أسئلة «اليونيسكو» الملهِمة في عالم قد تغيَّر!

كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)
كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)
TT

أسئلة «اليونيسكو» الملهِمة في عالم قد تغيَّر!

كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)
كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)

سؤال واحد على الأقل من أسئلة «اليونيسكو» الاستراتيجية، مرشَّح لأن تجيب عنه «دول الجنوب العالمي» في الأيام القادمة، هو: من نحن؟ لأنه قد يحدد مدى إسهام القوى الناهضة في صياغة نظام عالمي تعددي.
وتعد منظمة «اليونيسكو» أحد روافد الفكر الجوفي المحرك للسياسة العالمية، التي برهنت على صحة مقولة لوي ألتوسير بأن «أغلب المعارك الفكرية هي صراعات سياسية داخل الفكر».

(1)
أسئلة «اليونيسكو» ترتبط عادةً بتحديات سياسية وتحولات تاريخية كبرى تتطلب استجابة فعّالة من المثقفين والمبدعين. وعقب نهاية الحرب الباردة وإعادة توحيد ألمانيا في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 1990، طرحت المنظمة سؤالين محددين على المثقفين في الغرب: مَن نحن؟ وما الذي لا نعرفه؟ في محاولة للتفكير في وجهٍ جديدٍ للقارة الأوروبية القديمة، التي ظلت أراضيها مقسَّمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق في الفترة (1945 – 1989).
وامتدت إسهامات المثقفين وتشعبت لتشمل «النظام العالمي الجديد» ما بعد الثنائية القطبية، حيث ارتفعت الآمال إلى عنان السماء طيلة العقد الأخير من القرن العشرين، مع تقارب الخصوم السابقين، وفتح الحدود وظهور مجموعة جديدة من الدول المستقلة على الخريطة.
واستجاب الفيلسوف ريتشارد رورتي لدعوة «اليونيسكو» ونشر مقالاً مهماً في مجلة «ديوجين» العدد (173 – 117)، تحت عنوان: «مَن نحن؟ أو من نكون؟ عالمية أخلاقية وخدع اقتصادية».
ورأى أن السؤال «مَن نحن؟» هو سؤال سياسي بالدرجة الأولى؛ والإجابة عن «مَن؟» هي: محاولة لتشكيل أو إعادة تشكيل «هوية أخلاقية» في المقام الأول، بمعنى:
كيف يجب أن ينظم البشر أنفسهم في مدينة عالمية كبرى، وهذه العالمية تقترح أساساً علمياً أو ميتافيزيقياً لسياسة عولمية؟
وبهذا المعنى فإن السؤال «مَن نحن؟»، يتوجه نحو المستقبل، ليس التماساً لنبوءة، بل استلهام لمشروع أو خطة لهذا المستقبل الذي نحاول أن نبنيه معاً.
علي الجانب الآخر بلور المنظّر الاستراتيجي جوزيف ناي، مفهوم «القوة الناعمة» (1990 – 2004) كنهج غير قسري في العلاقات الخارجية يناسب البيئة التوافقية الجديدة، ورأى أن سلطة الدولة لا تكمن فقط في مواردها العسكرية والاقتصادية، وإنما في قدرتها على تغيير سلوك الدول الأخرى عن طريق الجذب والإقناع.
وهكذا أصبح مفهوم القوة الناعمة من أهم المفاهيم التي تسمح لنا بتصور إمكانات الثقافة من الناحية السياسية والدولية، حيث أسهم –ولا يزال- في تطوير ثلاثة مجالات أساسية، شديدة التشابك والتمايز في آن معاً: الدبلوماسية الثقافية، والعلاقات الثقافية، والتعاون الفكري.

(2)
أقرب تعريف للثقافة يسلط الضوء على أسئلة «اليونيسكو» من الداخل، جاء في كتاب وارد جودنف المعنون «الثقافة، اللغة، والمجتمع»، يقول: «الثقافة ليست ظاهرة مادية؛ إذ هي ليست جملة أشياء أو بشر أو سلوك أو عواطف، وإنما هي كل ذلك. إنها صور الأشياء التي في عقول البشر، وهي أنماطهم في إدراك الأشياء وعلاقاتها، وتأويلاتهم لهذه الأشياء».
ميزة هذا التعريف أنه: يشمل دور المعتقدات والتمثيلات الذهنية الجماعية في السياسة، بالإضافة إلى تحليل الممارسات والأشياء والمنتجات التي تجسدها الثقافة، من فنون شعبية وإنتاج أدبي وفني وفكري، ومسابقات الإبداع والجمال والرياضة إلى السلع الرمزية، إضافةً إلى الصور الذهنية التي تكوّنها الدول بعضها عن بعض، وتأثير «المشاعر» في السياسة.
علاوة على ذلك، يسمح أيضاً بالتمييز بين المجالات الأساسية الثلاثة للقوة الناعمة، كما هو متعارف عليها اليوم: «التعاون الفكري» الذي يختلف عن الدبلوماسية الثقافية والعلاقات الثقافية في كونه ذا طبيعة «حيادية» خاصة، رغم أنه لا يتعارض مع المجالين الآخرين.
في المقابل نجد أن الخلط يحدث غالباً بين «الدبلوماسية الثقافية» و«العلاقات الثقافية» نظراً للتشابه اللغوي بينهما، لكن بتحليل الأهداف نجد أنه في عام 2018 حدد «المجلس الثقافي البريطاني» ومعهد «جوته» الألماني «العلاقات الثقافية» بأنها: التفاعلات المتبادلة العابرة للحدود الوطنية بين ثقافتين أو أكثر، وتهدف إلى زيادة التواصل والتفاهم وتعزيز الحوار، وهي تنمو بشكل طبيعي دون تدخل مباشر من الحكومات.
أما «الدبلوماسية الثقافية» فهي تهتم بـ«المصلحة الذاتية»، حيث تسعى الدولة إلى توجيه الثقافة لتعزيز مصالحها الوطنية في المقام الأول.
وعلى ذلك، فإن المجالين يختلفان في الأهداف: التفاهم المتبادل مقابل المصلحة الذاتية، وإن كانت «الدبلوماسية الثقافية» هي الأداة الأقوى للقوة الناعمة، لأنها ترتبط مباشرةً بتعزيز ثقافة الدولة وتثمين دورها في الخارج من خلال تصدير الثقافة.

(3)
الاختلاف بين أسئلة «اليونيسكو» أمس وما سيكون، يتمثل في ثلاثة اتجاهات أيضاً: الأول، أن القرن الحادي والعشرين أصبح عصر التفاعلات الدبلوماسية، ووسائل التواصل الاجتماعي القادرة على نقل المعلومات والأفكار عبر العالم في ثوانٍ أو أقل، حيث يمتلك الأفراد والجماعات (وليست الدول وحدها) القدرة على التأثير في الرأي العام وتغييره.
والاتجاه الثاني، تغيُّر مفهوم الجغرافيا – السياسية (أفقياً) مع صعود قوى الجنوب العالمي، التي ستصبح بحلول عام 2050 أكثر تأثيراً على الساحة العالمية (سياسياً واقتصاديًا، وثقافياً أيضاً). ورغم أن هذا الصعود لن يُلغي دور الغرب، فإنه سيزاحم بالضرورة أي قوة أخرى.
والاتجاه الثالث، أننا أمام أول حدث عالمي كبير بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، يضرب مفهوم القوة الناعمة في الصميم، وهو الحرب الروسية - الأوكرانية التي لا نعلم متى أو في أي اتجاه ستنتهي، ناهيك بتداعياتها السلبية على العلاقات الدولية! فالمسكوت عنه في هذه الحرب: أنها صراع على «الهيمنة الثقافية» أيضاً!
لقد أصبح مفهوم «القوة الناعمة» في السياسة الدولية أمام «اختبار صعب» وتحديات غير مسبوقة منذ العام 2022، لكن في كل تحدٍّ جديد «فرصة جديدة» أمامنا -أو هكذا علينا أن نكون- خصوصاً أن قضايا القوة الناعمة ما زالت من اختصاص خلايا التفكير الغربي، ولم نُولِها الأهمية المناسبة التي تستكشف مفترق الطرق بين التعاون الفكري والدبلوماسية الثقافية والعلاقات الثقافية، ناهيك بكيفية توظيفها.
صحيح أن لدينا تجربتين رائدتين –على الأقل- في عالمنا العربي، الأولى مع الدكتور بطرس غالي في مصر والأخرى مع الدكتور غازي القصيبي في السعودية، وهما أول من مارس بمهارة فكرة «الباب الدوّار» أي أن يتنقل المثقف والباحث الأكاديمي باستمرار ما بين دوائر صنع القرار والمناصب السياسية وبين مراكز الأبحاث وخلايا التفكير طيلة الوقت، مثلما يحدث في الولايات المتحدة والدول المتقدمة. لكن يبدو أننا سنواجَه على المدى المنظور بالسؤال نفسه الذي طرحته منظمة «اليونيسكو» سابقاً: مَن نحن؟ ما يتطلب أن الاستعداد للإجابة عنه (في إطار دول الجنوب العالمي)، وهو مشروع ثقافي ضخم أكثر من كونه مجرد سؤال عابر.
التحدي القادم الذي سيواجهنا يتمثل في هذا القدر من التنوع والتعدد الهائل والاختلاف الثقافي والديني (واللا ديني) والعِرقي والإثني لدول الجنوب العالمي، والذي قد يكون «ميزة كبرى» وسبباً قوياً للثراء والتضامن الإنساني والتقدم، يطرح نموذجاً عالمياً مبدعاً يستوعب كل ما هو آخَر (في اختلافه)؛ من الصين حتى البرازيل والمكسيك مروراً بالدول العربية والإسلامية والأفريقية، أو العكس قد يجهض –قبل أن يبدأ- كل محاولة لبناء جسور التواصل والتضامن في نصف الكرة الجنوبي، وعندئذ نكون أمام معضلة تصادم ثقافي كبرى، لم نحسب حسابها مبكراً.

(4)
في نهاية كتاب هنري كيسنجر عن الصين، أورد شذرة ذهبية للفيلسوف إيمانويل كانط مقتبَسة من مقاله «السلام الدائم»، مفادها: «إن السلام الدائم سيأتي في نهاية المطاف إلى العالم بإحدى طريقتين: بصيرة الإنسان الثاقبة، أو الصراعات والكوارث التي لم تترك للبشرية خياراً آخر». فما الذي يمكن أن نسهم به نحو نظام عالمي أفضل؟
هذه بعض الأفكار التي تقبل التعديل والتطوير والحذف:
أولاً- أن تتبنى دول الجنوب فكرة «العالمية «من منظور عالمي»! خصوصاً أنه في ظل «نظام عالمي تعددي» لن تتمحور دول العالم حول الغرب (فحسب)، ناهيك بأن الغرب لم يعد هو الفاعل الوحيد المخوّل بتشكيل المعايير التي يتم من خلالها «ضبط» النظام العالمي.
ثانياً- تقديم دول الجنوب رؤية أكثر توازناً لتوزيع القوة العالمية، وأن تبرهن عبر هوياتها وثقافاتها وإبداعاتها المتعددة، على أن التحديث والتغريب ليسا مترادفين بالضرورة.
ثالثاً- تطوير فهم خاص «للقوة الناعمة» التي تَستخدم الإقناع في السياسة الخارجية، والتي تعتمد جاذبيتها على ثقافة الدولة ومبادئها السياسية (على سبيل المثال يشير الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر –الذي أتم عامه الـ98- في مذكراته «إلى تميز حكام المملكة العربية السعودية –دون غيرهم- بالأمانة في وعودهم والصدق في علاقاتهم الدولية، فما يقولونه في الغرف المغلقة هو هو ما يصرحون به في العلن).
رابعاً- تحويل القوة الخشنة إلى قوة ناعمة كلما أمكن ذلك، عبر الدبلوماسية الثقافية، والشرعية الدولية معاً، ذلك أن «جعْلَ الناس يفهمون أفكارك هو أمان أكبر بكثير من غواصة أخرى»، كما يقول ويليام فولبرايت، مؤسس برنامج التبادل الدولي.
خامساً- إذا كانت القوة الناعمة هي واحدة من أكثر الأدوات فاعلية، رغم الانتكاسة التي تعرضت لها منذ العام 2022، فإن توافق دول الجنوب العالمي -منذ الآن فصاعداً- على صيغة: «العمل مع آخرين وليس على حساب الآخرين» سيجعل العالم أكثر أمناً وسلاماً، عملاً بنصيحة كانط.
* باحث مصري



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.