قناة السويس الأولى.. والمفارقة التاريخية

قناة السويس الأولى.. والمفارقة التاريخية
TT

قناة السويس الأولى.. والمفارقة التاريخية

قناة السويس الأولى.. والمفارقة التاريخية

تستعد مصر بعد مائة وواحد وأربعين عامًا من الافتتاح الأول لقناة السويس، للافتتاح الثاني لمجري قناة السويس الجديدة الموازية، ذلك المسار الذي يصل طوله لقرابة اثنين وسبعين كيلومترًا بما يعظم من القيمة الاستراتيجية ويوسع التجارة الدولية. ولكن الحقيقة الثابتة التي لا خلاف عليها أن ظروف شق القناتين قد اختلفت تمامًا، كما أن المستقبل في الحالتين سيختلف تمامًا، فعلى الرغم من أن مشروع إنشاء قناة السويس تاريخيًا منذ افتتاحها عام 1869، كان من المفترض أن يكون فاتحة خير على مصر في القرن التاسع عشر، فإن الظروف السياسية والنمط الاستعماري في العالم آنذاك حول هذا المشروع العظيم إلى أداة لضرب الاستقلال المصري، انتهى باحتلال البلاد في عام 1882، ثم باندلاع حرب عام 1956 المعروفة بـ«العدوان الثلاثي»، عندما سعت بريطانيا لمحاولة إعادة احتلال مصر مرة أخرى بعد استقلالها وجلاء قواتها عنها، ولكن اليوم يختلف تمامًا عن البارحة.
إن فكرة وصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر لم تكن وليدة القرون الحديثة؛ بل إن هناك أفكارا منفذة بالفعل سعت إلى ذلك خلال ألفيات سابقة ولو بشكل غير مباشر. ولعل مشروع «قناة سوزيستريس» التي ربطت بين البحرين الأحمر والمتوسط من خلال نهر النيل، يعد مثالاً على الفكرة البدائية لقناة السويس لتسهيل التجارة البحرية عبر الأراضي المصرية. ولكن مع مرور الوقت اندثرت هذه القناة وظلت التجارة الدولية تمر من خلال المتوسط إلى ميناء السويس على ظهور الإبل، فكان ذلك يرفع سعر التكلفة والوقت في آن معا. ومع الصعوبات المرتبطة بهذا الخط التجاري، فقد كان أفضل وأقصر الطرق المتاحة للتجارة بين الشرق والغرب، ولكن الخريطة التجارية والاستراتيجية الدولية تغيرت بشكل كبير عقب الفتوحات الجغرافية المختلفة، خاصة عندما اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، فحولوا جزءًا كبيرًا من التجارة الدولية حول القارة الأفريقية، وهو ما ضرب مصدرًا مهمّا للدخل المصري، وقلل من أهمية البلاد الاستراتيجية، مما دفع الدولة المملوكية للدخول في حرب بحرية شهيرة هي معركة «ديو» البحرية عام 1509 للقضاء على هذا الطريق الجديد. ولكن القوات المصرية - العثمانية انهزمت أمام القوة البحرية البرتغالية، وتم تثبيت وضعية التجارة الدولية في أغلبها عبر طريق رأس الرجاء الصالح، ودخلت مصر عصرًا من الهبوط المالي والاستراتيجي النسبي إلى أن جاءت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 بقيادة نابليون بونابرت. وقد درس الفرنسيون فكرة ربط البحر المتوسط بميناء السويس على البحر الأحمر، ولكن التقدير الخاطئ لعلماء الحملة الفرنسية دفع للاعتقاد بأن منسوب البحر الأحمر أعلى من المتوسط، مما سيؤدي إلى غرق الأراضي، فلم تخرج الفكرة إلى حيز النور. ولكن مع مرور الوقت والارتباط القوي بين فرنسا ومصر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، دفع فرديناند دليسيبس، أحد الشخصيات الفرنسية المغامرة وأقرب أصدقاء للأمير سعيد الذي أصبح بعد ذلك والي مصر، لدراسة المشروع مرة أخرى، وقام بطرح الأمر على سعيد باشا عام 1854، مقترحًا بناء ميناء في المتوسط باسم بورسعيد، نسبة له، ثم شق قناة تربط بين البحر المتوسط والبحيرات المختلفة، وأخرى من ميناء السويس إلى البحيرات. وبالفعل وافق والي مصر على إنشاء شركة لهذا الغرض في العام نفسه على أن تؤول إدارتها إلى مصر بعد تسعة وتسعين عامًا من تاريخ الافتتاح. وقد تم منح مصر ما يقرب من خمسة عشر في المائة من عوائد الشركة، وعشرة في المائة للمؤسسين، وخمسة وسبعين في المائة للمساهمين.
وعلى الرغم من رجاحة المشروع، فإن بريطانيا كانت رافضة له؛ حيث كانت لها أطماعها في مصر منذ الحملة الفرنسية على البلاد، خاصة أنها كانت تتحكم في مجرى التجارة بين بريطانيا ومستعمراتها في الشرق وفي قبلها الهند. وكانت فكرة أن يسيطر الفرنسيون على هذه القناة الجديدة كارثية في ظل الصراع البريطاني الاستعماري مع فرنسا، فعمدت بريطانيا للضغط على المصارف الدولية لوقف تمويل هذه الشركة. وبالتالي وجد ديليسبس نفسه في موقف حرج للغاية اضطر معه للبحث عن وسيلة للاكتتاب العام في الشركة، فطرح أسهمها في البورصات الدولية. ولجأ ديليسبس مرة أخرى لصديقه والي مصر لإقناعه بشراء كثير من الأسهم بما يفوق طاقة الخزانة المصرية، ولكن الرجل فعل ذلك باستدانة واسعة بفائدة عالية، فكانت هذه بداية الأزمة المصرية الحقيقية التي تفاقمت على مدار السنوات التالية.
وبالفعل بدأ الحفر في القناة بدءا من 1859 بسواعد مصرية كفلها والي مصر للشركة. والثابت تاريخيًا، رغم محاولات البعض تجميل الصورة، أن العمال المصريين دفعوا أثمانًا باهظة لهذا المشروع في ظل ظروف أقرب للسخرة توفيرًا للنفقات، فمات ما يقرب من ربع القوة العاملة في القناة في ظل ظروف غير إنسانية يدفعها عدم اكتراث القيادة السياسية في البلاد وجشع المستثمرين والمغامرين الغربيين. وعندما آل حكم مصر إلى إسماعيل باشا، فإنه وجد مصر تمر بظروف مالية صعبة للغاية أدت إلى مزيد من الاستدانة لضمان استمرار العمل في القناة، وبعد عشر سنوات من الحفر والعمل الشاق على أكتاف المصريين، جاءت لحظة الافتتاح العظيمة في 1869 التي شارك فيها كبار الساسة، وعلى رأسهم أوجوني زوجة الإمبراطور نابليون الثالث. وقام والي مصر بالاستدانة مرة أخرى لدفع نفقات الاحتفالات المبالغ فيها بشكل فج التي تقدرها بعض المصادر التاريخية بقرابة خمسة عشرة ملايين جنيه مصري، وهو ما دفع بالبلاد إلى حافة الإفلاس، خاصة في السنوات القليلة التالية. وتزامنت هذه الحقبة مع التزام مصر بتسديد رهنها لمحاصيل القطن المصري الذي كان يعد أهم منتجات البلاد، في الوقت الذي انتهت فيه الحرب الأهلية الأميركية وعاد القطن الأميركي ينافس القطن المصري، مما أدى لهبوط أسعار هذه السلعة على المستوى الدولي، فوضع ذلك مزيدًا من الضغوط على مصر.
وعند هذا الحد اضطر إسماعيل باشا إلى بيع أسهم مصر في قناة السويس بمبلغ زهيد وصل إلى عشرين مليون جنيه مصري، وكان المشترى بطبيعة الحال هو بريطانيا العظمي، فلقد رأي رئيس الوزراء بنيامين ديزرائيلي فرصته الذهبية ليضع يده على أسهم الشركة فيحقق بالمال ما لم يكن يستطيع تحقيقه بالقوة العسكرية، وذلك بمزيد من المكاسب المالية، فقد تضاعفت أسعار هذه الأسهم وعائداتها أضعافًا مضاعفة. وبدأ الخراب السياسي والمالي يحل على مصر تدريجيًا، مما دفعها لمزيد من الاستدانة ووضع خزانتها تحت الوصاية الفرنسية والبريطانية المشتركة عند حد معين، وتبع ذلك إقالة إسماعيل بضغوط دولية، وحل بدلاً منه الخديوي توفيق الذي كان أضعف من مقاومة الغربيين، فدانت البلاد للنفوذ البريطاني التدريجي، وعندما اندلعت الحركة العرابية بقيادة أحمد عرابي ضد الاستبداد، بدأت بريطانيا تحرك أسطولها مستغلة الظروف لاحتلال مصر. وعلى الرغم من تأكيدات شركة قناة السويس بأن القناة محايدة ولا يتم استخدامها في الأغراض العسكرية، فقد استخدمها الأسطول البريطاني للأغراض العسكرية، وانهزم الجيش المصري في معركة التل الكبير واحتلت بريطانيا مصر في عام 1882.
إن هذه القصة الحزينة لإنشاء قناة السويس بأرواح وأموال مصرية كثيرة، تمثل نموذجًا حقيقيًا لسوء الإدارة السياسية والمالية والانتهازية الحقيقية، وعلى الرغم من أنه كان مفترضًا أن تكون هذه القناة مصدرا للخير والرخاء لمصر وشعبها في القرن التاسع عشر، فإن الاستعمار الدولي بالتوازي مع ضعف القيادة السياسية في مصر أدي إلى إفلاس البلاد واحتلالها الفعلي. ومع ذلك، فقد أصبحت مع مرور الوقت سندًا حقيقيًا لمصر ودورها الإقليمي بعد أن استقرت أوضاع القناة باستقرار الأوضاع السياسية. وأصبحت القناة اليوم تمثل مساهمة كبيرة للخزانة المصرية وللقيمة الاستراتيجية المتعاظمة لها على المستوى الدولي.
وعلى الرغم من مظاهر الاحتفال بمناسبة افتتاح القناة عام 1869 واليوم، فإن واقع الأمر يشير إلى الاختلاف التاريخي لحفر القناتين، فاليوم يفخر المصريون بهذه القناة التي أنشئت بسواعدهم وأموالهم على حد سواء وبلا تدخلات سياسية أجنبية في الشأن المصري. وقصة افتتاح قناة السويس اليوم لا تمثل للمصريين فرحة بتحقيق هدف استراتيجي بسواعد وأموال مصرية في وقت قياسي فحسب، ولكنها تمثل لكثيرين مصالحة مع العناء التاريخي، ودواءً حقيقيًا لمرارة واحدة من أصعب الفترات التاريخية في حياة مصر الحديثة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.