ملح الطعام والحروب

استخدمه الآشوريون كسلاح للدمار الشامل وبنى البريطانيون أطول جدار في تاريخ الهند لمنع تهريبه

ملح الطعام والحروب
TT

ملح الطعام والحروب

ملح الطعام والحروب

بدأت رحلة الإنسان مع الملح قبل 10 آلاف سنة عندما اكتشف قدرته على حفظ السمك ولحوم الماشية، وتعتبر هذه القدرة من أسس الحضارة البشرية منذ قديم الزمان. وقد كان الملح بشكل عام لا يقدر بثمن بالنسبة للكثير من الشعوب والحضارات، مثل الآشوريين والعبرانيين واليونانيين والرومان والصينيين والحثيين وغيرهم.
وبعد الاكتشاف الأول، بدأت الرحلة من الصين كما تشير الحفريات، إذ عثر على ضفاف بحيرة Xiechi - في شمال البلاد - على شواهد على إنتاج الملح على نطاق صناعي واستهلاكي واسع قبل 6 آلاف سنة.
وبعد الصين، بدأ الآشوريون والحثيون يستخدمون الملح كسلاح كيميائي لأول مرة في تاريخ البشرية، إذ كانوا ينثرون الملح على أرض المدن التي يحتلونها كلعنة على السكان المحليين، وكثيرا ما كانوا ينثرون الملح كتكتيك في الحروب وجعل أراضي أعدائهم غير صالحة للاستعمال (أي أراضي بور) في المستقبل.
وخلال ذلك أيضا، وكما تشير الحفريات، كانت أول بدايات استغلال الملح وتصنيعه على نطاق واسع في أوروبا، على ضفاف البحر الأسود 4700 سنة قبل الميلاد. فقد كانت هناك بلدات بلغارية خاصة بإنتاجه، ومن هذه البلدات ما يطلق عليه بلدة الملح التي كانت مسورة بجدار عال لحماية المصانع وأحواض تنشيفه.
أما أيام الفراعنة فقد كان يرسل السمك المملح إلى الفينيقيين مقابل مواد أخرى غالية الثمن كخشب الأرز، وكان الفراعنة أول الشعوب التي بدأت حماية الطرق الخاصة بتجارته، إذ كان يأتي معظمه من ليبيا وتونس كما هو الحال اليوم.
وفي العام الألف قبل الميلاد، اشتهرت كل من النمسا وألمانيا بإنتاجه، وحملت الكثير من البلدات الخاصة بإنتاجه على ضفاف نهر السالزاك، الأحرف الأولى من كلمة ملح بالألمانية وهي سولز - salz مثل سولزبيرغ.
جدير بالذكر أن للملح بحيراته الخاصة به حول العالم في أميركا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وله أيضا جبال، كجبل كوه سور التابع لسلسلة جبال زاغروس (العاصفة باليونانية) الضخمة الإيرانية التي تكونت نتيجة اصطدام الصفيحة التكتونية الأوراسية بالصفيحة العربية قبل 23 مليون سنة. ويعتبر كهف جزيرة قشم الملحي من العجائب الطبيعية في إيران.

* الرومان
* كان الملح مهما جدا للرومان وللإمبراطورية الرومانية، ففي عام 100 قبل الميلاد، كانت تشق له الطرقات الخاصة. ففي بدايات الجمهورية الرومانية بنى الرومان الطرق خصيصا لوصول الملح إلى مدينة روما التي كانت تتوسع باطراد. كما بنوا طرقات خاصة لإيصال الملح إلى القبائل الألمانية في الشمال الأوروبي. ويعتبر طريق سابين - Sabine من أشهر الطرق التي وصلت روما بالبحر الأدرياتيكي الضحل المياه. وقد منحهم ذلك القدرة على السيطرة على الأسعار وجمع ما يكفي من الأموال لخوض الحروب.
ويقال إن الجنود الرومان كانوا يقبضون معاشاتهم بعض الأحيان بالملح. ويعود جذر كلمة «ساليري » - salary الإنجليزي التي تعني معاشا إلى سالاريوم - salārium اللاتينية التي تشير إلى الأموال التي تعطى للجنود لشراء الملح. كما أن كلمة سلطة - salad، تعني بالأصل «المملح» في إشارة إلى أوراق الخضار التي كان الرومان يعرفون بتمليحها. ويقال إن قوافل الملح الخاص بالإمبراطورية كانت تضم عشرات آلاف من الجمال.
وفي عام 600 للميلاد تمكن اليابانيون من تطوير عملية استخراج الملح على مرحلتين، الأولى تستخدم الطحالب البحرية، والثانية المياه المالحة قبل الغلي في القدر للحصول على بلوراته.
البندقية - السياسة والقوة والعمران
في كتاب «الملح: بذرة حياة»salt: grain of life يتعرض المؤرخ الفرنسي بيير لاسلو، إلى دور وأهمية ضريبة الملح في العالم القديم، والدور المهم الذي لعبه الملح في التوسع الأوروبي وكيف أصبح تمليح السمك مصدرا ماليا وتجاريا هاما، أي قطاعا هاما ساهم في تكديس الثروات.
ويؤكد لاسلو أن الاتجار بالملح كان عماد الاقتصاد الأوروبي خلال عدة قرون وخصوصا في البندقية. فقد كانت هناك عدة أحواض لإنتاج الملح في المدينة أيام الرومان، ولكن انتشار إنتاج الملح وأحواضه على نطاق واسع لم يتم إلا بعد القرن التاسع للميلاد.
وفي مقابلة مع الراديو الرابعة للـ«بي بي سي» يقول لاسلو بهذا الخصوص: «إن الحرب بين السكان المحليين الذي كان يطلق عليهم اسم الالتينيين واللومبارديين انتهت بدفع اللومبارديين الالتينيين إلى شواطئ الأرخبيل (أرخبيل البندقية)، فلم يكن أمامهم إلا استغلال مصدر الدخل الوحيد المتوفر لهم وهو الملح والرمل، ومن تلك الحاجة بدأوا التبادل التجاري مع أعدائهم، وفي نهاية القرن الثالث عشر كان هناك أكثر من مائة حوض لإنتاج الملح في منطقة البندقية».
فقد انتبه السكان المحليون، كما يؤكد لاسلو، إلى أن بإمكانهم احتكار هذا القطاع وتحدي الأسعار كما يحلو لهم. كما كانت القوانين آنذاك تفرض على السفن القادمة من العالم الخارجي جلب الملح معهم. وقد تمكنت البندقية من جمع كمية هائلة منه. والأهم من ذلك، يقول لاسلو، إن تصاميم أماكن إنتاج الملح وحفظه، كانت مصدر الوحي للتصميم المعماري للبندقية من ناحية المباني والأقنية الكبيرة. ويمكن القول إنه تم بناء وتصميم واستيطان البندقية وأقنيتها الكبيرة ومبانيها على خلفية تجارة الملح.

* الثورات والحروب
* ويقول المؤرخون إنه في عام 1100 للميلاد، كانت المدن الأوروبية القوية تفرض الضرائب على مرور الملح بأراضيها، وقد أدت هذه القرارات إلى انبعاث مدن جديدة مثل مدينة ميونيخ.
بعد ذلك بدأت قصة الملح الأوروبية الحديثة، ونعني بذلك الثورات، أعمال الشغب والحروب.
وبدأت القصة من فرنسا وضريبة غابيلي - gabelle الشهيرة بالملح في القرن الثالث عشر، وعقوبة السجن المؤبد لتهمة تهريب الملح. ويقول بعض المؤرخين إن ارتفاع أسعار الخبز بسبب ارتفاع أسعار الملح كان أحد أسباب الثورة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر.
ولم يمض وقت طويل على الثورة الفرنسية حتى بلي نابليون بهزيمة شنعاء بعد حملته الفاشلة على إخضاع روسيا بداية القرن التاسع عشر، إذ كان نقص الملح أحد الأسباب الرئيسية لموت عشرات آلاف من جنوده.
ويقال إنه في القرون الوسطى وعصر التنوير كان الملح من الكماليات في أوروبا، وكان للملوك مطاحن الملح الخاصة بهم، وكان الجلوس إلى جانب الملح شرفا خاصا بصاحبه.
أما أهم الاضطرابات الحديثة التي سببها الملح وضريبته، فقد كانت انتفاضة موسكو عام 1648 التي تعرف بـ«عصيان الملح» أيام القيصر أليكس الأول. وخلال محاولات القيصر تعديل القوانين وإجراء الإصلاحات لوقف أعمال الشغب، اضطر إلى بناء مطبعة كبيرة في موسكو لطباعة التغيرات السياسية، ومن هناك ولدت روسيا الحديثة حسب رأي البعض.

* الولايات المتحدة الأميركية
* وفي إطار الحروب التي اندلعت من أجل الملح يقول البروفسور بيتر وولينستاين - جامعة فيرجينيا تاك، في مقابلة خاصة بالراديو الرابع للـ«بي بي سي»، إن المدنيين والعسكر على حد سواء اعتمدوا خلال الحرب الأهلية وخلال حرب الاستقلال على الملح، إذ لم يكن ممكنا العناية بالأحصنة والجنود وإطعامهم بسبب غياب التبريد، وخصوصا للملح. ولم يكن من الممكن إدارة المجتمع أو الحرب من دون الملح وقدرته على حفظ الطعام.
ويوضح وولينستاين أن محاولات أطراف الصراع منع وصول الملح إلى الطرف الآخر كانت وسيلة من وسائل الحرب، وكان الملح جزءا من استراتيجية الأطراف المتصارعة بدايات الحرب الأهلية عام 1861.
ويقال إن أهم أهداف الرئيس إبراهيم لينكولن بمحاصرة الولايات الكونفدرالية الأميركية، كان منع وصول الملح إلى الجنوب، حيث كانت عمليات ضرب مناجم الملح من أولويات الجيش. ويقول بعض القادة الذين شاركوا في الحرب تحت لواء الولايات الكونفدرالية، إن الاتحاديين ربحوا الحرب لأنهم كانوا يسيطرون على الملح. كما كان الماء المالح يدفع للجنود بسبب نقص النقود بداية القرن التاسع عشر وأثناء حرب عام 1812 بين الولايات المتحدة وبريطانيا.

* بريطانيا
* ولبريطانيا التي تنتج الملح منذ أكثر من ألفي عام وتصل قيمة قطاعه فيها حاليا إلى 20 مليار دولار سنويا، قصة طويلة مع الملح من حروب أميركا إلى الهند. فأسماء البلدات البريطانية التي تنهي بـ«ويتش« - Wich - (تعني المكان باللاتينية) مثل ميدلويتش ونانتويتش ونورثويتش ودرويتويتش، أسماء بلدات منتجة للملح منذ زمن طويل.
وكانت قرى هاردفيتشور وشاربشور في مقاطعة ويلز في القرن السابع عشر تختار رجلا محددا للوقوف أمام جثة الميت لتناول قطعة من الخبز والملح لامتصاص ذنوب الميت وتركه ينتقل إلى العالم الآخر بخفة. وكان بعض الناس ينثرون الملح قبل دخولهم إلى البيت الجديد كما كانوا يضعون على أنفسهم الملح قبل الذهاب إلى العزاء. وهذه تقاليد معروفة في مجتمعات أخرى كانت تستخدم الملح للوقاية من الشر، من بينهم اليابانيون الذين كانوا ينثرونه حول حلبة السومو لحماية المتصارعين من الأرواح الشريرة.
وقد تحول ميناء ليفربول الصغير إلى ميناء دولي بسبب تجارة الملح، وكان في القرن التاسع عشر معظم الملح المستهلك حول العالم يأتي عبر هذا الميناء ومناجم تشاشر القريبة.
استخدم البريطانيون الملح كأداة من أدوات الاضطهاد الاقتصادي للاستعمار البريطاني في أميركا والهند، إذ كان الهنود ممنوعين من إنتاجه والاتجار به.
ولم يفرض البريطانيون على الملح وعمليات شرائه وبيعه ضرائب كبيرة وحسب، فقد بنوا أول وأكبر وأطول جدار في التاريخ لمنع تهريب الملح واحتكاره والسيطرة على تجارته. فقد كان يصل طول الجدار الطبيعي بين مدراس إلى الاينداس إلى 2300 ميل بعرض نصف كيلومتر. وقد فرزت الإمبراطورية 12 ألف جندي لحماية وحراسة الجدار.
ويقال إن غاندي عندما وصل البحر في نهاية مسيرة عام 1930 التي تواصلت لمدة أربعة وعشرين يوما، غرف بعض الملح بين راحتيه وعرضها على مناصريه - وكانت هذه الخطوة الرمزية الشرارة التي أدت إلى اندلاع التمرد الشعبي العام وتحقيق استقلال الهند عن بريطانيا.
ولم يقل الاتكال على الملح تاريخيا إلا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث دخلنا عالم الآلة ومضى عالم الخيل والعناية بها وصحتها إلى غير رجعة.

* الملح في الأحلام
* عند ابن سيرين
الملح: قال القيرواني إنّه يدل على مال عليه التراب من الأموال، لأنه من الأرض، سيما أنّ به صلاح أقوات النفس، فهو بمنزلة الدراهم والأموال التي بها صلاح الخلق ومعايشهم. ويدل أبيضه على بيض الدراهم، وأسوده على سود الدراهم، ومطيبه على الذهب. والمال الحلال، وربما دل على الدباغ، لما جاء في بعض الآثار أنَّ فيه شفاء من اثنين وسبعين داء.. وإن كان طالبًا للعلم ظفر بالفقه، وإن كان طالبًا للدنيا عبرته له بالمال.
* عند الشيخ عبد الغني النابلسي:
هو في المنام مال بلا تعب، وإذا رأيته بين المتخاصمين فإنهم يصطلحون. ومن رأى أن ملح الناس قد فسد، فإن الطاعون يحل بذلك المكان.. والملح شغل ومرض، والملح زهد في الدنيا وخير ونعمة، ومن أكل الخبز بالملح فقد اقتنع من الدنيا بشيء يسير. ومن وجد ملحًا وقع في شدة ومرض. ومملح السمك أخبار سارة، ومملح الزيتون نقض عهد.



«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين
TT

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

لقمة خبز قد تأسر القلب، ترفع الحدود وتقرب الشعوب، هكذا يمكن وصف التفاعل الدافئ من المصريين تجاه المطبخ السوداني، الذي بدأ يغازلهم ووجد له مكاناً على سفرتهم.

هذه الأرغفة البيضاء الصغيرة، التي يصف مصريون مذاقها بأنها «أطيب من الكيك»، في إشارة لطيب المذاق، تعد مثالاً يعكس مدى الانسجام الثقافي الذي تجاوز الحدود.

مع تداعيات الحرب التي شهدها السودان، والتي أدت إلى عمليات نزوح كبيرة إلى مصر، لم يتوقف الأمر عند مرحلة سرد الآلام والمآسي، بل تحول سريعاً إلى اندماج السودانيين في سوق الطعام المصري، وخلال أقل من عامين أثبت المطبخ السوداني وجوداً نسبياً في مصر.

بمجرد أن تطأ قدمك شارع فيصل (أحد أشهر شوارع محافظة الجيزة) يمكنك الاستدلال على الوجود السوداني من رائحة التوابل العميقة الصادرة من مطاعم أسسها سودانيون، يستهدفون بها زبوناً مصرياً يتوق إلى مذاق شعبي في وصفات، مثل صينية البطاطس، ويختلف تماماً ليقدم هويته في طبق آخر مثل أسياخ «الأقاشي»، المصنوعة من اللحم الطري الغارق في توابل مثل الزنجبيل والقرفة، مع طبقات البقسماط المقرمش، التي تغازل المصريين.

تقول السودانية، فداء محمود أنور، خريجة إدارة أعمال من جامعة الخرطوم ومؤسسة مطعم «بنت السودان» في حي مدينة نصر، شرق القاهرة، إن المصريين «احتضنوا المطبخ السوداني بسبب وجود أواصر اجتماعية وثقافية بين البلدين».

وأوضحت، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، من داخل مطعمها البسيط: «نقدم أكلات سودانية أصيلة، مثل الفول بزيت السمسم، والفلافل السودانية المصنوعة من الكبكبي (الحمص بلغة المصريين)، والأقاشي، وهو طبق شهير في السودان، إضافةً إلى الفسيخ السوداني والملوخية المفروكة وملاح الروب الأحمر».

وعن الأطباق شديدة الخصوصية، يقدم مطعم الشابة السودانية فداء طبقاً حبشياً، قالت عنه: «هناك أيضاً طبق ذو أصل حبشي أصبح جزءاً من المائدة السودانية يسمى (زغني)، وهو عبارة عن قطع الدجاج المبهرة بالقرفة والثوم والبصل والحبهان، كما يضاف له المذاق الحار بالشطة السودانية، وكذلك مذاق الحادق من خلال رشة السماق، ويقدم مع البيض المسلوق». فضلاً عن طبق الحلو السوداني الشهير «الباسطة»، أو ما يعرف بالبقلاوة في مصر.

وبحسب تجربتها، قالت فداء إن تفضيلات المصريين من المطبخ السوداني تميل إلى بعض الأطباق الأساسية التي ربما لا يختلف عليها السودانيون أيضاً، مثل: الخبز السوداني، والأقاشي، والفلافل، وأطباق الفول بالخلطات السودانية. أما باقي الأطباق، فالإقبال عليها محدود.

طعمية (فلافل) سودانية (الشرق الاوسط)

والبعد الجغرافي بين مصر والسودان انعكس في تقارب ثقافي، ظهر في المذاق المميز للمطبخين. ترى منة جمال، مصرية تعيش في حي السادس من أكتوبر، الذي يضم عدداً من المطاعم السودانية، أن المطبخ السوداني قريب من نظيره المصري، وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «الخبز السوداني شبيه ببعض أنواع الخبز في الريف المصري، ربما يختلف في السُمك والحجم فقط ».

وعن الاختلاف بين المطبخين، قالت: «السودانيون يميلون إلى المذاق العميق والحار، بإضافة كميات كبيرة من التوابل، كما أن الفلفل الحار أساسي في عدد كبير من الأطباق السودانية، بينما يميل المصريون إلى إضافة التوابل الأساسية فقط، مثل الملح والفلفل والكمون».

الباسطا حلوى سودانية (الشرق الاوسط)

وبالعودة إلى فداء، فإنها أيضاً كسودانية وقعت في حب المطبخ المصري، وتروي تجربتها بالقول: «أنا من عشاق محشي ورق العنب، والكرنب، والباذنجان بالدقة، أحب تناوله مع الفلافل السودانية. أيضاً معظم السودانيين يحبون المحشي والملوخية المصرية».

الأطباق السودانية لم تعرف طريقها إلى المصريين من خلال المطاعم التجارية فحسب، بينما ساهم في رواجها نساء سودانيات كنّ قبل النزوح ربات منزل، إلا أنهن، مثل كثير من نساء الشرق، يعتبرن الطهي مهارة أساسية. ومع وصولهن إلى مصر وبحثهن عن سبل لكسب العيش، تحول الطهي إلى مهنة تحت شعار «أكل بيتي سوداني».

التقت «الشرق الأوسط» بفاطمة (اسم مستعار)، التي نزحت بعد الحرب وجاءت إلى القاهرة بصحبة عدد من الأسر السودانية، وتقيم حالياً في مدينة «الرحاب» التي تعد من المناطق ذات الإيجارات المرتفعة، حيث تشارك السكن مع 4 أسر سودانية أخرى. منذ عام، بدأت فاطمة بتقديم خدمات «الأكل البيتي» من منزلها بمساعدة بعض السيدات المقيمات معها.

تقول «فاطمة»: «جاءت الفكرة عندما لاحظت انتشار مشروعات الأكل البيتي في مصر، خاصة في الأحياء الراقية. فأنشأت حساباً على (فيسبوك)، بدأت من خلاله تقديم خدمات الأكل السوداني». وأردفت: «المصريون يحبون المطبخ السوداني، خاصة تلك الوصفات القريبة من مطبخهم، على شاكلة المحشي، كذلك تحظى أصناف اللحم المبهر بإعجاب كبير».

وأوضحت فاطمة أنها سعت إلى تقديم مزيج من الأكلات السودانية والمصرية، قائلة: «أستهدف زبونات مصريات عاملات يبحثن عن بدائل للطهي المنزلي. لذلك، لم أكتفِ بالوصفات السودانية فقط، بل تعلمت إعداد الأكلات المصرية، وهو أمر لم يكن صعباً على سودانية تربطها بمصر أواصر ثقافية واجتماعية، إذ كانت مصر والسودان في مرحلة ما من التاريخ بلداً واحداً».

تمكنت فاطمة من تقديم تجربة طعام بيتي فريدة، تجمع بين نكهات المطبخين السوداني والمصري، مستقطبةً كثيراً من الأسر المصرية التي تبحث عن طعام منزلي بطابع خاص. ومن خلال تجربتها، كشفت فاطمة عن مدى التداخل الثقافي بين المطبخين، ما يمهد الطريق لمزيد من الاندماج وابتكار وصفات جديدة قد تظهر في المستقبل القريب.