فالح الفياض قوته في صمته

مستشار الأمن القومي العراقي.. منشق عن «الدعوة» ومحتفظ بعلاقاته مع طهران وواشنطن

فالح الفياض قوته في صمته
TT

فالح الفياض قوته في صمته

فالح الفياض قوته في صمته

عاد مستشار الأمن القومي العراقي فالح الفياض إلى الواجهة الأسبوع الماضي عندما فوضه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لزيارة دمشق ونقل رسائل شفوية إلى الرئيس السوري بشار الأسد. وليست الزيارة الأولى للفياض إلى دمشق، الذي يعتبر من المسؤولين العراقيين الرفيعي المستوى النادرين في قلة التصريحات.

فالفياض بات من اللاعبين الأمنيين الأقوياء في العراق ولكنه يبقى عادة خلف الكواليس وإلى جانبها. فعندما زار العبادي قاعدة عسكرية لتفقد طائرات «إف 16» من الولايات المتحدة، كان خلفه الفياض. وعندما تصدر نائب رئيس الجمهورية العراقي نوري المالكي وزعيم «فيلق بدر» هادي العامري تشييع «أبو منتظر المحمداوي» القائد في «الحشد الشعبي» كان إلى جوارهم الفياض. وعندما اجتمع العبادي بمجلس محافظة الأنبار برئاسة صهيب الراوي حول مكافحة «داعش»، جلس الفياض صامتا ومتابعا.
وعلى الرغم من تعددية الألقاب التي يحملها (مهندس الكهرباء، وشيخ العشيرة، والمستشار)، لكن اللقب المفضل لدى مستشار الأمن الوطني العراقي الفياض هو (الحاج). وهذه المفردة وإن شاع استعمالها بطريقة لافتة لدى أعداد متصاعدة من الطبقة السياسية العراقية الحالية، نتيجة لخلفية الكثير منهم الإسلامية، إلا أنها تكاد تكون حكرا على القادة الشيعة بدء من رئيس الوزراء السابق والنائب الحالي لرئيس الجمهورية نوري المالكي الذي لا يعرف إلا بلقب «الحجي أبو إسراء» في أوساط المقربين منه بمن في ذلك صغار موظفيه. فلهذه المفردة في العراق الجديد بريقها الخاص فضلاً عن كونها لدى زعامات الإسلام السياسي تجب ما قبلها من ألقاب. الأمر يختلف إلى حد كبير لدى القادة الكرد من نواب ووزراء ومسؤولين، حيث يفضلون لقب «كاكا» وتعني باللغة الكردية «الأخ». بينما يفضل قادة سنة إسلاميين لقب «الشيخ» على ما عداه من ألقاب ربما لكون غالبية نوابهم ووزرائهم هم من مشيخات عشائرية في المحافظات الغربية التي لا تزال البنية القبلية هي السائدة فيها وتتحكم في مفاصلها كافة.
الفياض الذي ينتمي إلى عشيرة كبيرة في العراق، عشيرة البوعامر، حيث تتولى أسرته الغنية مشيختها بقي محافظا على خيط رفيع من التواصل العشائري والسياسي بجذور قوية مكنته من الاحتفاظ بالمكانتين معا فهو شيخ العشيرة (شيعية الانتماء المذهبي) والموقع السياسي الحساس في العراق. وقد بقي حريصا على الاحتفاظ بعلاقات قوية مع العشائر السنية، لا سيما أن موقع العشيرة الأكثر ثقلا هو في مناطق حزام بغداد الشمالية الشرقية باتجاه محافظة ديالي، حيث توجد عشائر سنية كثيرة احتفظت معها أسرة الفياض عبر عقود طويلة من الزمن بوشائج قوية جعلت من الفياض توازن في معادلات صعبة بدت عشائرية أول الأمر ثم امتدت إلى ما هو سياسي ومن ثم إقليمي.
وبعد أن كان الفياض قياديا في حزب الدعوة، بات الآن قياديا في تجمع «الإصلاح» المنشق عن الدعوة والذي يتزعمه وزير الخارجية إبراهيم الجعفري، القيادي السابق أيضًا من الدعوة. وتولى فالح الفياض في حكومة نوري المالكي الأولى منصب وزير الأمن الوطني حين كان الأمن الوطني وزارة دولة بلا حقيبة. لكنه وبسبب إجراءات الترشيق الحكومي تحولت وزارات مثل الأمن الوطني وشؤون المصالحة الوطنية إلى مستشاريات. وعلى عهد حكومة المالكي الثانية (2010 - 2014) احتفظ الفياض بمنصب مستشار الأمن الوطني بصلاحيات واسعة مكنته من لعب أدوار مهمة داخليا وإقليميا بسبب مما يتمتع به من خصال محددة. وأوضح مسؤول عراقي في الأمن الوطني لـ«الشرق الأوسط» طالبا عدم الإشارة إلى اسمه أو هويته، أن «هناك ثلاث مزايا يتمتع بها الفياض هي التي جعلته يحتفظ بموقعه رغم كل التقلبات سواء داخل بنية الحركة الإسلامية التي بقي ينتمي إليها رغم انتقاله إلى كيان جديد أو ما جرى لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي وما حصلت من تحولات طالت مناصب ومواقع هامة لم يتأثر بها الفياض». وأضاف أن «مزايا الفياض الثلاث هي السرية والعشائرية والمهنية». وفي تفصيلاتها يقول المسؤول الأمني، إن «الفياض لا يتكلم كثيرا ولا يدلي بتصريحات للصحافة ويفضل القيام بمهامه بنوع من الكتمان والسرية حتى في حال كانت علنية الطابع لأن الرجل يفضل أن السرية في العمل وهو ما جعله يحتفظ بعلاقات جيدة مع الجميع استثمرها لصالح عمله».
إلى جانب ذلك، يضيف المسؤول الأمني، أن «الفياض ينتمي إلى عشيرة كبيرة كانت أسرته وما زالت تمثل مشيختها الرئيسية وهو ما جعله يوظف ثقله العشائري في أحلك الظروف في العراق، لا سيما على صعيد التوازنات العشائرية وما حصل من احتكاكات هنا وهناك في بعض المحافظات». وفي ما يتعلق بالعنصر الثالث وهو المهنية يقول المسؤول الأمني: «الفياض رجل مهني من حيث أسلوب العمل وكيفية إدارة مهماته بحزم مع مرونة تتطلبها بعض المهمات». وردا على سؤال فيما إذا كانت مثل هذه المزايا أو السمات كافية في عراق اليوم أن يحتفظ موظف رفيع المستوى في مكانته في ظل المشاحنات والمؤامرات والمناكفات السياسية وغيرها يقول المسؤول الأمني، إن «هناك مسألة في غاية الأهمية لصالح الفياض هي عدم إمكانية رشوته لأنه من أسرة غنية وهي إحدى مصادر قوته». وأشار إلى أن «كل صفقات السلاح التي باتت تمر من تحت يده حين تحولت إلى الأمن الوطني، حيث يعمل سكرتيرا لمجلس الأمن القومي ليس فيها شبهات فساد بالإضافة إلى أن الرجل مقبول عربيا وإيرانيا وأميركيا وهي ميزة ينفرد بها الفياض بين معظم قادة الطبقة السياسية العراقية بعد عام 2003 فعادة من يكون مقبولا إيرانيا لا يمكنه أن يكون مقبول أميركيا وبالعكس وكذلك على صعيد المحيط العربي».

* البديل الجاهز

* الفياض الذي كان ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية أيام زعامة الجعفري، لكنه انشق عن الحزب مع الجعفري، حيث شكلا تجمع الإصلاح الوطني، بينما تزعم حزب الدعوة نوري المالكي. ومع ذلك فإنه في الوقت الذي باتت فيه العلاقة بين الجعفري والمالكي تتميز بالجفاء النسبي مع احتفاظ الجعفري برئاسة التحالف الوطني ومن ثم تأييده لتولي حيدر العبادي رئاسة الوزراء فإن الفياض كان تسلم منصب المشرف على «الحشد الشعبي» يساعده رسميا أبو مهدي المهندس. الفياض تسلم هذا المنصب في أواخر عهد المالكي وبقي محتفظا به حتى اليوم رغم أنه لا يميل إلى الظهور أو الذهاب إلى جبهات القتال لأغراض التصوير مثلما هي عادة عدد كبير من المسؤولين العراقيين ممن يريدون التحضير للانتخابات القادمة من خلال استثمار الحرب ضد «داعش». ليس هذا فقط فإن الفياض بقي على مدى السنوات الماضية بمثابة البديل الجاهز لأي منصب هام بمن في ذلك منصب رئيس الوزراء الذي كان يشغله المالكي. ففي أكثر من مرة طرحا اسمه كبديل للمالكي عندما كانت الأمور قد احتدمت، لا سيما بعد مظاهرات عام 2013 في المحافظات الغربية. ومما يحسب للفياض أنه هو الذي طلب من المالكي التهدئة مع السنة العرب وعدم التصعيد السياسي معهم، واقترح في اجتماع رسمي لمجلس الوزراء برئاسة المالكي بذهاب رئيس الحكومة إلى محافظات الأنبار والموصل وصلاح الدين والاجتماع مع المسؤولين ولجان التنسيق الشعبية فيها والاستماع إلى مطالبهم. كما أن الفياض بقي اسما مطروحا لتولي منصب وزير الداخلية الذي بقي المالكي يشغله طوال سنوات حكمه في دورته الثانية. وفي سياق مهمات عمله والأجندة المطروحة أمامه، يشرح مصدر عراقي قريب من الفياض أن الفياض يرى أن أهم المخاطر والتحديات التي تواجه الأمن القومي العراقي تتمثل حول 3 محاور. أولاً: هشاشة بنية الدولة العراقية الجديدة. ثانيًا: المشكلة الطائفية وما يتمحور حولها من مشكلات، كذلك العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان وبعض المواد الدستورية الفضفاضة. ثالثًا: التدخل الخارجي بمختلف أشكاله ومصادره، حيث إنه يضر إضرارًا بالغًا بالأمن القومي العراقي. رابعًا: مشكلة المياه والتصحر وأثرها على الأمن القومي العراقي والمتوقع تصاعدها مستقبلاً.

* فالح الفياض في سطور

> فالح الفياض من مواليد بغداد عام 1956 من أسرة شيعية تقطن شمال شرقي بغداد.
> حصل الفياض على بكالوريوس في هندسة الكهرباء من جامعة الموصل عام 1977.
> انضم إلى حزب الدعوة الإسلامية منذ وقت مبكر وتعرض للاعتقال من قبل نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عام 1980 وحكم عليه بالسجن المؤبد، لكنه قضى في سجن أبو غريب خمس سنوات.
> بعد سقوط نظام صدام عام 2003 أصبح عضوًا في أول جمعية وطنية ومن ثم عضوًا في أول برلمان عراقي منتخب عام 2005 عن الائتلاف الوطني العراقي.
> أصبح مديرًا لمكتب نائب رئيس الجمهورية وعضوًا في لجنة المصالحة الوطنية العليا خلال الحكومة السابقة.
> كلف بالكثير من الملفات الخاصة في الحكومة العراقية، قبل أن يصبح وزيرًا للأمن الوطني ومن ثم مستشارًا له حتى اليوم.



«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
TT

«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)

«لقد انتصرت روسيا اليوم في جورجيا... علينا أن نعترف بذلك»... بهذه الكلمات لخّص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تخوض بلاده حرباً مفتوحة مع روسيا منذ 33 شهراً، المشهد في جمهورية جورجيا السوفياتية السابقة. وبالفعل، عكست عبارته البُعد الأوسع للصراع الانتخابي في البلد القوقازي الصغير، الذي تحدى منذ سنوات قيود الكرملين وانفتح على توسيع علاقات تحالف مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، فدفع أثماناً باهظة. ولا شك أن الانتخابات النيابية الأكثر سخونة في تاريخ جورجيا، شكّلت علامة فارقة في مسار تطور هذا البلد، الذي شهد كثيراً من التقلبات وخاض صراعات عدة، أسفرت في وقت سابق عن اقتطاع أجزاء منه. هذا الوضع أدّى إلى استفحال معركة سياسية داخلية حادة بين طرفين، يدين أحدهما بالولاء لـ«الحلم الأوروبي» التي ظل على مدى سنوات هاجساً لطموحات كثيرين رأوا أن تبليسي العاصمة يمكن أن تتحول إلى «باريس قوقازية» إذا نعمت بالأمن والاستقرار، وفقاً لمقولة رئيسة البلاد سالومي زورابيشفيلي. وفي المقابل، ثمة طرف آخر حظي بدعم كامل من جانب الكرملين، يؤكد على ضرورة المحافظة على علاقات وثيقة مع روسيا، رافعاً شعار «الحلم الجورجي» بديلاً عن الأحلام الطامحة لتحالفات مع أوروبا و«الناتو».

فاز «الحلم الجورجي» في الانتخابات العامة بجورجيا، التي أثير حولها كثير من الشكوك، بعد اتهامات واسعة بوقوع عمليات تزوير وحشو صناديق، وتأثير دعائي وتدخّل مالي واسع من جانب مؤسّس «الحلم» رجل الأعمال الملياردير بيدزينا إيفانيشفيلي. وهو شخصية مقرّبة من الكرملين، ويطلق عليه الجورجيون لقب «سيد جورجيا» كونه يدير فعلياً - من وراء ستار التمويل والدعم الواسع - الحكومة التي تدير شؤون البلاد منذ عام 2012.

وفق نتائج فرز الأصوات، حصل حزب «الحلم الجورجي» الحاكم على نحو 54 في المائة من الأصوات، مقابل أقل بقليل من 38 في المائة لتحالف المعارضة، الذي يحظى بدعم رئيسة البلاد، سالومي زورابيشفيلي، في الجمهورية التي يقوم الحكم فيها على نظام شبه رئاسي.

عندها، سارعت المعارضة، التي كانت توقّعات سابقة رشّحتها للفوز بأكثر من 52 في المائة من الأصوات، إلى رفض النتائج، وأعلنت أنها لن تشارك في جلسات البرلمان المنتخب على أساسها. ومع اشتعال مظاهر الاحتجاج في الشارع، بدا أن معركة دستورية وقانونية قد انطلقت للتوّ، إذ رفضت «لجنة الانتخابات» التشكيك بنتائج عملها، واستندت إلى دعم واسع من جانب الحكومة، التي حرّكت بدورها النيابة العامة لمواجهة تحالف المعارضة. بل شكّل استدعاء رئيسة البلاد للمثول أمام النيابة العامة من أجل تقديم أدلتها على اتهامات التزوير، تطوراً جديداً ولافتاً قد يمهد للإطاحة بها، وتقويض سلطات الفريق الذي يدعم «الحلم الأوروبي» نهائياً.

«تحدّي» الأدلة الواضحةباختصار، إذا لم تنجح زورابيشفيلي في تقديم أدلة واضحة ومقنعة على وقوع انتهاكات، فإنها ستواجه اتهامات قضائية بالخداع وتضليل الجورجيين وإطلاق اتهامات غير مُثبتة ضد أركان الدولة، بما فيها الحكومة والجهاز الانتخابي.

هنا يقول أنصار الرئيسة إن الهدف هو القضاء نهائياً على هذا التيار. وفي المقابل، تحذّر الحكومة من أن «المهزومين في المعركة الانتخابية يعدون لانقلاب دستوري كامل من خلال مقاطعة البرلمان وشلّ حكومة البلاد وتعيين حكومة تصريف أعمال تقنية».

وهكذا، اشتعلت الآن المعركة الداخلية، والشارع لا يكاد يهدأ، والمخاوف تعاظمت من مواجهات قد تسفر عن صراع داخلي دامٍ يعيد إلى الأذهان الأوضاع المعقدة التي خاضتها جورجيا خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال.

امتداد معركة أوكرانيا

الرئيسة زورابيشفيلي (تاس)

كان من الطبيعي أن تشكّل التطورات الساخنة في جورجيا حلقة متجددة في الصراع المحتدم بين روسيا والغرب. وطوال سنوات كان ينظر لجورجيا ومولدوفا (مولدافيا) المجاورة على أنهما ستكونان «ساحتي» المواجهة المقبلة بعد «إنجاز» مهمة الكرملين في أوكرانيا.

ومع أن الحكومة الجورجية نجحت في النأي بنفسها حتى الآن عن الصراع الدامي في أوكرانيا، ورفضت الانخراط في تنفيذ رزم العقوبات المفروضة على موسكو التزاماً بموقفها الداعي إلى التقارب مع الكرملين. وتحسباً لوصول نيران الحرب إلى الداخل الجورجي، وصل الانقسام الحاد في المجتمع الجورجي إلى «لحظة الحقيقة»، كما يقول ساسة جورجيون. ويبدو أن نتائج الانتخابات والتداعيات المنتظرة مع احتدام المواجهة الداخلية ستدفع أكثر إلى تعاظم التأثير الخارجي على البلاد، من طرفي روسيا والغرب.

لقد ظهرت أولى تلك التداعيات مباشرة بعد ظهور النتائج، إذ تلاحقت ردود الفعل الغربية الداعية إلى التحقيق في «الانتهاكات» مقابل تزايد الشعور بالنصر في روسيا، التي طغت فيها مقولات تؤكد هزيمة التيار الموالي للغرب في جورجيا، وأن الجورجيين اختاروا «الطريق الروسي».

يبدو أن نتائج الانتخابات ستدفع أكثر نحو تعاظم التأثير الخارجي على جورجيا من روسيا والغرب

وفي هذه الظروف، برزت تحركات رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، الذي يوصف بأنه «رجل بوتين في الاتحاد الأوروبي»، لتظهر مستوى امتداد المواجهة الروسية الغربية إلى جورجيا حالياً. فقد سارع أوربان إلى تهنئة الحزب الحاكم بـ«الفوز المقنع»، وتوجّه فوراً إلى تبليسي ليظهر دعمه الكامل. وبعكسه، دخل زيلينسكي على خط التوقعات المتشائمة بعد الانتخابات، فوجّه رسالة تحذيرية للغرب بأن خسارة جورجيا تعني «الهزيمة أمام الكرملين». إذ كتب الرئيس الأوكراني: «علينا أن نعترف بأن روسيا انتصرت اليوم في جورجيا. في البداية، استولوا على جورجيا، ثم غيّروا سياستها، وغيّروا الحكومة. والآن هناك حكومة مؤيدة لروسيا، وخيارها هو عدم الذهاب إلى الاتحاد الأوروبي. لقد غيّروا موقفهم. لقد فازت روسيا اليوم. سلبوا حرية جورجيا».

مولدوفا... المحطة التاليةفي حال لم تكن جورجيا كافية للغرب، يحذّر زيلينسكي من أن مولدوفا ستكون الاستحواذ التالي لروسيا، محذراً: «سترى أن روسيا تسير في الاتجاه ذاته. إنهم يريدون أن يفعلوا الشيء نفسه، وسيفعلونه إذا لم يوقفهم احد (...) الغرب يواصل التلويح بالخطوط الحمراء، لكنه لا يفعل شيئاً، وإذا استمر هذا الخطاب، فسيخسر مولدوفا خلال سنة أو سنتين».

ولكن، تعليقاً على هذه الكلمات، كتب المعلّق السياسي في وكالة أنباء «نوفوستي» أن «هذا يعني أن كييف تخيف الغرب الآن، ليس بالدبابات الروسية فقط في وارسو وبوخارست، بل بخسارة جورجيا ومولدوفا أيضاً». ويرى المحلل أن «روسيا لم تنتصر في جورجيا، ولم تُخضعها، بل انتصرت المصالح الوطنية والحسابات الرصينة في جورجيا. وبطبيعة الحال، ساعد الضعف العام للاتحاد الأوروبي والغرب كله، في الولايات المتحدة وأوروبا، إذ كانوا يرغبون في تغيير السلطة في تبليسي».

هذا السجال يظهر واقع الحال في ساحة المواجهة الجديدة بين روسيا والغرب، وسط توقعات بأن تكون الانتخابات البرلمانية الحالية حاسمة بالفعل لمستقبل جورجيا المنقسمة بين معارضة مؤيدة لأوروبا، وحزب حاكم موالٍ لروسيا... ومتهم بالانحراف نحو السلطوية. هذا، بينما تمارس موسكو تأثيراً على الناخبين والنتائج.

رأي تقرير أميركيعلى صعيد متصل، رأى تقرير لـ«معهد دراسة الحرب» في واشنطن، أن الكرملين ركّز جهوده للتأثير على الانتخابات لمساعدة حزب «الحلم» الحاكم على الفوز، وبالتالي إعادة تأسيس النفوذ الروسي على جورجيا بشكل كامل.

ويشير التقرير، في هذا السياق، إلى مخاوف حقيقية من تحوّل مؤسس حزب «الحلم» ورئيسه بيدزينا إيفانيشفيلي، إلى «لوكاشينكو جديد»، في إشارة إلى الرئيس البيلاروسي وحليف موسكو الأوثق ألكسندر لوكاشينكو.

ومن ثم، يلفت التقرير إلى أن موسكو استخدمت على مدى سنوات مجموعة من الوسائل للوصول على هذه النتيجة، أبرزها العمل العسكري المباشر من خلال احتلال أراضي أبخازيا وأوسيتيا الجورجيتين منذ عام 2008. كذلك، يدعي التقرير أن الكرملين استخدم وسائل الضغط الاقتصادي كرسوم الاستيراد المرتفعة والجمارك حتى العقوبات المباشرة على جيرانه الجورجيين لثنيهم عن مساعيهم بالانضمام للاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ما سبق ذكره، عمد الكرملين - وفقاً للتقرير - منذ شهور إلى إطلاق حملات إعلامية مباشرة في جورجيا، تصوّر روسيا على أنها قوة استقرار، وتروّج لفكرة أن الحكومة الجورجية المؤيدة لروسيا هي الخيار الأفضل لمستقبل جورجيا.

طبيعة جورجيا الجميلة (غيتي)

 

حقائق

جورجيا: استقلال مخضّب بالثورات والدماء

جورجيا كانت بجبالها الشاهقة وسواحلها على البحر الأسود تعد «لؤلؤة» الدولة السوفياتية في زمان مضى. وكانت منتجعاتها الساحرة تعد على مرّ العصور محطّ الأنظار، ومقرات الراحة والضيافة للقياصرة والزعماء، الذين تعاقبوا على مقعد الحكم في الكرملين.

نجحت هذه الجمهورية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في أن تخطو سريعاً، مثل جمهوريات حوض البلطيق، نحو بناء حكم جديد قضى على الفساد المستشري المزمن، وكرّس مبادئ تداول السلطة وبناء دولة حديثة. إلا أنها، رغم ذلك، ظلت حبيسة أقدار التاريخ والجغرافيا. ولم تصلح مظاهر السيادة والعلم والنشيد الوطني ومشاعر سكان الجبال التواقة إلى الاستقلال، في تجاوز حقيقة أن هذا البلد الصغير يشكل امتداداً طبيعياً لمنطقة النفوذ الروسي في جنوب القوقاز.

التطورات التي شهدتها جورجيا خلال تاريخ قصير من «الاستقلال» أظهرت صعوبة تخلص بلد صغير ومحدود الموارد من هيمنة «الأخ الأكبر». فالبلد الذي أعلن انفصاله عن الاتحاد السوفياتي قبل أشهر معدودة من إعلان الوفاة الرسمية للدولة العظمى في السابق، سرعان ما خاض حرباً أهلية دامية، قادت بعد سنوات إلى انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بدعم روسي. وتم تكريس أمر واقع جديد، عزّز وجود القوات الروسية في الإقليمين. ولم تمر سنوات قليلة بعد ذلك حتى جاءت «ثورة الزهور» التي أطاحت الرئيس الجورجي الأول، إوارد شيفارنادزه، ووضعت خططاً للتقارب مع الغرب.

هذه الأحداث، إلى جانب اتهامات بتورّط جورجيا في «حرب الشيشان الثانية»، أدت إلى تدهور حاد في العلاقات مع روسيا. وغذّى هذا النزاع أيضاً دعم ومساعدة روسيا المفتوحة لانفصال الإقليمين. ولم تنجح الاتفاقات التي أبرمها الطرفان في ظروف معقدة للغاية في تخفيف حدة التوتر، برغم التزام موسكو بتنفيذ بنود حول سحب القواعد العسكرية الروسية (التي يعود تاريخها إلى العهد السوفياتي) من محيط مدينتي باتومي وأخالكالاكي. إذ جاءت الحرب الروسية الجورجية صيف عام 2008 لتكرس اقتطاع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية نهائياً بعدما وصلت الدبابات الروسية إلى العاصمة تبليسي في غضون 3 أيام من المعارك الضارية، التي أجبرت الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي على الاستسلام بوساطة أوروبية، قضت بالقبول بالأمر الواقع الجديد من دون الاعتراف رسمياً باستقلال الإقليمين، اعترفت بهما روسيا وعدد محدود من حلفائها، في مقابل انسحاب القوات الروسية من الأراضي الجورجية.

هذه الخلفية مهّدت للمواقف الجورجية لاحقاً، لجهة دعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا. لكن في الوقت ذاته، برز تيار واسع داخل جورجيا حظي بدعم الكرملين، وطالب بالانكفاء عن «الحلم الأوروبي» وتعزيز الروابط مع الجارة الكبرى روسيا. وردّد أصحاب هذا التيار مقولة تعكس تنامي القلق من أن تلاقي جورجيا مصيراً مماثلاً لأوكرانيا في حال واصلت عنادها وتحديها لواقع الجغرافيا ودروس التاريخ.