يتناقش العديد من المعلقين وأصحاب الاهتمام وذوي الاختصاص في الولايات المتحدة، هذه الأيام، في تأثير «إعادة الهيكلة» المالية والوظيفية الجارية في شركات التكنولوجيا الكبرى على سوق الإعلانات ومستواها ونوعية المواد وجودتها، فضلاً عن مدى الإزعاج البصري الذي تسببه للمشاهدين على مواقع التواصل الاجتماعي. وتكاد التعليقات تكون موحّدة في التذمر من هبوط مستوى الإعلان والمنتج على حد سواء، بعدما أجبر تراجع الاقتصاد وازدياد التضخم شركات عدة على خفض نفقاتها الإعلانية بنسب كبيرة.
وبحسب تقرير نشر أخيراً، وجدت دراسة استقصائية شملت 43 شركة متعددة الجنسيات، وتمثل أكثر من 44 مليار دولار في الإنفاق الإعلاني، أن ما يقرب من 30 في المائة خططوا لتقليص ميزانياتهم التسويقية هذا العام. ووفق الدراسة التي أجراها «الاتحاد العالمي للمعلنين» في الخريف الماضي، ذكرت شركة كبرى متخصصة في مستحضرات التنظيف ومواد التعقيم والفلاتر والمنظفات، كانت سابقاً تخصص مئات الملايين من الدولارات سنوياً للإعلان عن منتجاتها، أنها بدأت هذا الشهر في «تبسيط» تسويقها وتقليص الإنفاق.
ومع أن تمرير الدعايات الإعلانية على وسائل التواصل الاجتماعي غالباً ما يكون مزعجاً، فإن الوضع ازداد سوءاً في الآونة الأخيرة، كما تفيد تعليقات العديد من الناس؛ إذ بات الإعلان يقاطع الاستماع إلى أغنية أو مشاهدة شريط مصوّر، أو حتى شريط فيديو لا يتجاوز طوله دقائق قليلة. وصار ما يُسمّون بـ«اللايف كوتشز» يستمتعون أكثر كلما ازدادت الإعلانات على «ترينداتهم»، كدليل على تحقيقهم نجاحاً تسويقياً يعود عليهم بمنفعة مالية أكبر.
إعلان على «تويتر»
المشاهدون رهائن شبكة مربعة الأضلاع
هذا الواقع يتشارك فيه الآن أصحاب المصلحة في شبكة «مربعة الأضلاع» من المنصات والمعلنين والمنتجات والمتلقين. ومنذ تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى أكبر عارض إعلانات ومتلقٍ لها، متغلبة على كل وسائل الإعلام التقليدية، أصبح المواطن العادي «رهينة» حقيقية بكل ما لهذه الكلمة من معنى لتلك الشبكة.
وفعلاً، لطالما شاهد كثيرون على أجهزتهم اللوحية وهواتفهم الجوالة وحواسيبهم الشخصية، إعلانات غير مرحب بها، سواء على «تويتر» أو «فيسبوك» أو «إنستغرام» أو «يوتيوب». وهي على سبيل المثال لعلامات تجارية كبرى تروّج لسيارات ومجوهرات باهظة الثمن، أو منتجات لا قِبل لغالبية الناس بامتلاكها. ولكن اليوم، مع تراجع إنفاق المعلنين، وانخفاض أسعار الإعلانات من قبل شركات التكنولوجيا، فُتح الباب أمام منتجين ومنتجات لإعلانات هابطة عن منتجات لم يكن بالإمكان تخيلها بصرياً أو نوعياً.
ويتداول جمهور عريضٌ راهناً تعليقات، معظمها - حتى الآن - من باب التندر، لكنها بدأت تثير تساؤلات عن المسؤولية الأخلاقية والتجارية لشركات التكنولوجيا، التي بات همها الأساسي الحصول على مال الإعلانات، مهما كان مصدرها.
أيضاً، ومع حملات تقليص العمالة والاستغناء عن الموظفين التي طالت غالبية شركات التكنولوجيا، تراجع الجهاز الرقابي عن المحتوى، سواءً في «تويتر» أو «ميتا» أو «ألفابيت» أو «أمازون» أو «مايكروسوفت». وهنا يدافع القائمون على تلك الشركات بالقول إنه لم يجرِ أي خفض لأعداد الموظفين والمسؤولين عن رقابة المحتوى، غير أن الجمهور يرى عكس ذلك. ويقول البعض إن تراجع الوضع الاقتصادي أدى، على ما يبدو، إلى وجود طبقتين: عليا وسفلى... في سلم الإعلانات والمعلنين والمنتجات والمشاهدين. كذلك يقولون إن تلك الإعلانات الهابطة تشبه برامج ما بعد منتصف الليل التلفزيونية المعادة أو الهابطة. وفي سوق الإعلانات، المهتز في ظل اقتصاد مضطرب، تبدو الإعلانات التي يرغب قلة من الناس في رؤيتها... فجأة موجودة في كل مكان.
شح المال وصحافة «التابلويد»
في سياق موازٍ، تتحدث بعض التقارير والتعليقات عن إعلانات أخيرة على «تويتر» - مثلاً - بأنها حوّلت المنصة إلى ما يشبه صحافة «التابلويد» الصفراء التي تروج لمنتجات لا مجال لأن يحتاج إليها الناس... كالترويج لخفّاق للبيض داخل القشرة. وهناك أيضاً، إعلانات على «إنستغرام» من «أمازون» لمنتجات من تجار مجهولين وشركات مجهولة العناوين، وإعلانات على «يوتيوب» لمنتحلي صفة بعض المشهورين على منصات التواصل، بهدف خداع المشاهدين.
للعلم، كانت التحديثات والتطويرات التقنية في الإعلانات الرقمية، قد أدت إلى تحسين تجربة المستخدمين. وبذا، صار بإمكان الباحث عن حذاء أو دراجة هوائية أو حقيبة أو سيارة، بأوصاف وماركة محددة، أن تصل إليه دعايات تلك المنتجات تلقائياً وبسهولة، بدلاً من دعايات السياحة أو تعلم السباحة والرقص. ويفترض بتلك التقنية أن تعمل بالطريقة نفسها في تصفية الإعلانات المضلّلة أو الخطيرة أو الهابطة. لكن يبدو أن العكس هو الذي يحدث في الآونة الأخيرة على العديد من منصات التواصل الاجتماعي، ولأسباب عدة، منها التباطؤ في سوق الإعلانات الرقمية بشكل عام.
وبحسب تقديرات شركة «سينسور تاور» للأبحاث، يبدو أن موقع «تويتر» كان الأسوأ أداء بين وسائل التواصل، بعد استحواذ إيلون ماسك عليه، والخضّة التي أحدثها فيه. إذ كافح الموقع للاحتفاظ بالمعلنين البارزين الذين غادروا بعد توليه المسؤولية، وسط مخاوف من انتشار خطاب الكراهية والمعلومات المضللة على المنصة، ولقد أنفق أكبر 10 معلنين في العام الماضي 55 في المائة أقل خلال فترة استحواذ ماسك مما أنفقوه العام السابق. ثم إن 6 منهم لم ينفقوا شيئاً حتى الآن في عام 2023. وهنا، قال مشترو الإعلانات على وسائل الإعلام، إن «تويتر» عرض صفقات مثل «اشترِ واحداً واحصل على الثاني مجاناً»، مع حسومات وحوافز إضافية لجذب المعلنين.
في أي حال، أضاف التقرير أن المشاكل أصابت كل شبكات التواصل الاجتماعي. فقد سجلت الشركة الأم للموقع «سناب شات»، الشهر الماضي، أبطأ معدل نمو ربع سنوي، وتوقعت انخفاضاً في المبيعات للربع الحالي. أيضاً قالت شركة «ألفابيت» - الشركة الأم لـ«غوغل» - إن مبيعات الإعلانات على موقع «يوتيوب»، التابع بدوره لـ«غوغل»، تراجعت بنسبة 8 في المائة تقريباً في الربع الأخير من العام الماضي.
وفي الاتجاه نفسه، أبلغت شركة «ميتا» المالكة لـ«فيسبوك» و«إنستغرام»، عن أول انخفاض لها على الإطلاق في الإيرادات الفصلية، حيث انخفضت مرة أخرى في الربع الأخير، كما تراجعت أسعار الإعلانات على المنصتين بنسبة 24 في المائة في الربع الأخير من عام 2022 عن العام السابق.
«تسوّل» الإعلانات
مع تعرّض هذه الشركات الكبرى لضغوط المساهمين من أجل تحقيق الأرباح، كائناً ما كان مصدرها، دُفعت تلك الشركات لقبول الإيرادات وتوليدها حيثما كان ممكناً. وبضمن ذلك، بيع إعلانات منخفضة الجودة لمنتجات أقل جودة. هذا الواقع وصفه البعض بأنه يشبه «التسول»، حيث لا مجال للاختيار، بل فقط القبول بأي أموال تأتي. واستطراداً، ثمة من يضيف أسباباً أخرى على علاقة بتراجع وانخفاض جودة الإعلان؛ إذ بعدما كان الإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي فناً متخصصاً تمارسه بإتقان ومهنية وكالات متخصصة، نراه الآن متاحاً بسهولة لأيٍّ كان. وصار كثيرون يتجنبون الإعلانات المستهدِفة الوصول إلى جمهور محدّد بتكلفة أعلى عادة، لمصلحة تعميم الإعلان عشوائياً عبر الإنترنت، بأمل جذب انتباه المتسوّقين السذّج أو المحبَطين الذين يعانون الملل.
وعلى الرغم من محاولة بعض المواقع والمنصات خفض كمية الإعلانات المتداولة ووقتها، وتطبيق برامج تجريبية للالتفاف عليها، أو طلب اشتراكات شهرية من المشاهدين؛ لإعفائهم من مشقة متابعة «الوقفات الإعلانية»، غدا من المستحيل أن تؤدي تلك الإجراءات إلى وقفها. ثم إن محاولة المنصات الاجتماعية إعادة السيطرة على موادها الإعلانية أضحت قضية صعبة، والرقابة على الإنترنت أعقد بكثير.
ختاماً، مع كل ما سبق، عمد العديد من خدمات البث الإخبارية إلى وضع إرشادات إعلانية أكثر صرامة ومساحة إعلانية محدودة ومكلفة، ما يجعل تنظيم الإعلانات أسهل. وعلى سبيل المثال، عمدت «بلومبيرغ ميديا» إلى تجنب سماسرة الجهات الخارجية والمزادات الآلية للمساحات الإعلانية، وهي خطوة يرجح أنها ستؤدي إلى إنهاء الإعلانات منخفضة الجودة.