موجة حر {تشوي} السوريين.. وأزمتهم تزداد دون كهرباء وماء

المولدات الكهربائية تحرم دمشق هواءها العليل

أهالي وادي النصارة في ريف حمص يحاولون إخماد النيران (رويترز)
أهالي وادي النصارة في ريف حمص يحاولون إخماد النيران (رويترز)
TT

موجة حر {تشوي} السوريين.. وأزمتهم تزداد دون كهرباء وماء

أهالي وادي النصارة في ريف حمص يحاولون إخماد النيران (رويترز)
أهالي وادي النصارة في ريف حمص يحاولون إخماد النيران (رويترز)

«الأسد أو نشوي البلد» عبارة كتبها جنود النظام السوري بالخط العريض على جدران إحدى المناطق في ريف دمشق لدى اقتحامها والسيطرة عليها قبل عامين، وحينها لم يدرك الجنود الذين كتبوها ولا السوريين الذين قرأوها أن تجتاح البلد موجة حر تتولى مهمة شوي ما تبقى من البلد ومن تبقى فيها من سكان يعانون الأمرين من غياب الخدمات بعد عجز الحكومة عن توفير الكهرباء والماء، فضاعفت ساعات التقنين بحجة نقص الوقود المشغل لمحطات التوليد، بالتزامن مع موجة الحر الشديدة التي تشهدها سوريا منذ عشرة أيام والتي تخطت فيها درجات الحرارة في دمشق الـ45 درجة.
نبال.ع، من سكان وسط دمشق تقول إنها هربت من الحر وانقطاع الكهرباء وقلة الماء في دمشق إلى بيروت لكنها هناك صدمت بأزمة النفايات، فعادت أدراجها إلى دمشق وتقول: «لا أستطيع القيام بأي عمل طيلة اليوم في البيت أبلل الستائر والشراشف والمناشف وأستلقي بينها كالقتيلة بانتظار نسمة هواء باردة». أما سوسن التي هاجر أولادها الأربعة ومكثت وحيدة فتقول إنها لجأت إلى استخدام مروحة مزودة بشاحن كهربائي لكنها لم تستخدمها سوى يوم واحد لأن الكهرباء العادية مقطوعة طوال الوقت ولا يمكن شحن المروحة.
في حين يحذر أبو غسان من تشغيل المكيف أثناء النوم لأن الكهرباء تنقطع وتأتي بشكل فوضوي وبتوتر متباين تسبب بحريق في أحد المنازل بالبناء الذي يقطنه في منطقة دمر، وفيما يخص بطرق التغلب على الحر الشديد فينصح أبو غسان السوريين بأكل البطيخ والتخلي عن الدش البارد لشح المياه والاستعاضة عنه برش الملابس بالماء، مؤكدا وبسخرية مرة: «قالوا إنهم يريدون شيّنا وها نحن نُشوى الآن».
وتتأثر سوريا والمنطقة عموما بموجة حر توقعت تنبؤات مديرية الأرصاد أن مدتها ستكون طويلة بشكل لافت. إلى الحد الذي يحرم السوريين من النوم في بيوت محرومة من التكييف والتبريد جراء انقطاع الكهرباء ليصل في بعض مناطق دمشق إلى 17 ساعة في اليوم الواحد. يقوم خلالها أصحاب الشواغل الصغيرة والمحلات التجارية باستخدام مولدات تزيد من ارتفاع الحرارة وتلوث الهواء، وتشير إلى ذلك رانية. م بالقول: «الحياة في دمشق باتت صعبة جدا نهرب من حر البيوت إلى الشوارع فنجد المولدات الكهربائية بضجيجها ورائحتها تخنق الفضاء وتزيد الحرارة فيغدو هواء دمشق خانقا كاويا بدل أن يكون رطبا عليلا كما عرفناه وكما اشتهرت به».
وخلال ساعات النهار تخف الحركة في شوارع العاصمة على نحو غير مسبوق، بينما يحمل سائقو وسائط النقل العامة عبوات مياه مثلجة ومناشف مبلولة بالماء للتبريد. ويقول أبو أحمد سائق على خط المهاجرين إنه كان يملأ قنينة الماء التي يحملها في سرفيسه من السبيل عند الجامع على طريقه، ودوما ماؤه عذبة باردة، لكن خلال موجة الحر باتت مياه السبيل ساخنة، مما جعله يعود إلى طريقته القديمة في تجميد المياه في الثلاجة لاستخدامها في اليوم التالي.
ومع غروب الشمس يبدأ الناس بالزحف إلى الشوارع والحدائق والمقاهي والمطاعم هربا من الحر الخانق، والملل، وبينما كثر عادوا ليناموا على الشرفات غير مكترثين بأصوات القصف والاشتباكات على مناطق الريف. هناك من شد رحاله إلى مناطق الساحل التي لا تقل معاناتها على العاصمة من حيث انقطاع الكهرباء، إلا أن وجودها على البحر وبقاء الغطاء النباتي يجعل مناخها أكثر قبولا من دمشق التي دمر ريفها بشكل شبه كامل وأحرقت غوطتها وخرب غطاؤها النباتي، ليتحول مناخها العليل إلى مناخ صحراوي جاف أظهرتها بوضوح موجة الحر الشديد، ليضاف إلى معاناة السوريين معاناة الطبيعة، البرد القارس شتاء، والحر الكاوي صيفا. حتى عاصفة الغبار التي هبت على المملكة الأردنية أول من أمس لم يسلم منها السوريون، وسجلت خمس حالات وفاة في مخيم الزعتري للاجئين السوريين، كما أصيب كثير بضيق في التنفس بسبب الغبار ونقلوا إلى المستشفى لتلقي العلاج، وكذلك تضرر كثير من الخيام وانعدمت الرؤيا في المخيم الذي يضم أكثر من أربعمائة وثلاثين ألف لاجئ سوري. فيما سجلت حالة وفاة لطفل بسبب الحر في ريف دمشق.
وحذرت عدة جهات أهلية وحكومية من التعرض للشمس، كما وزعت منظمة الهلال الأحمر مناشير تتضمن الإجراءات الوقائية لمقاومة موجة الحر التي تؤثر على البلاد حاليًا، داعية الأهالي لعدم التعرض المباشر لأشعة الشمس. لا سيما في أوقات الذروة والإكثار من شرب المياه.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)