نوارة أحمد فؤاد نجم تواجه والدها «الفاجومي» بأثر رجعي

مواقف إنسانية ومواجهة صريحة تأخرت كثيراً

نوارة أحمد فؤاد نجم تواجه والدها «الفاجومي» بأثر رجعي
TT

نوارة أحمد فؤاد نجم تواجه والدها «الفاجومي» بأثر رجعي

نوارة أحمد فؤاد نجم تواجه والدها «الفاجومي» بأثر رجعي

«عتاب بأثر رجعي ومواجهة صريحة تأخرت كثيراً»؛ هكذا يمكن وصف كتاب «وأنت السبب يا با... الفاجومي وأنا» الصادر أخيراً عن دار «الكرامة» بالقاهرة، للكاتبة نوارة نجم التي تروي مذكراتها مع والدها الشاعر المصري المثير للجدل، أحمد فؤاد نجم (1929- 2013) والشهير بـ«الفاجومي» وهو لقب يشير في قاموس العامية المصرية إلى معاني الاندفاع والجرأة والتهور.
يقع الكتاب في 309 صفحات من الحجم المتوسط، موزعة على 22 فصلاً، ويتضمن كثيراً من المواقف التي تنطوي على عتاب أو لوم توجهه الكاتبة إلى أبيها الذي عاش منشغلاً عنها ومهملاً لها في كثير من الأحيان، نظراً لطبيعة حياته غير المستقرة، وتعرضه للاعتقال نتيجة لمواقفه السياسية وتنقلاته بين كثير من الأماكن، وبيته المفتوح طوال الوقت للأصدقاء والمريدين. لكن المؤلفة تروي مثل هذه المواقف بأسلوب ساخر وروح مرحة مشرّبة بنبرة غضب أحياناً، مع حالة من التسامح والمحبة، فضلاً عن روح الفخر والاعتزاز التي تفيض بها فصول الكتاب طوال الوقت من المؤلفة تجاه والدها، وبلغة سردية رشيقة مكثفة، أشبه ما تكون بلغة الرواية؛ لكن عابها أحياناً الاستغراق الشديد في اللهجة العامية المحلية.
«كان العثور على أبي أمراً شاقاً جداً، فهو مثل الزئبق لا يمكن الوصول إليه إلا بشق الأنفس»، هكذا تستهل المؤلفة مذكرات سنوات الطفولة الأولى؛ حيث تروي كيف كانت والدتها الكاتبة صافي ناز كاظم تحرص على مد جسر التواصل بينها وبين والدها بعد انفصالهما. كانت الأم تتواصل في هذا السياق مع الصديقين الوحيدين اللذين كان يحظيان باحترامها بين بقية رفاق «الفاجومي»، وهما «محمد علي» والمطرب «الشيخ إمام». وإذا نما إلى علمها أن «نجم» ذاهب إلى ندوة أو حفل أو زيارة ما، فإنها تطلب من «محمد علي» أن يأخذ «نوارة» معه لحضور الفعالية، أو تصطحبها هي بنفسها، أو تطلب ذلك من صديقتها المناضلة اليسارية شاهندة مقلد (1938- 2016)، وطالما اصطحبت طفلتها إلى مقر «حزب التجمع»؛ حيث حفلات «الفاجومي» مع «الشيخ إمام».
كانت «صافي» تعالج حماقات «نجم» -على حد تعبير الكتاب- مع «نوارة»، وتطيب جراحها وتخفف آلامها، فمثلاً عندما علمت الأم أن «نجم» ذاهب إلى حفل تأبين الشاعر أمل دنقل، أخذت الابنة لترى أبيها. جلس «نجم» على المنصة وتحدث كثيراً عن أمل دنقل الذي ربطته به علاقة صداقة، لا تخلو من عداء وحب وكراهية وإعجاب ومنافسة، واختتم حديثه قائلاً إنه من «سخافات» الشاعر الراحل أن يموت في يوم عيد ميلاد «الفاجومي»، ثم خرج وغادر المكان تاركاً ابنته، فركضت «نوارة» خلفه لتذكره بأنها جاءت كي تراه، فوعدها أن يعود مرة أخرى إليها، فطلبت منه ألا يكذب عليها ويصارحها إن كان فعلاً لن يعود. هنا أخبرها أنه لن يعود، ووعدها أن يزورها مستقبلاً. ثم قبَّلها وعانقها وذهب، بينما وقفت تتابعه بنظرها حتى أصبح نقطة، ثم عادت حزينة إلى أمها، فأخذت تطيِّب خاطرها وتضاحكها وتسخر من الموقف، لتخفف من وطأته.
وتروي المؤلفة موقفاً آخر يوضح تلك الفكرة قائلة: «ذات مرة اشتقت إلى أبي بشدة، وطلبت من أمي أن أذهب لزيارته، فأخذتني إلى حي الغورية، وبالطبع لم نجده، ووجدنا (الشيخ إمام)، فجلس معي وغنى لي وضاحكني، واعتذر بأن أبي ليس في المكان، وأنه لا يعلم أين هو. عُدت إلى المنزل محبطة على الرغم من كل محاولات الشيخ إمام للتخفيف عني، وظللت أبكي حتى شعرت بأن رأسي يتصدع، فأخذت أصرخ من آلام رأسي، وأصاب الهلع والخوف أمي. استيقظت في اليوم التالي فأخذتني أمي، وربطت رأسي بقماشة بسبب الآلام التي كنت أشعر بها، وذهبت بي إلى الغورية، وسألت صاحب المقهى تحت البيت إن كان أبي موجوداً، فرد بالإيجاب، فطلبت مني أن أصعد إلى بيته وحدي، وأن أنظر إليها من النافذة كي تطمئن. وبالفعل دخلت البيت وعانقت أبي، وقلت له إنني يجب أن أنظر إلى أمي من النافذة لكي تطمئن».
وتنوه نوارة نجم بأنها كانت مصدر إلهام قصيدته الغنائية، في مقدمة تترات مسلسل «حضرة المتهم أبي». حدث ذلك في عام 2005 تقريباً، حين تزامن وصول سيناريو المسلسل مع جلستها معه، وكانت «نوارة» تمر بنوبة اكتئاب حاد: «وكنت أؤنبه لأنه أنجبني، ولأنه يتعامل مع الإنجاب بلا اكتراث، ولأنه تزوج فولدت زوجاته بنات كلهن تعيسات». وبعد انتهاء زيارتها له، استلهم مطلع القصيدة الذي يقول:
«نازل وأنا ماشي... ع الشوك برجليا
وأنت السبب يا با... ياللي خليت بيا
لا فرشت لي بستان... ولا حتى بر أمان
أعيش عليه إنسان... والدنيا في إيديا»
شهد انتقال «الفاجومي» إلى المقطم بداية صداقة من نوع جيد بينه وبين ابنته، فقد سمحت له السلطات بعقد ندوات، وكان يتصل بها خصيصاً كي تذهب معه، وكان ذلك يسعدها. وتكشف المذكرات عن جانب من حياة «نجم» الإبداعية، فعندما يكون في حالة كتابة يصبح سيئ المزاج للغاية، يستيقظ عابساً ولا يرغب في محادثة أحد، وأحياناً يتحدث مع الآلات، وأحياناً يكنس البيت ويغسل الأطباق؛ لكنه في كل الأحوال ضيق الصدر، وأفضل وسيلة للتعامل معه في تلك الحالة هي تجنبه.
وعن إصابة «نجم» المتكررة بجلطة في المخ، تروي «نوارة» أن المرة الأولى التي عرفوا فيها بالأمر كانت في عام 2000 تقريباً. كان أحمد فؤاد نجم يجلس مع أصدقائه ويلعب لعبة «ماينس» التي تعلمتها نوارة كي تتقرب منه، وهي لعبة ورق تشبه «الكونكان». ويروي أصدقاؤه أنه هتف فجأة «الله الله الله»، ثم انكفأ على وجهه، فحمله أصدقاؤه ونزلوا به إلى شقة «أم زينب» التي اتصلت بـ«نوارة» وهي تصرخ طالبة منها المجيء. ظنت «نوارة» أن والدها فارق الحياة وهرعت إليه؛ لكنها حين دخلت وجدته جالساً على السرير مشعلاً سيجارته، ومعه صديقه الطبيب محمود عبد الظاهر. سألت: ماذا حدث؟ فقال الطبيب إنها جلطة خفيفة، فعادت تسأل عما إذا كان يجوز له أن يدخن وهو في هذه الحالة؟! فأجاب الطبيب بقلة حيلة: ليتك تقنعينه بأن يتوقف عن التدخين! وناشدته «نوارة» بحب وحنان أن يتوقف عن التدخين، فأجاب بكل وداعة: «حاضر»... قالها وهو يشعل سيجارة جديدة!


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس
TT

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

غلاف الكتاب

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.