تراجع الآيديولوجيات وتقدم الآيديولوجيين

المعارك المكشوفة.. في استهداف العلاقات المصرية – السعودية

جندي من الشرطة المصرية وجنديان من الجيش أمام مدخل سجن طرة في القاهرة الذي يحتجز فيه عدد من المتطرفين أمس (رويترز)
جندي من الشرطة المصرية وجنديان من الجيش أمام مدخل سجن طرة في القاهرة الذي يحتجز فيه عدد من المتطرفين أمس (رويترز)
TT

تراجع الآيديولوجيات وتقدم الآيديولوجيين

جندي من الشرطة المصرية وجنديان من الجيش أمام مدخل سجن طرة في القاهرة الذي يحتجز فيه عدد من المتطرفين أمس (رويترز)
جندي من الشرطة المصرية وجنديان من الجيش أمام مدخل سجن طرة في القاهرة الذي يحتجز فيه عدد من المتطرفين أمس (رويترز)

رغم أن دعوى الالتزام الآيديولوجي، اليساري والإسلامي، لم تعد معلنة بوضوح، فإنها لم تنفض بعد، حيث لا تزال حية تبعث من جديد، مع الثوران والاستقطاب السياسي العربي والأزمات الوطنية والإقليمية.
لا يخفي هذا التحيز أو الالتزام خفض النبرة الآيديولوجية، أو التحول للفكرة المدنية أو الديمقراطية، التي صار كثيرون من الأصوليين يتشحون بوشاحها، كما اتشح بوشاحها قوميون سابقا، رغم أنها كانت دائما قابلة للإزاحة من أفكارهم وممارستهم إلا نادرًا.
أقنعة مستحدثة، وتحولات فكرية، لكنها لا تخفي الولاءات الآيديولوجية لأفكار واتجاهات معينة، تكون إيران أو تركيا أو ربيع الإسلاميين السابق أو الذاكرة الناصرية، كل حسب تطوراته وتاريخه السابق.
لكن الغريب المثير هو توظيف الأضداد الآيديولوجية لبعضها بعضا في استهداف العلاقات والتحالفات الإقليمية في المنطقة، وخصوصا التقارب المصري - السعودي - الخليجي الصاعد في وجه أخطار التدخل أو التمدد الإقليمي المحاذية.
حيث يستهدفون بآليات متشابهة، تعكير الأجواء بين الأشقاء، التي تتأكد كل يوم، وكان آخرها في إعلان القاهرة الأخير في 29 يوليو (تموز) الحالي بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، الذي تمخض عنه الشروع في إنشاء القوة العربية المشتركة والتكامل الاقتصادي والعسكري الوثيق بين البلدين.
فيما يلي سنرصد نماذج من هذه الخطابات المتحيزة وتوظيفها التأويلي المكشوف للوقائع دون الواقع، وللشوارد دون للنسق، فتنتقي ما شاءت دليلا وتمرر ما أرادت حجة دون انتباه لما يناقضها في باطن خطابها ذاته.
من أمثلة هذا التوظيف أو الاصطياد الآيديولوجي اعتماد بعض الأصوات الخليجية لمواقف شاردة تعبر عن أصحابها قبل أن تعبر عن النظام أو السياسة أو المجتمع والنخبة المصرية بشكل رئيسي.
من ذلك توظيف البعض لمقال الكاتب الأستاذ فهمي هويدي المنشور في 19 يوليو الماضي في صحيفة «الشروق» المصرية بعنوان «حروب أبوظبي»، الذي عبر عن كثير من التحيزات التي تسكن كاتبه، وهو ما يصعب تفسيره دون الرجوع لموقف الإمارات الداعم لمصر في 30 يونيو (حزيران) وما بعدها! ويكفي فيه أن صاحبه كان الوحيد في العالم الذي لا يرى «داعش» والتطرف خطرا تنبغي مكافحته، ولا بد من المبادرة لهذه المكافحة والمواجهة.
وهو ما تمكن قراءته كذلك في البيان الذي أصدره الداعية السعودي عوض القرني بعد أحكام الإعدام المستأنفة، التي لم تكن نهائية في مصر في 15 يونيو سنة 2015 داعيا للجهاد في مصر، وأن «ما يجري فيها حرب لاستئصال الإسلام» هكذا قولا واحدا لا يمكن أن يلتقي مع النظام ولا الخطاب السعودي السائد ولكن يرتبط بدعوة آيديولوجية سابقة قال بها القرضاوي في 27 يوليو سنة 2013، أو ما صدر من بيانات تزامنت معه من الاتجاه نفسه.
في السياق نفسه، حملت بعض الأصوات الخليجية المتحيزة ضد مصر، النظام المصري بعض آراء الأستاذ محمد حسنين هيكل في حواره مع جريدة «السفير» اللبنانية بتاريخ 21 يوليو من العام الحالي، الذي أجراه معه رئيس تحريرها في منتجع بالساحل الشمالي، ذكر فيه إعجابه بما اعتبره انتصارًا إيرانيًا، بالوصول لاتفاق نووي في 14 يوليو الماضي، وأن إيران وتركيا تمثلان المواجهة الحقيقية للسياسة الأميركية في المنطقة، وأن مصر مشغولة ومأزومة، والسعودية وسائر دول الخليج كذلك!
وهو ما حاولت توظيفه أصوات خليجية متعددة وصفت الرجل بأنه مفكر النظام المصري وواضع سياسته، وهكذا تلتقي الأضداد الآيديولوجية في توظيف كل منها الآخر، مستهدفا علاقة واحدة!
كان التحيز واضحا تشي به كلمات هيكل نفسه، فهو لم يخفِ إعجابه بإيران منذ زيارته الأولى لها في عهد مصدق سنة 1951 وزيارة خاتمي له في منزله بالقاهرة، ومعاداته لتجربة السادات ومبارك وانقلابهما على الناصرية! وعدم تعاطفه المستقر والقديم مع السعودية بالخصوص! ولكن هل يجوز سحبها على نظام أكد في حواره أنه «ليست لديه رؤية واضحة عما ستكون عليه مصر مستقبلا».
من الجهة الأخرى، وجدت بعض الأصوات المصرية المتحيزة في الإعلام المصري ما كتبه بعض الصحافيين والمغردين السعوديين من أن ثمة تغيرًا في السياسة السعودية والخليجية تجاه مصر مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز العرش في 23 يناير (كانون الثاني) العام الحالي، بل تم تحميل النظام والحكم في السعودية، رؤى للدكتور خالد الدخيل وتغريدات لصحافيين وإعلاميين آخرين تحدثوا فيها عن تحولات في الموقف السعودي تجاه مصر، رغم تأكيدات الخطاب الرسمي ووزير الخارجية عادل الجبير، أكثر من مرة أن الروابط السعودية المصرية تزداد توثيقا، وأنها جناحا الأمة العربية اللذان يرفرفان من أجل حماية شعوبها، وأن مصر جزء أساسي من تحالف دعم الشرعية في اليمن، كما كان في 23 و30 يوليو الماضي.
كان رصدنا مبكرا للتحيزات الآيديولوجية لدى الأستاذ هيكل والكثير من الأصوات الآيديولوجية منذ قديم، وسنحاول التمثيل عليها فيما يلي:
صرح الأستاذ هيكل بعد ساعتين من تنحي مبارك في 11 فبراير (شباط) سنة 2011 قائلا: «شاهدنا حدثًا لا مثيل له في التاريخ المصري.. نضج جيل ونضج شعب وكدنا نفقد الأمل.. كنت أقول: يا ليل الصب متى غده» (برنامج العاشرة مساء - الدقيقة الثانية) وفي 20 فبراير من العام نفسه صرح بقوله عن ضرورة التنحي: «كان على مبارك ألا يعاند التاريخ وأن يتنحى» (من حوار مع «المصري اليوم» في هذا التاريخ) ولكننا وجدناه في 23 سبتمبر (أيلول) من العام نفسه في حوار مع جريدة «الأهرام» يقول بعد اندلاع الثورة في ليبيا وسوريا (حيث التقارب الآيديولوجي): «لست مستبشرا بربيع مصر ولا بغيرها»، ويقول في وصف الثورات العربية الأخرى: «ليس ربيعا عربيا ولكن خريطة تقسيم دولي للمصالح والموارد على نمط سايكس بيكو»، وهو التحول نفسه الذي أصاب أصواتا أخرى رحبت وهللت للثورة المصرية لكن توقفت عندما اندلعت أخواتها ضد نظام الأسد مثلا! وهو ما يمكننا النمذجة له في تصريحات السيد نبيل بري والسيد حسن نصر الله في الموقف من ثورة مصر ومن الثورة في سوريا فيما بعد، ولكن يحسب لهم على عكس هيكل تأييدهم للثورة ضد نظام القذافي لارتباطه بحادث اختفاء السيد موسى الصدر والعداوة التاريخية بينهما! ففي 13 فبراير سنة 2011 وصف السيد نبيل بري الثورة المصرية بأنها «أرقى ما سمع وقرأ عن ثورات»، لكنه في 21 أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه يصف الثورة السورية بأنها «مؤامرة تمهد لسايكس بيكو جديد».
هكذا التحيزات لا تغادر أصحابها وتكشف لا موضوعية الحبس والتحيز الآيديولوجي وولاءاته.
مع ارتباك دولي وإقليمي تجاه الأوضاع في المنطقة، لا يمكن فيه الحسم بشيء، وتبدو كل المسارات محتملة، وجدت التنظيمات والأصوات الآيديولوجية المختلفة فرصها للعودة إعلاميا وخطابيا من جديد، ولكن بشكل مختلف يمكننا تحديد عدد من ملامحه فيما يلي:
تتماهى الخطابات والأصوات الآيديولوجية العائدة والمستعادة في اعتمادها على التخفي خلف الجزئي والتفصيلي، وتجاهلها نقد آيديولوجياتها ومنطلقاتها السابقة، مع عدم إعلانها أو الترويج لها، فهي تتشح بلباس مصلحة النظام الذي تدافع عنه! أو بلباس الديمقراطية والمظلومية والتحديات الجديدة! وهو ما يجد مناخا مناسبا لهذا في تسارع الأحداث والحوادث ومساحات التغريدات في آن، فتوابع الزلازل المستمرة لا تتيح لهم غير اقتطاف ما شاءوا.
حسب هوية الكاتب تكون درجة الوضوح الآيديولوجي، وتعبيره عنها، فيبدو الدعاة الإسلاميون أكثر وضوحا في التعبير عن هذه الانتماءات والولاءات السابقة، ويسوقونها بلغة تعبوية ومظلومية وهوياتية غالبا (مثل السعودي الدكتور عوض القرني والداعية سلمان العودة) من الكتاب المتعاطفين معهم (مثل فهمي هويدي وآخرين)، أو غيرهم الذين يطرحون رؤاهم التحليلية الواقعية من جانب آخر كالموقف والعلاقة بين مصر والسعودية والخليج، على خلفية «عاصفة الحزم» التي انطلقت تلبية لنداء الشرعية اليمنية في 24 مارس (آذار) العام الحالي، أو في الموقف الإيجابي من إيران والعداء لأميركا (الأستاذ محمد حسنين هيكل والأستاذ فهمي هويدي نموذجا)، سواء في الإعجاب بإيران الذين يجتمعان فيه، أو في الموقف السلبي الذي يردده الأول تجاه المملكة العربية السعودية، من بقايا الناصرية، أو في موقف الأخير من دولة الإمارات، كما كان في مقاله في 19 يوليو العام الحالي حول مبادراتها التي وصفها حروبًا!
رغم أنها المرة الثالثة أو الرابعة التي تعلن فيها تركيا نيتها وتوجهها لمنطقة عازلة في الشمال السوري، تحولت لمنطقة آمنة، ثم تركزت لضرب الأكراد والعمال الكردستاني تحديدا، مع تنازل للولايات المتحدة لاستخدام قاعدة أنجرليك التي طالما استخدمتها في السابق، يرى الخطاب المتحيز لتركيا وتحالفها مع الإسلاميين في المنطقة ومعاداة النظام المصري وحراك 30 يونيو، أن هذا حزم في سوريا قادم! دون أن يفسروا لنا تأخره المستمر حتى الآن منذ بداية إطلاق دعوى المنطقة العازلة في مارس سنة 2012.
كذلك خطابهم مع انطلاق «عاصفة الحزم» تلبية لنداء الشرعية في اليمن في 25 مارس العام الحالي، كان ترويجهم لضرورة لاستعادة العلاقة مع «الإخوان» والإسلاميين عموما، وليس فقط الإصلاح في اليمن على حساب العلاقة مع مصر ونظامها بعد 30 يونيو، هكذا حاولت الأصوات الآيديولوجية الخليجية المتحيزة للإخوان وضد هذا النظام بعدها، مع تجاهل للسياقات بين العلاقتين!
وكان من تناقض الأصوات الآيديولوجية الخليجية رفضها دعم الشرعية في ليبيا، أو التدخل العسكري المصري فيها ردا على ذبح تنظيم داعش بدرنة 21 مصريًا، وهو ما تكرر مرات كثيرة بحق أقباط مصريين، بينما يؤيدون وبقوة التدخل في سوريا و«عاصفة الحزم» بقوة!
تكتيكات غير ظاهرة تستهدف في مركزها ودورانها استهداف هذه العلاقة الصاعدة بين مصر والسعودية والخليج، واستبدال تركيا أو جماعات الإسلام السياسي بها، وهذه أمثلة لا حصر، وبينما يغضب هؤلاء حين تكون عملية للتنظيمات الإرهابية في تركيا أو في الخليج، نجد التجاهل لرثاء شهدائها وضحاياها في مصر والتبرير لها بممارسات النظام، لتبقى «داعش» وفق هذا المنطق مدافعة، تطالب بالديمقراطية في مصر، كما يبطن الخطاب الإخواني والخطاب المتحيز له غير المعلن لذلك.
رغم تراجع كثير من الآيديولوجيات وانكسارها، وعودا وتجربة، نظرا وتطبيقا، فإن بقايا حنينها والعجز عن التحرر من أسرها وحبسها، وانتصارية الإصرار الآيديولوجي على ماضيه التليد القريب أو البعيد، تمثل عوائق قوية لهذا التحرر.
هذه النوستالجيا، الحنين الأول، قد يكون ناصريا أو بعثيا أو إخوانيا أو جهاديا! وهنا يلتقي اللاوعي بالوعي، ويتحرك العقل بإرادة العقيدة لا إرادة المعرفة، وبوعي الآيديولوجيا الزائف لا بالوعي المعرفي الموضوعي والمحايد الذي يربط الوقائع بواقعها وكل حالة ماثلة بسياقاتها!
إنها شظايا الآيديولوجية تفور مع الثوران والزلزالية العربية منذ عام 2011 مرورا بمحطاتها التالية، من دعوى الربيع إلى ربيع الإسلاميين عام 2012 إلى انكسارهم عام 2013 وصولا للربيع الداعشي وصدام الجهاديات الطائفية.
المثقف الآيديولوجي، منظما كان أم غير منظم، تنطلق تحليلاته غالبا من تحيزاته التي قد لا يعلنها، فعادت دعوى الالتزام التي انتشرت في خمسينات وستينات القرن الماضي في الأفكار اليسارية والقومية، أو السمع والطاعة والإخلاص في خطاب الإسلاميين، لكن بخطاب تمويهي لا يعلن هذه التحيزات غالبا ولا يعلن هدفه الأصلي منها.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.