بعد انقضاء عام على الحرب الدائرة في أوكرانيا وما نجم عنها من إعادة خلط الأوراق الجيوسياسية والتحالفات الاستراتيجية الإقليمية والدولية، يزداد القلق في الجمهوريات السوفياتية السابقة والدول المتاخمة للاتحاد الروسي من إفرازاتها ونهايتها المفتوحة على احتمالات لم تكن متوقعة قد تعيد رسم الصيغة التي كانت قد استقرت عليها التوازنات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينات القرن الفائت.
ولعلّ أبرز التحولات التي تعتمل في هذه المنطقة هو الصراع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورني قره باغ، والذي دخل مؤخراً في مرحلة تصعيدية تشكّل تحدياً سافراً للنفوذ الروسي الذي كان دائماً من المسلّمات بين أطراف النزاع الذين ارتضوا رعاية موسكو وضماناتها الأمنية.
في العام 1991، نشبت حرب بين أرمينيا وأذربيجان حول الإقليم الذي يشكّل الأرمن الغالبية الساحقة من سكانه البالغين 12 ألف نسمة ويقع داخل الأراضي الآذرية، انتهت بسيطرة القوات الأرمينية على المنطقة المتنازع عليها بعد ثلاث سنوات من المعارك الضارية التي أوقعت 30 ألف قتيل وتسبب في نزوح ما يزيد على مليون شخص. كما تمكنت أرمينيا من بسط سيطرتها على بعض الأراضي المجاورة وطردت منها السكان الآذريين.
لكن في خريف العام 2020، شنّت أذربيجان هجوماً عسكرياً واسعاً على تلك المنطقة، مدعومة من تركيا، وألحقت هزيمة بالقوات الأرمينية التي فقدت 6 آلاف جندي، واضطرت إلى توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار أجبرت بموجبه على الانسحاب من مناطق كانت تحت سيطرتها منذ ثلاثين عاماً.
وكانت المفاجأة الكبرى في تلك المواجهة، أن روسيا لم تبادر لنجدة القوات الأرمينية، كما هو مفترض بموجب الحلف الاستراتيجي بين البلدين، في حين كانت تركيا تغدق على جيش أذربيجان المساعدات التي مكّنته من إحكام سيطرته بسرعة على المناطق التي دخلها.
وقد أثار ذلك الموقف الروسي ردود فعل ساخطة في أرمينيا، وانتقادات من المسؤولين على أعلى المستويات، وفي طليعتهم رئيس الوزراء نيكول باشينيان الذي وصف القوات الروسية في بلاده، والتي يصل عددها إلى ثلاثة آلاف جندي، بأنها «شاهد صامت»، وتساءل عن جدوى التحالف الاستراتيجي بين البلدين وانتماء أرمينيا إلى أسرة الدول المستقلة والتحالف الاقتصادي اليوروآسيوي ومعاهدة الأمن الجماعي، التي تقع جميعها تحت مظلة موسكو، التي اكتفت يومها برعاية اتفاق ثلاثي يضمن إبقاء معبر «لاشين» مفتوحاً لتزويد السكان الأرمن داخل الإقليم بالإمدادات اللازمة تحت إشراف قوت روسية لحفظ السلام.
لكن التطور الأخير الذي برز عندما ضربت أذربيجان حصاراً على المناطق التي تعيش فيها الأغلبية الأرمنية، ومنعت عنها الإمدادات، من غير أن تحرّك موسكو ساكناً، عاد ليطرح تساؤلات حول معادلة النفوذ الجديدة في المنطقة، والأسباب الحقيقية وراء الموقف الروسي، وأيضاً حول أبعاد الخطوة الأرمنية طلب نشر مراقبين أوروبيين على طول الحدود بين أرمينيا وأذربيجان منعاً لمواجهات جديدة. وقد أثار انتشار المراقبين الأوروبيين مؤخراً انتقادات من الجانب الروسي، حيث قال وزير الخارجية سيرغي لافروف: إن مثل هذه الخطوة ستكون لها انعكاسات سلبية تزيد من حدة التنافس الجيواستراتيجي وتؤدي إلى المزيد من النزاعات.
ومما لا شك فيه أن الأداء العسكري الروسي في الحرب الدائرة في أوكرانيا قد أدّى إلى اهتزاز صورة موسكو في المجال السوفياتي السابق، وليس مستبعداً أن تكون العمليات العسكرية التي تقوم بها أذربيجان منذ فترة في المنطقة تهدف إلى اختبار سلطة موسكو ونفوذها في المنطقة.
ويرى بعض المراقبين الدبلوماسيين الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» في باكو، أن الحصار الذي فرضته قوات أذربيجان على إقليم ناغورني قره باغ أمام بعثة حفظ السلام الروسية الموجودة هناك، إنما يرمي إلى ضرب صدقية هذه القوات، وقد يكون بالتنسيق سرّاً مع موسكو. ولا يستبعد هؤلاء أن يكون هدف الكرملين من عدم التحرك، هو دفع حكومة أرمينيا لتنازلات سبق أن رفضتها، مثل فتح معبر في أراضيها يربط أذربيجان بمنطقة ناجيشفان وصولاً إلى تركيا، بما يسمح لروسيا بأن تكون لها طريق برية لدخول البضائع والإمدادات وخروجها.
وكان رئيس الوزراء الأرميني قد وصف الموقف الروسي بأنه «غير مقبول»، وقال: إنه إذا كانت روسيا عاجزة عن ضمان الاستقرار والأمن في الإقليم، لا بد من طرح القضية على مجلس الأمن الدولي. كما طالبت الحكومة الأرمينية بجسر جوي لإنقاذ المحاصرين، على غرار برلين في الحرب العالمية الثانية وساراييفو خلال حرب البلقان في تسعينات القرن الماضي، خصوصاً أن معبر «لاشين» هو الشريان الوحيد المتبقي لوصول الإمدادات إلى الإقليم، حيث إن المناطق الأخرى مزروعة بالألغام. وقد أفاد استطلاع مؤخراً، بأنه في العام 2014 كان 63 في المائة من سكان أرمينيا يؤيدون إقامة علاقات خاصة مع موسكو، بينما لم تعد هذه النسبة اليوم تتجاوز 17 في المائة، وأن ما يزيد على نصف السكان يفضّلون علاقات أوثق مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. لكن ليس من السهل على أرمينيا فك ارتباطها بموسكو، فضلاً عن أن البنية الأمنية الأرمنية تقوم منذ قرون على التحالف الاستراتيجي مع روسيا. يقابل ذلك أن أرمينيا دولة صغيرة ولا يزيد عدد سكانها على 3 ملايين نسمة، وهي تقع على مفترق المحور التركي - الآذري والمحور الروسي - الإيراني، في مرحلة يزداد اعتماد موسكو على تركيا وأذربيجان وإيران بعد العقوبات الغربية، بحيث إن باكو وأنقرة هما اللتان تمليان إرادتهما على موسكو وليس العكس، سيما وأن تركيا أصبحت الشريك التجاري الثاني لروسيا بعد الصين، بينما بدأت ترجح كفّة أذربيجان في الميزان الأوروبي كمصدر رئيسي للطاقة بعد قطع الإمدادات الروسية.
محاور وتحالفات جديدة حول بحر قزوين
تصعيد الصراع بين أرمينيا وأذربيجان تحدٍ للنفوذ الروسي
محاور وتحالفات جديدة حول بحر قزوين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة