أسئلة «اليونيسكو» الملهِمة في عالم قد تغيَّر!

كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)
كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)
TT

أسئلة «اليونيسكو» الملهِمة في عالم قد تغيَّر!

كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)
كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)

سؤال واحد على الأقل من أسئلة «اليونيسكو» الاستراتيجية، مرشَّح لأن تجيب عنه «دول الجنوب العالمي» في الأيام القادمة، هو: من نحن؟ لأنه قد يحدد مدى إسهام القوى الناهضة في صياغة نظام عالمي تعددي.
وتعد منظمة «اليونيسكو» أحد روافد الفكر الجوفي المحرك للسياسة العالمية، التي برهنت على صحة مقولة لوي ألتوسير بأن «أغلب المعارك الفكرية هي صراعات سياسية داخل الفكر».

(1)
أسئلة «اليونيسكو» ترتبط عادةً بتحديات سياسية وتحولات تاريخية كبرى تتطلب استجابة فعّالة من المثقفين والمبدعين. وعقب نهاية الحرب الباردة وإعادة توحيد ألمانيا في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 1990، طرحت المنظمة سؤالين محددين على المثقفين في الغرب: مَن نحن؟ وما الذي لا نعرفه؟ في محاولة للتفكير في وجهٍ جديدٍ للقارة الأوروبية القديمة، التي ظلت أراضيها مقسَّمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق في الفترة (1945 – 1989).
وامتدت إسهامات المثقفين وتشعبت لتشمل «النظام العالمي الجديد» ما بعد الثنائية القطبية، حيث ارتفعت الآمال إلى عنان السماء طيلة العقد الأخير من القرن العشرين، مع تقارب الخصوم السابقين، وفتح الحدود وظهور مجموعة جديدة من الدول المستقلة على الخريطة.
واستجاب الفيلسوف ريتشارد رورتي لدعوة «اليونيسكو» ونشر مقالاً مهماً في مجلة «ديوجين» العدد (173 – 117)، تحت عنوان: «مَن نحن؟ أو من نكون؟ عالمية أخلاقية وخدع اقتصادية».
ورأى أن السؤال «مَن نحن؟» هو سؤال سياسي بالدرجة الأولى؛ والإجابة عن «مَن؟» هي: محاولة لتشكيل أو إعادة تشكيل «هوية أخلاقية» في المقام الأول، بمعنى:
كيف يجب أن ينظم البشر أنفسهم في مدينة عالمية كبرى، وهذه العالمية تقترح أساساً علمياً أو ميتافيزيقياً لسياسة عولمية؟
وبهذا المعنى فإن السؤال «مَن نحن؟»، يتوجه نحو المستقبل، ليس التماساً لنبوءة، بل استلهام لمشروع أو خطة لهذا المستقبل الذي نحاول أن نبنيه معاً.
علي الجانب الآخر بلور المنظّر الاستراتيجي جوزيف ناي، مفهوم «القوة الناعمة» (1990 – 2004) كنهج غير قسري في العلاقات الخارجية يناسب البيئة التوافقية الجديدة، ورأى أن سلطة الدولة لا تكمن فقط في مواردها العسكرية والاقتصادية، وإنما في قدرتها على تغيير سلوك الدول الأخرى عن طريق الجذب والإقناع.
وهكذا أصبح مفهوم القوة الناعمة من أهم المفاهيم التي تسمح لنا بتصور إمكانات الثقافة من الناحية السياسية والدولية، حيث أسهم –ولا يزال- في تطوير ثلاثة مجالات أساسية، شديدة التشابك والتمايز في آن معاً: الدبلوماسية الثقافية، والعلاقات الثقافية، والتعاون الفكري.

(2)
أقرب تعريف للثقافة يسلط الضوء على أسئلة «اليونيسكو» من الداخل، جاء في كتاب وارد جودنف المعنون «الثقافة، اللغة، والمجتمع»، يقول: «الثقافة ليست ظاهرة مادية؛ إذ هي ليست جملة أشياء أو بشر أو سلوك أو عواطف، وإنما هي كل ذلك. إنها صور الأشياء التي في عقول البشر، وهي أنماطهم في إدراك الأشياء وعلاقاتها، وتأويلاتهم لهذه الأشياء».
ميزة هذا التعريف أنه: يشمل دور المعتقدات والتمثيلات الذهنية الجماعية في السياسة، بالإضافة إلى تحليل الممارسات والأشياء والمنتجات التي تجسدها الثقافة، من فنون شعبية وإنتاج أدبي وفني وفكري، ومسابقات الإبداع والجمال والرياضة إلى السلع الرمزية، إضافةً إلى الصور الذهنية التي تكوّنها الدول بعضها عن بعض، وتأثير «المشاعر» في السياسة.
علاوة على ذلك، يسمح أيضاً بالتمييز بين المجالات الأساسية الثلاثة للقوة الناعمة، كما هو متعارف عليها اليوم: «التعاون الفكري» الذي يختلف عن الدبلوماسية الثقافية والعلاقات الثقافية في كونه ذا طبيعة «حيادية» خاصة، رغم أنه لا يتعارض مع المجالين الآخرين.
في المقابل نجد أن الخلط يحدث غالباً بين «الدبلوماسية الثقافية» و«العلاقات الثقافية» نظراً للتشابه اللغوي بينهما، لكن بتحليل الأهداف نجد أنه في عام 2018 حدد «المجلس الثقافي البريطاني» ومعهد «جوته» الألماني «العلاقات الثقافية» بأنها: التفاعلات المتبادلة العابرة للحدود الوطنية بين ثقافتين أو أكثر، وتهدف إلى زيادة التواصل والتفاهم وتعزيز الحوار، وهي تنمو بشكل طبيعي دون تدخل مباشر من الحكومات.
أما «الدبلوماسية الثقافية» فهي تهتم بـ«المصلحة الذاتية»، حيث تسعى الدولة إلى توجيه الثقافة لتعزيز مصالحها الوطنية في المقام الأول.
وعلى ذلك، فإن المجالين يختلفان في الأهداف: التفاهم المتبادل مقابل المصلحة الذاتية، وإن كانت «الدبلوماسية الثقافية» هي الأداة الأقوى للقوة الناعمة، لأنها ترتبط مباشرةً بتعزيز ثقافة الدولة وتثمين دورها في الخارج من خلال تصدير الثقافة.

(3)
الاختلاف بين أسئلة «اليونيسكو» أمس وما سيكون، يتمثل في ثلاثة اتجاهات أيضاً: الأول، أن القرن الحادي والعشرين أصبح عصر التفاعلات الدبلوماسية، ووسائل التواصل الاجتماعي القادرة على نقل المعلومات والأفكار عبر العالم في ثوانٍ أو أقل، حيث يمتلك الأفراد والجماعات (وليست الدول وحدها) القدرة على التأثير في الرأي العام وتغييره.
والاتجاه الثاني، تغيُّر مفهوم الجغرافيا – السياسية (أفقياً) مع صعود قوى الجنوب العالمي، التي ستصبح بحلول عام 2050 أكثر تأثيراً على الساحة العالمية (سياسياً واقتصاديًا، وثقافياً أيضاً). ورغم أن هذا الصعود لن يُلغي دور الغرب، فإنه سيزاحم بالضرورة أي قوة أخرى.
والاتجاه الثالث، أننا أمام أول حدث عالمي كبير بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، يضرب مفهوم القوة الناعمة في الصميم، وهو الحرب الروسية - الأوكرانية التي لا نعلم متى أو في أي اتجاه ستنتهي، ناهيك بتداعياتها السلبية على العلاقات الدولية! فالمسكوت عنه في هذه الحرب: أنها صراع على «الهيمنة الثقافية» أيضاً!
لقد أصبح مفهوم «القوة الناعمة» في السياسة الدولية أمام «اختبار صعب» وتحديات غير مسبوقة منذ العام 2022، لكن في كل تحدٍّ جديد «فرصة جديدة» أمامنا -أو هكذا علينا أن نكون- خصوصاً أن قضايا القوة الناعمة ما زالت من اختصاص خلايا التفكير الغربي، ولم نُولِها الأهمية المناسبة التي تستكشف مفترق الطرق بين التعاون الفكري والدبلوماسية الثقافية والعلاقات الثقافية، ناهيك بكيفية توظيفها.
صحيح أن لدينا تجربتين رائدتين –على الأقل- في عالمنا العربي، الأولى مع الدكتور بطرس غالي في مصر والأخرى مع الدكتور غازي القصيبي في السعودية، وهما أول من مارس بمهارة فكرة «الباب الدوّار» أي أن يتنقل المثقف والباحث الأكاديمي باستمرار ما بين دوائر صنع القرار والمناصب السياسية وبين مراكز الأبحاث وخلايا التفكير طيلة الوقت، مثلما يحدث في الولايات المتحدة والدول المتقدمة. لكن يبدو أننا سنواجَه على المدى المنظور بالسؤال نفسه الذي طرحته منظمة «اليونيسكو» سابقاً: مَن نحن؟ ما يتطلب أن الاستعداد للإجابة عنه (في إطار دول الجنوب العالمي)، وهو مشروع ثقافي ضخم أكثر من كونه مجرد سؤال عابر.
التحدي القادم الذي سيواجهنا يتمثل في هذا القدر من التنوع والتعدد الهائل والاختلاف الثقافي والديني (واللا ديني) والعِرقي والإثني لدول الجنوب العالمي، والذي قد يكون «ميزة كبرى» وسبباً قوياً للثراء والتضامن الإنساني والتقدم، يطرح نموذجاً عالمياً مبدعاً يستوعب كل ما هو آخَر (في اختلافه)؛ من الصين حتى البرازيل والمكسيك مروراً بالدول العربية والإسلامية والأفريقية، أو العكس قد يجهض –قبل أن يبدأ- كل محاولة لبناء جسور التواصل والتضامن في نصف الكرة الجنوبي، وعندئذ نكون أمام معضلة تصادم ثقافي كبرى، لم نحسب حسابها مبكراً.

(4)
في نهاية كتاب هنري كيسنجر عن الصين، أورد شذرة ذهبية للفيلسوف إيمانويل كانط مقتبَسة من مقاله «السلام الدائم»، مفادها: «إن السلام الدائم سيأتي في نهاية المطاف إلى العالم بإحدى طريقتين: بصيرة الإنسان الثاقبة، أو الصراعات والكوارث التي لم تترك للبشرية خياراً آخر». فما الذي يمكن أن نسهم به نحو نظام عالمي أفضل؟
هذه بعض الأفكار التي تقبل التعديل والتطوير والحذف:
أولاً- أن تتبنى دول الجنوب فكرة «العالمية «من منظور عالمي»! خصوصاً أنه في ظل «نظام عالمي تعددي» لن تتمحور دول العالم حول الغرب (فحسب)، ناهيك بأن الغرب لم يعد هو الفاعل الوحيد المخوّل بتشكيل المعايير التي يتم من خلالها «ضبط» النظام العالمي.
ثانياً- تقديم دول الجنوب رؤية أكثر توازناً لتوزيع القوة العالمية، وأن تبرهن عبر هوياتها وثقافاتها وإبداعاتها المتعددة، على أن التحديث والتغريب ليسا مترادفين بالضرورة.
ثالثاً- تطوير فهم خاص «للقوة الناعمة» التي تَستخدم الإقناع في السياسة الخارجية، والتي تعتمد جاذبيتها على ثقافة الدولة ومبادئها السياسية (على سبيل المثال يشير الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر –الذي أتم عامه الـ98- في مذكراته «إلى تميز حكام المملكة العربية السعودية –دون غيرهم- بالأمانة في وعودهم والصدق في علاقاتهم الدولية، فما يقولونه في الغرف المغلقة هو هو ما يصرحون به في العلن).
رابعاً- تحويل القوة الخشنة إلى قوة ناعمة كلما أمكن ذلك، عبر الدبلوماسية الثقافية، والشرعية الدولية معاً، ذلك أن «جعْلَ الناس يفهمون أفكارك هو أمان أكبر بكثير من غواصة أخرى»، كما يقول ويليام فولبرايت، مؤسس برنامج التبادل الدولي.
خامساً- إذا كانت القوة الناعمة هي واحدة من أكثر الأدوات فاعلية، رغم الانتكاسة التي تعرضت لها منذ العام 2022، فإن توافق دول الجنوب العالمي -منذ الآن فصاعداً- على صيغة: «العمل مع آخرين وليس على حساب الآخرين» سيجعل العالم أكثر أمناً وسلاماً، عملاً بنصيحة كانط.
* باحث مصري



فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
TT

فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)

لعلّه من المغري لكل جيل أن يظن أنه يعيش تغيّراً حادّاً، وأنه يقف عند نقطة تحول في تاريخ البشرية. ومع ذلك، فإن قول ذلك اليوم هو بالتأكيد أكثر صحة من أي وقت مضى. والدليل -لا جدال فيه- أن أبناء جيلي (جيل طفرة المواليد) في فترة ما بعد الحرب العالمية يعيشون تجربة غير عادية؛ لقد وُلدوا في عالم واحد، بين الدول الأوروبية والأميركية، وسوف يختفون في عالم آخر، معولم، لا مركزي، ومن دون أي حدود مكانية.

في لغة العلاقات الدولية يعني ذلك تحولاً وحشياً وانتقالاً غير منضبط من نظام مشترك بين الدول ومهيمن، عمره نحو 4 قرون، إلى عولمة متكاملة لم يعد لها مركز، ولا قيادة واضحة أو حاسمة، التي تتشكّل من خلال عدد من الجهات الفاعلة التي تخضع لأوضاع مختلفة (سياسية، واقتصادية، ودينية... إلخ) وقبل كل شيء من خلال التواصل المعمم.

من السهل تخمين العوامل التي تقف وراء هذا التمزق. إنها بالتأكيد مسألة التقدم التكنولوجي الذي ألغى المسافات، وزاد بشكل خيالي من التبادلات، ورؤية الجميع للجميع، مثل الأحداث الكبرى، بطرق لم يكن من الممكن تصوّرها في العالم من قبل.

تحوّل جدار برلين إلى رمز لانقسام أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجالَيْن سوفياتي وغربي (أ.ف.ب)

يُضاف إلى ذلك مزيد من الأسباب السياسية: إنهاء الاستعمار شبه الكامل الذي شهد ولادة الجنوب العالمي، بدءاً من الانتصار المنهجي للضعفاء على الأقوياء، وسقوط جدار برلين، الذي كَسر القواعد التي تنظّم التنافس بين القوى القديمة، لقد تم إضفاء الطابع الرسمي عليها في أعقاب عام 1945، وكان البناء التجريبي للعولمة أكثر تعقيداً بكثير من مجرد ازدهار الليبرالية الجديدة التي كانت تُشير بسذاجة إلى «نهاية التاريخ». وتحقيق الهيمنة الأميركية، ولكنه أكثر إثارة للجدل من أي وقت مضى.

لفترة طويلة، لم نرغب في رؤية الآثار الهائلة لمثل هذه الطفرات. كان انتصار المعسكر الغربي على المعسكر السوفياتي بمثابة نهاية للثنائية القطبية، من خلال خلق وهم السلام الأميركي الذي حافظ حتى على وهم نهاية التاريخ وانتصار النموذج الغربي.

تم الحفاظ على الـ«ناتو»؛ حيث كان يعتقد أنه لا ينبغي المساس بالفريق الفائز. وكانت خيبة الأمل قوية: فقد هُزمت الولايات المتحدة في الصومال، والعراق، ثم في أفغانستان، وسرعان ما ظهرت الصين باعتبارها المستفيد الأكبر من العولمة التي كانت تُحرر نفسها من المجال الأميركي. كان هذا الإحباط الشديد هو السبب وراء التراجع الترمبي والقومي والهويتي والحمائي، الذي سرعان ما سيطر على أوروبا، التي كان عليها أن تعاني من النكسات التي جلبها العالم الجديد، خصوصاً في أفريقيا.

هذا في الواقع خرق يُبطل القواعد القديمة، ولكنه أيضاً يُبطل ممارسات ورؤى وحتى مفاهيم «جغرافيتنا السياسية» القديمة: لن يتعافى حتى تصبح اللعبة العالمية الجديدة، المكونة من الاعتماد المتبادل والتنقل والديناميكيات الاجتماعية، أكثر كفاءة بشكل لا نهائي.

ثلاثة إخفاقات

من استراتيجيات القوة القديمة هو كتابة تاريخ جديد. أولئك الذين يعرفون كيفية القيام بذلك سوف يفوزون، أما الآخرون، الراسخون في حنينهم، فسيخاطرون بأن يجدوا أنفسهم معزولين ومهمشين بشكل تدريجي. وهكذا شهدت العقود الأولى من هذه الألفية الجديدة ثلاثة إخفاقات على الأقل: إخفاق القوة الكلاسيكية، وإخفاق التحالفات التقليدية، وإخفاق التراجع الوطني. الأمر متروك للجميع لاستخلاص العواقب.

إن فشل القوة يُشير إلى تقادم الاستراتيجية التي استلهمها كلوزفيتز، فلم تعد الحرب قادرة على حل المشكلات التي تخلّت عنها السياسة في السابق، وذلك بسبب افتقارها إلى الفاعلية التي كانت تنسب إليها بالأمس. لم تعد هناك حرب تحمل هذه «المعركة الحاسمة»، التي أشار إليها الاستراتيجي البروسي، التي حدّدت الفائز بوضوح.

وبعيداً عن كونها علامة القوة، فإن الحرب اليوم ترتدي ثياب الضعف: حرب الأقوياء، الذين أصبحوا عاجزين في الصراعات الأفريقية والآسيوية والأوروبية اليوم، حرب الأطراف الذين يذهبون في أغلب الأحيان إلى الصراع، ولم يعودوا في صراعات. باسم السلطة، ولكن تحت تأثير التحلل المؤسسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. لهذه الأسباب تتتابع اتفاقات السلام، ولكن بقدر متزايد من عدم الفاعلية، في حين تستنزف القوى الإقليمية والعالمية نفسها دون أن تكسب شيئاً.

أدى إنهاء الاستعمار إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول (أ.ب)

إن عجز القوة، المرتبط بالعولمة القائمة على الاعتماد المتبادل والشمول المعمم، لا يدمّر فكرة الهيمنة القديمة فحسب، بل أيضاً فكرة التحالف أو الكتلة أو المعسكر. لقد أدى إنهاء الاستعمار، والفرص التي أتاحها مؤتمر باندونغ، ثم سقوط جدار برلين، إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول، التي أدركت تدريجياً أن التأثيرات غير المتوقعة كانت أكثر ربحية بكثير من التحالفات المبرمجة مسبقاً. وعلى هذا، فإن العالم القائم على تحالفات تواجه بعضها بعضاً قد نجح في عالم مجزّأ ومرن؛ حيث أصبحت «التحالفات المتعددة» أو الشراكات المرنة والمتغيرة هي القانون الآن. ويجد العالم الغربي نفسه معزولاً، وهو محاصر في حصن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ينضح بجو من الثقة بالنفس يُحافظ على عدم الثقة بأولئك الذين هم خارجه، خصوصاً في الجنوب العالمي.

هناك إغراء كبير لتصفية الحسابات، بإحياء القومية والسيادة والانغلاق على الذات، وغالباً ما يذهب الأمر إلى حدّ الدلالات العنصرية، أو على أي حال هرمية. ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يسفر عن شيء؛ كما قال الفيلسوف تزفيتان تودوروف: «ليس لدى القوميين ما يبيعونه». وهذا التأكيد واضح في عالم تحكمه العولمة؛ حيث يتعيّن علينا أن نتعلّم كيف نعيش في نظام دولي يتسم بالتبادل. وتخاطر الشعبوية الوطنية بتعزيز قوتها تحت تأثير الخوف، في حين تظل عالقة في موقف احتجاجي حصري. إنها علامة من علامات زمن التحولات؛ حيث يبدو خيار الاحتجاج أفضل من تحمُّل مسؤولية الحكم.

* خبير فرنسي في العلاقات الدولية