أزمة الهوية والانتماء وعلاقة الذات بالآخر الغربي

محمد السيد إسماعيل يبحث في «أساليب السرد في الرواية الأفريقية»

أزمة الهوية والانتماء وعلاقة الذات بالآخر الغربي
TT

أزمة الهوية والانتماء وعلاقة الذات بالآخر الغربي

أزمة الهوية والانتماء وعلاقة الذات بالآخر الغربي

صدر حديثاً ضمن مطبوعات «المجلس الأعلى للثقافة» بمصر كتاب «أساليب السرد في الرواية الأفريقية» تأليف الناقد الدكتور محمد السيد إسماعيل، ويتضمن مقدمة و6 مباحث، تركز على «البنية الحجاجية»، و«الدرامية»، و«رواية السيرة الذاتية»، و«البنية العجائبية»، و«بنية رواية الأدلوجة»، و«الرواية الواقعية التأريخية». ومن خلال هذه المحاور، استعرض المؤلف نماذج من الرواية الأفريقية المعاصرة، التي اهتمت بالشأن العام والقضايا المصيرية، خاصة الرؤية العنصرية التي يتعامل بها الإنسان الغربي مع الأفارقة والتي ظلوا يئنون تحت وطأتها سنوات طويلة، ولم يتخلصوا منها إلا بعد صراع مرير، تجلى بعض منه في حروب أهلية قاست ويلاتها بعض الدول الأفريقية، مثلما بدا في رواية «نصف شمس صفراء»، لتشيما ماندا نغوزي أديتشي، والعديد من الأعمال التي انطبق عليها مصطلح رواية السيرة الذاتية، التي لم تخلُ من الهم العام، الذي بدا وكأنه شأن شخصي.
بالكتاب دراسات مستفيضة لأعمال عدد من الأدباء من نيجيريا هم: تشنوا أتشيبي عبر روايته «أشياء تتداعى»، وول سوينكا وروايته «آكيه... سنوات الطفولة»، «الباب الأزرق» لأندريا برينك، «نصف شمس صفراء» لتشيما ماندا نغوزي أديتشي، كما قام بدراسة روايتين من جنوب أفريقيا؛ الأولى كانت «ابنة هبيرغر» للروائية نادين غورديمر، و«يوميات عام سيئ» لـ ج.م.كوتسي.
وخلال دراسته لهذه الأعمال، يلاحظ المؤلف أنه على الرغم من اقترابها مكانياً من العالم العربي، فإنها تظل بعيدة عنا على مستوى الوعي بها ودراسة جمالياتها وعوالمها المختلفة وقراءتها قراءة نقدية موسعة تستبصرها موضوعياً وفنياً. وقد يعود ذلك إلى قلة الروايات الأفريقية المترجمة عن الإنجليزية أو الفرنسية، وبالتالي قلة القراءات النقدية حولها.
ويرى السيد إسماعيل أن للروايات الأفريقية ما يناظرها أو ما يشابهها في الرواية العربية والمصرية، وهو ما يبدو واضحاً في رواية «الباب الأزرق» لأندريا برينك التي تقترب من رواية «الناب الأزرق» للروائي المصري فؤاد قنديل، ولا يرجع ذلك إلى تقارب العنوانين، بل إلى التقارب العجائبي في الروايتين، ويذكر إسماعيل أن رواية «نصف شمس صفراء» شبيهة برواية «بيروت بيروت» للروائي المصري صنع الله إبراهيم التي تدور حول الحرب الأهلية اللبنانية، وما وقع فيها من أحداث دامية بين بيروت الغربية والشرقية، وقد جاءت في إطار بنية فنية لافتة لا تقل ثراء عن الرواية الأفريقية المناظرة لها، هذا بالإضافة إلى وجود تشابه واضح بين رواية «ابنة بيرجر» لنادين جورديمر ورواية «حكاية تو» للروائي المصري فتحي غانم؛ حيث يروي كل منهما قصة أب ماركسي مناضل، وانعكاس ذلك على الابن توفيق أو تو طبقاً لشهرته عند غانم، وعلى الابنة روزا عند غورديمر.
وذكر إسماعيل أن أعمال سونيكا وغورديمر وأتشيبي وغيرهم من الكتاب الأفارقة تعكس ما يمكن أن يسمى أزمة الهوية وعلاقة الذات بمعناها الجمعي بالآخر الغربي، ويرجع ذلك إلى أنها جاءت إلى أفريقيا عن طريق الاستعارة الخالصة باعتبارها فناً وافداً من هناك، وقد كان من الطبيعي أن تهتم بالقضايا الراهنة، ومشكلات التاريخ القريب، وأحداثه التي تلقي بظلالها على الحاضر. وإذا كانت أزمة الهوية من الأزمات الملحة على الرواية الأفريقية فقد كان رد الفعل الفني يتطلب تأكيد الطابع المحلي فيها للوقوف ضد حالة التغريب والاستلاب التي أرادها المستعمر للقارة الأفريقية، لتصبح فن مقاومة بوسائلها الفنية، وليس بطرح مضامين متمردة فحسب. وقد انطبع ذلك على اللغة، فمن اللافت أنها ظهرت باللغات المحلية كالتونجا في زامبيا والشونا في زيمبابوي والسوتو والزوسا والزولو في جنوب أفريقيا. ومن بين هذه الروايات التي كتبت باللغة المحلية رواية «المسافر إلى الشرق» و«بتسنج» وهي اسم قرية زنجية للأديب توماس موفولو (1907 - 1948).
وأشار إسماعيل إلى أن المحلية والخصوصية في الروايات الأفريقية تتجلى في تصوير بنية المكان بما له من أبعاد جغرافية، وما يبرزه من معتقدات وأساطير وعادات، فضلاً عن اتكائه على ثنائية الفقر والثراء اللذين يعكسان نوعاً من الحس الاجتماعي يتبدى على الأدب الأفريقي عموماً، ويجعل له نكهة خاصة ومذاقاً فريداً، ويضرب فكرة المركز الأوروبي، ويدعم ما يعرف بأدب الهامش الذي لا يقل أهمية عن الأدب الأوروبي.
وهذا الاهتمام بالخصوصية على مستوى القضايا والثقافة في الرواية الأفريقية، كما يقول إسماعيل، جعل رد الفعل الغربي عنيفاً تجاهها، وقد كتبت الناقدة الإنجليزية هونور تراس عن رواية تشنوا أتشيبي «أشياء تتداعى» مقالاً دالاً يحمل عنوان «تحياتي إلى فوضى الكتابة»، تتهم فيه الكاتب بأنه «يريد إعادة ثقافة أجداده المتخلفة». والحق أن أتشيبي، حسب رأي المؤلف، لم يكن يسعى لذلك، بل كان يريد تصويرها بما فيها من جوانب إيجابية وسلبية، ومن هنا تأتي إحدى سمات الرواية الأفريقية، وهي ابتعادها عن تمجيد الذات المجاني في نوع من رد الفعل الانفعالي الساذج، وكان الروائي الأفريقي أكثر وعياً، ولم يقع في مثل هذه النزعة التبشيرية الزاعقة، وظهر ذلك في وقوفه المنتقد للذات، ومحاولات تطويرها.
ويخلص إسماعيل إلى أن الرؤية الموضوعية للذات الجمعية وضرورة قبول الآخر المختلف كانت إحدى القضايا الأساسية التي عالجتها الروايات الست بعيداً عن الفعل ورد الفعل الذي يفسد عدالة القضايا التي يدافع عنها، ولا شك في أن قبول الآخر يصبح ضرورة حياة، حيث تتعدد اللغات وتتنوع الأعراق وتتباين الديانات، وقد كان كل ما سبق وراء اختيار «أساليب السرد في الرواية الأفريقية»، باعتباره المؤشر الذي يحدد هوية النص الروائي ودرجة فنيته المتحققة.


مقالات ذات صلة

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

يجري النظر إلى بيدرو ألمودوفار، على نطاق واسع، باعتباره أعظم مخرج سينمائي إسباني على قيد الحياة. أما هو فيرى نفسه كاتباً في المقام الأول - «كاتب حكايات»،

نيكولاس كيسي
يوميات الشرق الصور الثابتة في أي كتاب مدرسي تتحوَّل نماذج تفاعلية ثلاثية البُعد (فرجينيا تك)

الذكاء الاصطناعي يضخّ الحياة بالكتب المدرسية الجامدة

طوّر فريق من الباحثين في جامعة «كولورادو بولدر» الأميركية نوعاً جديداً من الكتب المدرسية التفاعلية التي تتيح تحويل الصور الساكنة نماذجَ محاكاة ثلاثية البُعد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «شيء مثير للاهتمام جداً» (رويترز)

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

ستُطرح نسخة نادرة من المخطوطة الأصلية لرواية «الأمير الصغير» للكاتب أنطوان دو سانت أكزوبيري، للبيع؛ وهي التي تحتوي على تصحيحات وتعليقات مكتوبة بخطّ المؤلّف.

«الشرق الأوسط» (لندن)

القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة
TT

القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة

يسعى كتاب «لعب الأدوار بقوة» للكاتبة والباحثة الأميركية، ديبورا جرونفيلد، إلى تفكيك مفهوم «القوة»، بما له من حمولات سيكولوجية، واجتماعية، وسياسية، وإنثروبولوجية، والتعرُّف على علاقة الإنسان بهاجس «القوة التي لا يمتلكها» بصفتها «المُحرِك الرئيسي للعلاقات الإنسانية»، بتعبير الفيلسوف البريطاني برتراند راسل.

صدرت الترجمة العربية للكتاب عن دار «آفاق» للنشر والتوزيع بالقاهرة، بتوقيع المترجمة المصرية نيفين بشير، وفيه تُجري الكاتبة ديبورا جرونفيلد، الباحثة في جامعة «ستانفورد» الأميركية، مقاربة بين مفارقات القوة في الحياة وموازين دراما المسرح، بما يُحيل لفلسفة ويليام شكسبير: «الدنيا مسرح كبير»، فتبدو فصول الكتاب وهي تتعقب مفهوم القوة وعلاقتنا المتعثرة بها، كأنها تُحاكي مراحل تصاعد مسرحية يتشارك الأبطال الظهور فيها على خشبة المسرح تباعاً، لاختبار علاقتنا بالقوة والضعف على السواء، فتُطلق على الفصل الأول: «عندما يُرفع الستار»، الذي تؤسس فيه لمفهوم القوة «التي تفتح الأبواب وتغلقها»، وماهية القوة التي تُقرر مَن ينتصر في الحرب؟ وما الذي نحارب من أجله؟ وكيف نعيش؟ وتحت أي قوانين؟ أو كما تُلخصها مسرحية «هاميلتون» الموسيقية: «تُحدد القوة مَن يعيش، ومَن يموت، ومن يروي قصتك».

متلازمة «البطل الخارق»

يطرح الكتاب، عبر «318» صفحة، القوة ليست بوصفها سلطة و«نفوذاً»، بقدر ما يطرحها بوصفها سؤالاً وجودياً؛ حيث تعامل الإنسان مع القوة بصفتها وسيلة للخلود، وخشية من الموت، ويحيل الكتاب لمقولة العالم السياسي هانز مورجنثاو إلى أن الاحتياج إلى الحب والقوة ينبعان من البئر الوجودية ذاتها؛ حيث تبدو أكبر مخاوفنا في الحياة أنها تتعلق بالوحدة أو الطرد من المجموعة، وأننا «نسعى للحب والقوة من دون وعي لهذا السبب، وعندما تزيد مخاوفنا تنطلق هذه الدوافع».

يلفت الكتاب هنا إلى ما يُعرف بمتلازمة «البطل الخارق»، التي تشير إلى أن مجموعة ثانوية من الأشخاص في ضوء احتياجهم للقوة طوَّروا أوهاماً عن أنفسهم، لمساعدتهم على التعامل مع مشاعرهم بعدم الأمان، فالقوة قوة جاذبة، كما يصفها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، الذي تتوقف الباحثة عند كتابه «إرادة القوة»، الذي تأمَّل فيه كيف أن إرادة القوة ليست مجرد خاصية من خصائص الحياة فحسب، بل هي ماهيتها الرئيسية؛ حيث إرادة القوة تتفوق على نفسها باستمرار، وهو ما يعدّه نيتشه جوهر الحياة.

ولفت نيتشه إلى أن الغريزة مصدر قوة الإنسان، الذي يمنحه السرور والنشوة والقوة، وهي التي تُحرك الإنسان، سواء كان ذلك من خلال فعل الفرد القوي أو الفرد الضعيف، وفي حين تبدو مسألة ربط القوة بالسلطة جدلية، تُشير مؤلفة الكتاب إلى أنها ليست دقيقة؛ إذ إن «كثيراً من الناس في مواقف شتى يشعرون براحة أكبر وراء الكواليس عما لو كانوا في دائرة الضوء، فكثير يُفضل أن يكون محبوباً وليس خائفاً».

تُهيمن لغة القوة على آليات السياسة التي يُعاد تشكيلها بصور متعددة داخل دائرة القيادة

منطق الاستقواء

تسعى الباحثة إلى تطبيق سيكولوجية القوة من زوايا مختلفة، من بينها غريزة مملكة الحيوان، التي تجعل الحيوانات تعرف بالفطرة طرق البقاء آمنة، وكيفية الارتقاء داخل المجموعات، وأحياناً يتعيّن عليها إظهار الاحترام، وفي أوقات أخرى إظهار الهيمنة، وهي أمور تُظهر الخيط الموصول الأبدي بين الخوف وتطويع القوة.

وتُهيمن لغة القوة على آليات السياسة، التي يُعاد تشكيلها بصور متعددة داخل دائرة القيادة. وذكرت المؤلفة في هذا الصدد كثيراً من الانتقادات التي وُجهت للرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش في فترة إعصار «كاترينا»، بسبب عدم قدرته على استخدام «القوة» المنتظرة منه بصفته رئيس دولة كبرى، وكذلك الرئيس الأميركي السابق ترمب، الذي يتعمّد أن تحمل تغريداته عبر المنصات الرقمية نغمة «الاستهزاء» بوصفها أداة لفرض القوة. وهنا تقول الكاتبة: «الرئيس ترمب متخصص في هذا الأسلوب»، وتفرد أمثلة لكيفية استخدامه وسائل تحط من قدر خصومه السياسيين، لتصبح ضربات لفظية جارحة مُصممة لتحقير الآخرين، ما تعدّها آلية «استقواء» يلجأ إليها المرشح الأميركي للرئاسة منذ سنوات طويلة.

وتنظر الكاتبة لفكرة «الاستقواء» من منظور آخر؛ ذلك الذي يُمثله الإيمان بعدالة «قضية مشتركة»، وضربت المثل بسؤال أُلقي على الإعلامية الأميركية الشهيرة أوبرا وينفري ذات يوم، خلال استضافتها في جامعة «ستانفورد»؛ إذ سألتها طالبة عن مشاعرها وهي تحضر اجتماعاً تعرف أنها ستكون فيه المرأة السمراء الوحيدة بين عدد كبير من الرجال ذوي البشرة البيضاء، فاستعارت وينفري هنا قصيدة «جداتنا»، للشاعرة الأميركية الراحلة مايا أنجلو (1928- 2014): وهي قصيدة كرّمت بها أنجلو أسلافها، والمعارك التي خاضوها من أجل الحرية، وتقول فيها: «لا أحد، لا، ولا مليون أحد يجرؤ على حرماني من الله. أتقدّم وحدي واقفة كعشرة آلاف».

وتتخيّل المؤلفة دخول وينفري المسرح وفي وجدانها جيش من النساء، ما جعلها تشعر بأنها ليست الوحيدة ذات البشرة السمراء في الغرفة، بل «واحدة من عدد من النساء اللاتي لعبن أدواراً كبيرة وصغيرة في مكان آخر، وفي أوقات أخرى في التاريخ، النساء من أصل أفريقي، واللاتي أردن مثلها مزيداً لأنفسهن ولأحبائهن، واللاتي عملن بجد، وحاربن الاضطهاد وكسرن الحواجز مثلها»، في استبصار بمنطق القوة، الذي يستند إلى عقيدة، أو إيمان مُشترك بعدالة قضية ذات دلالة تاريخية ونضالية.