنها واحدة».
ويعتقد وايتز أن الصين «ما زالت متأخرة جداً» عن بلوغ مستوى المخزون النووي الأميركي الذي يحتوي 5500 رأس نووي، ولكن في الوقت نفسه ينظر إلى تسارع وتيرة التسلح النووي الصيني على أنه «أحد أخطر التهديدات للتفوق العسكري الغربي». وأشار إلى أن الولايات المتحدة تحتفظ بتفوق كبير في كثير من القدرات البحرية؛ إذ لديها 11 حاملة طائرات مقابل حاملتين للصين، كما تتفوق في أعداد الغواصات والمدمرات والطرادات والسفن الحربية الكبيرة العاملة بالطاقة النووية.
وقالت وزارة الدفاع الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إنها تتوقع أن تضاعف الصين حجم ترسانتها النووية 4 مرات بحلول نهاية العقد الحالي، وأن الصين «تنوي على الأغلب أن يكون لديها ألف رأس نووي على الأقل بحلول عام 2030»، وهو ما وصفته وسائل إعلام صينية رسمية بأنه «محض تكهنات متهورة ومتحيزة».

طموحات الصين
في المقابل، يرى اللواء ياسر هاشم أن «الصين تسير بخطى كبيرة لإثبات وجودها على الساحة العسكرية الدولية، فهي تمتلك واحدة من أكبر الصناعات العسكرية عالمياً، كما أنها تتحرك وفق هدف استراتيجي واضح، وهو حرمان الولايات المتحدة من الوجود بحرية في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي، وتشكيل تهديد على القواعد الأميركية في كوريا الجنوبية واليابان». كما يعتقد أن «الصين حتى الآن تتبع أسلوب رد الفعل العسكري المتمهل؛ لكنها تتحرك بوتيرة متسارعة لبناء قدرات عسكرية كبيرة، مثل زيادة حاملات الطائرات، ومضاعفة أعداد قطعها البحرية، وهي تخوض سباقاً استراتيجياً قوياً مع واشنطن، وتسعى لتعويض فارق القدرات التسليحية لصالح الولايات المتحدة عبر امتلاك تقنيات متقدمة، وتوظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في خدمة الأغراض العسكرية».
وتتوقع البحرية الأميركية أن يزداد عدد السفن الحربية التي تمتلكها البحرية الصينية بنسبة 40 في المائة بين عامي 2020 و2040. وتنشر الصين بيانات رسمية لإنفاقها العسكري؛ لكن تقديرات الغرب للدعم المالي الذي تقدمه الصين لقواتها المسلحة أعلى من الأرقام التي تعلنها بكين بكثير. ويعتقد على نطاق واسع في الغرب أن الصين تنفق على قواتها المسلحة أكثر من أي بلد آخر عدا الولايات المتحدة.
وليس بعيداً عن الصين، قررت اليابان زيادة إنفاقها العسكري إلى الضعف تقريباً خلال السنوات الخمس المقبلة، بينما تخطط كوريا الجنوبية للحصول على التكنولوجيا النووية للاستخدامات العسكرية، من أجل الدفاع عن نفسها أمام جارتها الشمالية.
كما قررت تايوان تمديد مدة الخدمة العسكرية من 4 أشهر إلى سنة، من أجل الاستجابة العاجلة لأي خطر طارئ، بينما قررت إندونيسيا الحصول على طائرات «رافال» الفرنسية، وشراء مقاتلات «إف 35» الأميركية. وذكر معهد كوريا الجنوبية لتحليلات الدفاع، في تقرير نُشر في يناير (كانون الثاني) الماضي، أن «كوريا الشمالية تسعى لتنفيذ خطة لامتلاك 300 سلاح نووي في السنوات المقبلة، بينما قدر معهد استوكهولم الدولي العام الماضي، أن لدي بيونغ يانغ 20 سلاحاً نووياً، وما يكفي من المواد الانشطارية لتكوين 55 سلاحاً نووياً». وإذا نجحت كوريا الشمالية في تحقيق هدفها فستتفوق على دول نووية كبرى، مثل فرنسا والمملكة المتحدة، وتأتي في الترتيب بعد روسيا والولايات المتحدة والصين في تصنيفات المخزون النووي. ودفعت تلك التقديرات رئيس كوريا الجنوبية، يون سوك يول، إلى التعهد بتعزيز قدرات بلاده العسكرية؛ مشيراً إلى أن بلاده «يمكن أن تنشر أسلحة نووية تكتيكية أو تمتلك أسلحة نووية خاصة بها».



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!