مثقفو الخليج: كتب علم النفس والرواية والأديان تستحوذ على النصيب الأكبر (1ـ2)

قراءات الصيف.. هل يرتبط طقس القراءة بمستجدات الأحداث.. أم هو مزاج عام؟

مثقفو الخليج: كتب علم النفس والرواية والأديان تستحوذ على النصيب الأكبر (1ـ2)
TT

مثقفو الخليج: كتب علم النفس والرواية والأديان تستحوذ على النصيب الأكبر (1ـ2)

مثقفو الخليج: كتب علم النفس والرواية والأديان تستحوذ على النصيب الأكبر (1ـ2)

هل تختلف قراءات الصيف عن قراءات الشتاء أو بقية فصول العام؟ وهل تقل هذه القراءات أم تزداد؟.. بكل الأحوال يبقى السؤال الأهم: «ما الذي يقرأه المثقفون هذه الأيام»، وهل للكتب التي بين أيديهم ارتباط بالأحداث والمستجدات على كافة الأصعدة، بما فيها المتغيرات النفسية الحاصلة نتيجة تطورات العصر..أم هي عامة تأتي وفقًا لميول الشخص نفسه وليس على حسب المزاج العام للكون.
أسئلة جديرة بالتوضيح من أصحابها الأدباء والمثقفين بشكل عام، توجهنا بها إليهم، وكأننا نسترق النظر إلى الكتاب الذي بين أيديهم، فكانت هذه الإجابات:

* «الحياة ليست دائمًا وردية»
القاص السعودي حسن علي البطران، يقول: القراءة هوس ومتعة، ووسيلة من خلالها يعبر الشخص وينتقل إلى الضفة الأخرى، فهي تشكل قاربا بل مجموعة من القوارب يمكنك الإبحار فيها وبواسطتها إلى شواطئ بعيدة. فالقراءة فن ومهارة، وهي أيضًا سلاح ومتعة وحياة وصرخة، وابتسامة وألم، وبناء وهدم، لكنها في النهاية «ثقافة»؛ وتراكم معرفة، ومعلومات، وتوسيع مدارك، وهذا يعطينا مساحة كبيرة للبناء ووقتا متسعا لاختيار المواد الخام وتحديد الهندسة المعمارية الموثوق بها..
شخصيًا أقرأ الآن في رواية «الحياة ليست دائما وردية» للكاتبة المصرية رشا عدلي محمد.. وتدور أحداث الرواية في فترة تاريخية معينة ما بين مصر وفرنسا، وقد اختارت الكاتبة فنانة تشكيلية بطلة لروايتها هذه البطلة فقط من خيال الكاتبة وبقيت الأحداث التاريخية والشخصيات حقيقية؛ وتتناول الرواية قصة مهندس مصري حديث الزواج يسكن الإسكندرية، كلفه عمله أن يعمل في القاهرة وسكن في شقة ذات مواصفات عالية مما أثار فضول زوجته حيث وجدت صندوقًا وبه بعض هذه المذكرات التي سردتها الكاتبة بتكنيك روائي جميل وسرد رائع..

* «فازع شهيد الإصلاح»
أما الناقد البحريني فهد حسين، فيقول: «لا شك أن النخب الثقافية المتخصصة وغير المتخصصة حريصة كل الحرص على المتابعة والاطلاع على الأقل في مجال تخصصها وأدنى الطموح متابعة الملحق الثقافي للجريدة التي يحرص على قراءتها، وبالنسبة لي فلدي طريقة في القراءة، فلا أقرأ للمتعة أو قتل الوقت وربما ذلك بحكم انشغالي بمجال الكتابة والتأليف، لقراءتي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم قراءة في موضوع ضمن مشروع تأليف كتاب، وقسم قراءة ما يرفد الحصيلة الثقافية والمعرفية والنقدية، وقسم المجلات التي أتابعها وهي عادة ما يصلنا من إصدارات النادي الثقافي الأدبي بجدة، ومجلة الدوحة، ومجلة دبي الثقافية، فضلا عن إصدارات المجلس الوطني بالكويت».
وفي الوقت نفسه أسجل كل شهر كم كتابا قرأت لأعرف العدد والنوعية والمقارنة بالشهر الذي قبله، ولأني حاليا أعد كتابا عن المرجعيات الثقافية في الرواية الخليجية فأكثر ما تكون قراءتي منصبة في هذا الجانب حيث أنهيت رواية الإعلامي القطري الدكتور أحمد عبد الملك بعنوان «فازع شهيد الإصلاح في الخليج» وقبلها روايتين عندما تستيقظ الأشجان للكاتب الإماراتي علي محمد راشد ورواية درب المسحورة للكاتب العماني محمود الزعبي.

* «سوف تراه عندما تؤمن به»
ويشارك القاص السعودي عبد الخالق الغامدي بقوله: أنا حاليا أقرأ كتابا أعود إليه للمرة الثانية حيث سبق أن قرأته قبل 6 أو 7 سنوات، لكنني رأيت أنني في حاجة إلى العودة لبعض صفحاته، وهو «سوف تراه عندما تؤمن به».. للمؤلف الأميركي «وين دبليو داير»، وترجمة مكتبة جرير.
يتحدث الكتاب عن التحول الذاتي في الحياة وسبل تحقيق التحول. بمعنى أنه يناقش السلوكيات السلبية في حياة الفرد ويضرب له الأمثلة من واقع الفرد والمجتمع ثم يأخذ بيده خطوة خطوة نحو مستقبل أفضل يحقق له مزيدا من النجاحات وجملة من أحلامه إن لم تكن كلها ويرتقي به في التفكير حيث يضيء له الطريق الذي يتوجب عليه أن يسلكه ليصل إلى تحقيق شخصية إيجابية متكاملة.

* «الشرق المتوحش»
ومن الكويت، يقول أمين عام رابطة الأدباء الكويتيين طلال سعد الرميضي: «من الممتع أن نطلع، على الأعمال الأدبية المميزة لأقلام شبابية حيث استمتعت بقراءة رواية (الشرق الموحش) للكاتب عبد الله السعيدي، وهي رواية تدور حول الحياة قديما في الكويت وبواديها والصراعات والتنافس ما بين أبناء القبائل المتناحرة، وفيها إسقاطات على الواقع وتضمنت بعض المعلومات القيمة عن ماضي الأجداد وأخبارهم وقد صيغت بأسلوب أدبي جميل استطاع الكاتب السعيدي أن ينقل القارئ معه في طيات هذه الرواية المثيرة إلى فضاءات حياة الشرق.. الموحش».

* «الجهل المقدس»
أما الكاتب والمحرر في مجلة «العربي» وفي صحيفة «الكويتية» إبراهيم المليفي، فذكر أنه يقرأ حاليًا كتابًا عنوانه «الجهل المقدس.. زمن دين بلا ثقافة» للمؤلف أوليفييه روا، وهو صادر عن دار الساقي في لبنان، وقال: هذا الكتاب الذي لم أنته من قراءته هو الثاني له في مكتبتي بعد كتاب «تجربة الإسلامي السياسي» الذي صدرت طبعته الأولى باللغة العربية عام 1994 ترجمة نصير مروة وحصلت عليه من لندن. وأضاف المليفي: مع «الجهل المقدس» وهو من ترجمة صالح الأشمر، شعرت بانجذاب حاد لأسباب أعتقد أن معظمها صحيح مثل طبيعة الأحداث التي تمر بها المنطقة والتي اتخذت الطابعين الديني والمذهبي بشكل صارخ ومتزامن، الأمر يعود إلى جودة الترجمة واقترابها من المعاني التي أرادها المؤلف وربما تفوقها على النص الأصلي، ومن ثم تفوق هذا الكتاب على ميزة التشويق المعلوماتي وشد القارئ في أي جزء من أجزائه وهذا ما سرع عملية اقتنائه دون تفكير طويل.

* «خطأ النادل»
وللكاتبة استبرق أحمد تقرأ أكثر من كتاب في وقت هذا الأيام، ولها وجهة نظر توضحها كالآتي: القراءة المعينة للكاتب على الكتابة والحياة، هي العالم الذي يحمل له نتاجات يسد بها جوع ذائقة جشعة وصعبة في معاييرها بمقدار ما يقرأ. وتضيف: في الأسابيع الماضية قرأت كتابات إبداعية لافت أغلبها منها المجموعة القصصية «خطأ النادل» للكاتب الفلسطيني زياد خداش، و«مصحة الدمى» كتاب فوتوغرام - حكائي كما أشار على غلافه كاتبه المغربي أنيس الرافعي، ورواية «سماء قريبة أعرفها» للكاتبة الكويتية تسنيم الحبيب، ومجموعة «مرعى النجوم الدافئة» للعماني محمود الرحبي، وحاليا أقرأ رواية «ليل تشيلي» للكاتب التشيلي روبرتو بولانيو، التي بمصادفة باهرة كتبت الأميركية سوزان سونتاج عنها بأنها «نهر رائع من المشاعر، تأمل مدهش، خيال آسر. ليل شيلي عملٌ شديد الأصالة والتفرد». وتتابع استبرق أحمد: «إنها رواية معاصرة كتبت لتحتل مكانة عالية في الأدب العالمي». منبع الصدفة وتقرأ استبرق أيضًا كتاب السيرة الذاتية الخاص بسوزان سونتاج المعنون بـ«ولادة ثانية» وتقول عنه إنه يحمل اكتشافات الذات والعالم لكاتبة وناقدة نهمة في القراءة والبحث.

* عودة لكتاب عن الأصولية
الروائي حمد الحمد، تميل قراءاته مع ما يستجد من أحداث، فيقول: نظرا لتوحش الأصولية بظهور «داعش» وغيرها من فرق بالوطن العربي وتكوينها دولة في سوريا والعراق ووجودها في بقاع أخرى، فإن كل هذه الفرق تُنسب من قبل الغرب للأصولية الإسلامية، وقد انتبه المفكرون الغربيون ومنهم ريتشارد هرير دكمجيان وهو أستاذ العلوم السياسية بجامعة نيويورك وأصدر كتابه المعنون بـ«الأصولية في العالم العربي»، وقد صدر الكتاب قبل ثلاثين سنه عام 1985، وما زلت أحتفظ بالنسخة المُترجمة للعربية، وهذه الأيام رحت أطالعه وأعود لما كتبه هذا المؤلف حيث يُرجع الأصولية لعدد من الشخصيات العربية، وهذا ما يراه هو، حيث إن الفكر الأصولي قد اتفق على مرتكزات هي: الالتزام بتجديد الأمة بالعودة إلى الأصولية الإسلامية. والدعوة إلى النضالية والجهاد بالدفاع عن الإسلام. والجمع بين المذهبية الأصولية والحركية السياسية والاجتماعية في حياتهم. والاستعداد لتحدي السلطة السياسية والدينية والرغبة والتضحية من أجل الإسلام.

* «وليمة متنقلة»
أما الروائية الكويتية إيمان سعد فتقول عن كتابها الذي بين يديها: حين تمر عليك تلك الأوقات التي تشعر فيها بأنك الوحيد على وجه الأرض ولا أحد بمقدوره أن يتفهم مشاعرك، حينها، إن كنتَ محظوظًا، يبعث لك القدر بكتاب. وتعتبر إيمان سعد نفسها من المحظوظين: أنا كنت محظوظة. ففي الوقت الذي أعيش فيه قلق ما بعد الرواية الأولى والشكوك أثناء كتابة الرواية الثانية، ومعهما فوبيا السفر إلى باريس للمرة الأولى، وقع بين يدي كتاب «وليمة متنقلة» لأرنست همنغواي.
هذا الكتاب هو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة جدًا موضوعها يوميات همنغواي في باريس في عشرينات القرن الماضي حين عاش فيها مع زوجته ليتفرغ لكتابة روايته الأولى «الشمس تشرق أيضًا». على مدار الكتاب يدخل القارئ في خفايا تجربة الروائي الشاب الذي يعشق الكتابة في المقهى ساعات الصباح الباكر ليتفرغ بقية اليوم للتنزه في باريس والالتقاء بأصدقائه الذين يشاركونه تجربة الكتابات الأولى.

* «سيكولوجية الجماهير»
أما الدكتور سمير علي البلوشي، فكتابه الذي يقرأه حاليًا هو: «سيكولوجية الجماهير». تأليف المؤرخ الفرنسي وعالم الاجتماع جوستاف لوبون في سنة 1895، ومحاور الكتاب تتركز حول عدة نقاط هي: العاطفة ضد العقلانية. اللاوعي ضد الوعي. الفرد ينسلخ من صفاته الفردية ويتطبع ويتبنى فكر الجماهير دون تفكير أو تعقل. ويبينها لوبون ويدلل عليها في أشهر كتبه. وقد قسم كتابه إلى ثلاثة أقسام رئيسية:الخصائص العامة للجماهير. آراء الجماهير وعقائدها. وتصنيف الجماهير. ويجيب الدكتور سمير عن السؤال: «لماذا اخترت هذا الكتاب الذي عمره أكثر من مائة عام الآن»؟ ويجيب: «لأننا في أمس الحاجة الآن مع ظهور الثورات من حولنا لأن نفهم ما يحصل من ناحية علمية ونفسية واجتماعية لهذه الجماهير الثورية. حتى يتشكل لدينا الوعي الكافي ولا ننجرف خلف ما لا نعيه. الكتاب سلاح ذو حدين. فهو يشرح للقائد كيف يحرض الجماهير ويسيطر عليهم. ويشرح للجماهير كيف يتم تحريضهم والسيطرة عليهم».

* «الراهب الذي باع سيارته الفيراري»
من المثقفين الذين يختارون كتبًا متميزة باللغة الإنجليزية، عبد العزيز إبراهيم الموسى الذي يفصح لنا عن كتابه قائلاً: هو كتاب «الراهب الذي باع سيارته الفيراري» لمؤلفه روبن شارما (The Monk Who Sold His Ferrari)، ويشرح الموسى مجريات الكتاب: يروي قصة خيالية عن محامٍ مشهور يدعى جوليان مانتر أدى به انغماسه الشديد في عمله إلى أن أصبح أحد أشهر وأثرى المحامين في أميركا متمتعا بكل ملذات الحياة ومنها تلك السيارة الفيراري التي كان مغرما بها جدا، ولكن انغماسه الشديد في عمله كان على حساب صحته وعدم تكوينه عائلة، حتى انهار ذات يوم في إحدى جلسات المحكمة مصابا بأزمة قلبية حادة كادت أن تودي بحياته.

* «خرائط التيه»
الروائية والقاصة باسمة العنزي تعجبها رواية بعنوان «خرائط التيه» لزميلتها الروائية بثينة العيسى، وقول: قرأت مؤخرا بمزاج حزين رواية بثينة العيسى «خرائط التيه» فزاد عملها حزني!، وتصف باسمة العنزي الرواية بأنها رواية عن الضياع بأكثر من شكل ومعنى، عن الطفولة المعذبة والخريطة الممزقة، عن الباحثين عن خلاص، وعن السفلة الذين كانوا يوما ضحايا الحروب والفقر والجهل. وتضيف: بثينة في عملها الأخير غيرت من خطها الروائي ونجحت في الاحتفاظ بقارئ ينتظر جديدها. عمل كويتي مختلف بجرعة إنسانية عالية، وفضاء أحداث متسارعة خارج الإطار المحلي.

* «حين ينام العالم»
وفي جعبة الكاتبة حصة العجمي رواية «بينما ينام العالم» للكاتبة سوزان أبو الهوى، وتقول: لم يحدث قبلاً أن أعجز عن كتابة تعليق عن رواية أو رأي كما حدث مع رواية من النوع الذي أحب، كتبت عن تفاصيل النفس البشرية وجعلت الصورة كاملة من غير إسهاب في وصفٍ يجعلك تتململ.. رواية تتحدث عن القضية الفلسطينية على مدى أربعة أجيال أبطالها كل فرد أتى ذكره في الرواية، سرقة الفتاة البدوية للحصان رغبه فقط في امتطائه، بينما تبادل طلاء الأظافر إشارة لبدء الرحيل عن مرحلة الطفولة، وتفاصيل أخرى مثل: الحياة في مخيمات اللاجئين مع أمل العودة.

* «فئران أمي حصة»
بينما تقرأ الشاعرة أمينة بوغيث رواية الكاتب سعود السنعوسي الجديدة «فئران أمي حصة»، وتقول عنها إنها عمل روائي رائع يستحق القراءة للروائي الكويتي سعود السنعوسي، وقد صدرت عن دار العربية للعلوم ناشرون، وتدور أحداثها في الكويت ما بين عامي 1985 وحتى الزمن الافتراضي الذي تتحرّك فيه الرواية في عام 2020 مرورا بأحداث الغزو العراقي. وتصف أمينة الرواية بأنها «جميلة جدا ومؤلمة جدا لأنها رواية تحذيرية. هي نص كتب ببراعة بقدر ما تسعدك فإنها أيضًا تحزنك لأنها تضعك في مواجهة صريحة ومباشرة مع نفسك، ولأنّها حقيقية جدًا، تشبهنا جدًا.

* «ليل الخطاطين»
الشاعر حمود الشايجي يقول انتهيت قبل أيتم من رواية صغيرة مختلفة بعنوان «ليل الخطاطين» للمؤلفة ياسمين غاتا. بحثت عن الرواية طويلاً حتى وجدتها. عناء الوصول إليها بعد قراءتها تبدد بل تحول إلى سعادة. لأني لم أقرأ منذ مدة بعيدة كتابًا ناعما سلسًا لهذه الدرجة. رغم أن الكتاب مترجم فإني لم أشعر بذلك. ربما لبراعة المترجم. وربما لأسلوب الكاتبة الساحرة. الناعم البسيط. ففي هذه الرواية تروي الكاتبة تاريخًا ممزوجًا بسيرة ذاتية لجدتها الخطاطة التركية. حيث تصف العوالم الشرقية وتحولاتها التي طرأت عليها بقدوم كمال أتاتورك ومدى تأثير سقوط الدولة العثمانية والإجراءات التي جرت على عالم الخط من تحريم الكتابة بالعربية وتحويل الأحرف من عربية إلى حروف تركية مشتقة من الحروف اللاتينية.

* الحياة الروحانية
الشاعرة حنان عبد القادر تختار كتابًا غير الشعر لتقرأه، هو بعنوان «دين الإنسان» للكاتب المهتم بالأساطير فراس السياح، وتقول عن الكتاب بأنه يتناول وصف الظاهرة الدينية عند الإنسان بما أنه كائن متدين منذ الخلق، فقد ترك ما يدل على ذلك فوق جدران كهوفه، وتبين أن الدين ظهر مع التكنولوجيا كمؤشرين أساسيين على بدء الحضارة الإنسانية، ورغم قبول الكاتب بالتقسيم المعتاد لتاريخ الفكر الإنساني: السحر فالدين فالفلسفة فالعلم التجريبي، إلا أنه يرى امتصاص الفكر الديني لصدمة انتصار العلم والفلسفة، وما زال يزاحم وبقوة على اقتسام هوى وعقل الناس في كل مكان. وتقول: يريد الكاتب من خلال هذا البحث التعرف على الظاهرة الدينية في حقيقتها عن طريق وصفها بدقة، وعزلها عن بقية الظواهر الثقافية الإنسانية الأخرى في محاولة لتقصي الحياة الروحية عند الإنسان.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟