حرب أوكرانيا توجّه بوصلة الطاقة العالمية إلى الشرق الأوسط

أوروبا تنجح في تخطي اضطراب إمدادات الغاز... و«أوبك» ترسي عوامل استقرار النفط

حرب أوكرانيا توجّه بوصلة الطاقة العالمية إلى الشرق الأوسط
TT

حرب أوكرانيا توجّه بوصلة الطاقة العالمية إلى الشرق الأوسط

حرب أوكرانيا توجّه بوصلة الطاقة العالمية إلى الشرق الأوسط

أعادت الحرب الروسية الأوكرانية، هيكلة أسواق الطاقة العالمية، وأجبرت الدول التي تعتمد على مصدر وحيد لتوليد طاقتها، سواء من دولة محددة أو مصدر طاقة محدد، إلى تنويع مصادرها من دول كانت خارج حساباتها الاقتصادية والسياسية وحتى بعدها الجغرافي، مع الحرص على تنويع مصادر الطاقة نفسها أيضاً.
وفي الوقت الذي وجد فيه العالم نفسه فجأة أمام مسار إجباري، نهايته غير معروفة حتى الآن، برز قطاع الطاقة كمحدد أساسي في العلاقة بين الدول، حتى تولى ملف الطاقة لدى الدول كافة، الرؤساء أنفسهم، وبدت القبلة هنا شرقاً.
استحوذت دول الشرق الأوسط هنا على النسبة الأكبر من المناقشات والمباحثات والتعاقدات والعقود ومذكرات التفاهم، مع الغرب، وتحديداً الدول الأوروبية، في قطاع الطاقة، وذلك عكس ما كان يروج له الغرب تماماً، من وجوب التحول نحو الطاقة المتجددة والضغط على الدول المنتجة للوقود الأحفوري، حتى تقلل من إنتاجها ومن ثم انبعاثاتها الكربونية.
لم تحدد الدول الغربية، بسبب الحرب الأوكرانية، قبلتها ناحية الشرق، إلا بعد أن استخدمت معظم مصادر الطاقة لديها، حتى إنها عادت إلى عصور الفحم من جديد، الوقود الأكثر تلويثاً للمناخ؛ ومع مؤشرات إطالة زمن الحرب، بدا الشرق الأوسط هنا حلاً متوازناً، يحافظ على مصادر طاقة، أقل تلويثاً، ويحرص على أن يستمر الغرب في النور، من إضاءة وتدفئة تحافظ على سريان الدم في عروق مواطنيه.

وسياسة دول الشرق الأوسط هذه، ربما قد تضر بعلاقتها بروسيا، المستمرة في الحرب، والمستمرة أيضاً في ضخ الغاز عبر أوكرانيا للقارة الأوروبية، التي تعارض بشدة تدخلها في أوكرانيا، بل ووقعت عليها عقوبات هي الأشد منذ عقود على أي دولة، ذلك بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية، الاقتصاد الأكبر في العالم.
غير أن روسيا عضو في مجموعة «أوبك بلس»، التي تضم أعضاء منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك)، بقيادة السعودية، (13 دولة) وحلفاءها (10 دول)، وهو ما يتوجب عليه قرارات تحافظ على أسواق الطاقة العالمية، حتى لو كانت موسكو، عضواً في «أوبك بلس».
واضطراب أسواق الطاقة يخدم روسيا ويضر باقي المنتجين، وهو ما لم تسمح به السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم، لذلك وازنت بقراراتها بين العرض والطلب، حتى الآن، مع استقرار الأسعار دون 100 دولار، وهو ما يخدم الاقتصاد العالمي.
بناء على كل هذه المعطيات، تستطيع الدول الأوروبية، أن تقول: «نجحنا في اختبار أزمة الطاقة، بعد مرور عام كامل على الحرب الروسية - الأوكرانية، التي ضربت الاقتصاد العالمي في مقتل، باستهدافها الطاقة والغذاء».
- العالم يتجه شرقاً
بعد عقود من اعتماد القارة الأوروبية على روسيا في توفير أكثر من 40 في المائة من استهلاك الطاقة، بدأت الدول الأعضاء تنتفض، كل حسب درجة تأثره بأكبر أزمة طاقة عالمية منذ عقود.
ألمانيا: توجهت ألمانيا، المتضرر الأكبر من تغيرات أسواق الطاقة، التي كانت تعتمد على روسيا بنحو 50 في المائة في توفير طاقتها، إلى قطر، واتفقت بموجب صفقتين جديدتين نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، بتزويدها ما يصل إلى مليوني طن من الغاز الطبيعي المسال يومياً عبر ناقلات بحرية، بداية من عام 2026 ولمدة 15 عاماً.
يتعين على ألمانيا استبدال 45 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، كان يتم ضخها من روسيا إلى ألمانيا سنوياً عبر خط أنابيب نورد ستريم 1. الذي تضرر بسبب تفجيرات، ما زال منفذها مجهولاً.
ويهدف أكبر اقتصاد في أوروبا، الذي يعتمد على الغاز الطبيعي بشكل أساسي لتشغيل القطاع الصناعي، إلى استبدال جميع واردات الطاقة الروسية بحلول منتصف عام 2024. ذلك وسط تقديرات بخسائر تكبدها الاقتصاد الألماني تتخطى 100 مليار يورو (106.4 مليار دولار)، أو نحو 2.5 في المائة من الناتج الاقتصادي للبلاد، وفق رئيس المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية (دي آي دبليو) مارسيل فراتسشر.
إيطاليا: وقعت إيطاليا والجزائر، يناير (كانون الثاني) 2023. اتفاقية لبناء خط أنابيب غاز جديد، لرفع إمدادات روما من الغاز الجزائري من 20 إلى 35 مليار متر مكعب. في الوقت الذي تعتزم فيه إيطاليا رفع واردات الغاز إلى مستوى 50 - 70 مليار متر مكعب سنوياً بحلول عام 2025، من أجل القيام بدور مركز للطاقة في قارة أوروبا.
ترتبط الجزائر مع القارة الأوروبية بثلاثة خطوط للغاز، الأول: «ترانسميد»، وهو خط قديم يمر عبر تونس إلى صقلية، والثاني: خط «جالسي»، الذي أوقف تنفيذه منذ 10 سنوات، ثم عاد الحديث بشأنه من جديد، ويمر إلى إيطاليا عبر جزيرة سردينيا. بالإضافة إلى الخط الثالث: «ميدغاز»، الذي يصل إلى إسبانيا والبرتغال، مروراً بالمغرب. لذلك تعد إيطاليا وإسبانيا وفرنسا والبرتغال أهم عملاء الجزائر.
كما وقعت إيطاليا، يناير 2023، اتفاقاً لإنتاج الغاز من الحقول الليبية بقيمة 8 مليارات دولار لمدة 25 عاماً، يضمن تعزيز إمدادات الطاقة إلى أوروبا، على أن يبدأ الإنتاج عام 2026 ويستهدف الوصول إلى 750 مليون قدم مكعبة يومياً.
الاتحاد الأوروبي: في يونيو (حزيران) 2022، وقَّعت مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، اتفاقية ثلاثية، تقوم بمقتضاها القاهرة وتل أبيب بتصدير وإعادة تصدير الغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي، تحت مظلة منتدى غاز شرق المتوسط. ورغم عدم الإعلان رسمياً عن مدة وقيمة الصفقة، غير أنها قد تمتد 3 سنوات، مع تمدد تلقائي لمدة عامين.
صدرت مصر 8 ملايين طن من الغاز خلال عام 2022، مقارنة بنحو 7 ملايين طن في العام المقارن، وذلك من 50.6 مليون طن إجمالي إنتاج الغاز الطبيعي خلال العام الماضي. وسط مساعٍ لزيادة حجم الصادرات الغازية بالتزامن مع إجراءات ترشيد الطاقة في البلاد.
- أميركا تتصدر
في مارس 2022، أصبحت الولايات المتحدة أكبر مُصدِر للغاز الطبيعي المسال في العالم، للمرة الأولى على الإطلاق، وذلك بفضل زيادة شحناتها إلى أوروبا المتعطشة للطاقة.
تعد أستراليا وقطر والولايات المتحدة وروسيا والجزائر والسعودية، من كبار مصدري الغاز في العالم.
فاق الإنتاج الأميركي، إنتاج قطر وأستراليا من الغاز، في ديسمبر (كانون الأول) 2021، بعدما قفزت الصادرات من منشآت سابين باس وفريبورت، وفقاً لبيانات تتبع السفن نشرتها «بلومبرغ».
تحولت أميركا من مستورد للغاز الطبيعي المسال إلى أكبر مصدر في أقل من عقد، بفضل إنتاج الغاز الطبيعي الصخري، فضلاً عن ضخ استثمارات بمليارات الدولارات في مرافق التسييل.
ارتفعت صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي في عام 2022، في صورة غاز مُسال 8 في المائة لتبلغ 10.6 مليار قدم مكعب يومياً، أي أقل بقليل من 10.7 مليار قدم مكعب يومياً تصدرها أستراليا. بينما ظلت الولايات المتحدة متقدمة على قطر، التي احتلت المرتبة الثالثة بتصديرها 10.5 مليار قدم مكعب يومياً، وفقاً لبيانات «رفينيتيف».
- الصين تدخل على الخط
في الوقت الذي يتجه فيه العالم نحو الشرق الأوسط لتأمين إمدادات الطاقة، وتحديداً الغاز، دخلت الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لتضمن نصيباً يضمن لها الحفاظ على مركزها الاقتصادي، حتى شكلت الشركات التي يقع مقرها بالصين نحو 15 في المائة تقريباً من كافة العقود التي تبدأ في عمليات تسليم إمدادات الغاز الطبيعي المسال حتى 2027. وفق تحليل بيانات «بلومبرغ إن إي إف».
يقدر حجم عمليات إعادة بيع الصين بـ5.5 مليون طن غاز طبيعي مسال خلال العام الماضي، وفق تقرير البحث الشهري لشركة «إي إن إن إنيرجي» لشهر يناير الماضي. يعادل ذلك نحو 6 في المائة من إجمالي حجم سوق العقود الفورية.
أبرمت الصين عقوداً مع برامج تصدير أميركية أكثر من أي دولة أخرى منذ 2021، وفق بيانات «بلومبرغ إن إي إف»، ووقعت الصين اتفاقية تاريخية، نوفمبر 2022، بقيمة 60 مليار دولار لشراء الغاز الطبيعي المسال من قطر، بموجبها يتم إرسال 4 ملايين طن من الغاز الطبيعي المسال سنوياً اعتباراً من عام 2026. لمدة 27 عاماً.
- أوروبا تنجح حتى الآن
انخفضت حصة إمدادات الغاز الطبيعي الروسي من نحو 50 في المائة من إجمالي الإمدادات في أوروبا إلى أقل من 10 في المائة، وفق بيانات الاتحاد الأوروبي. وفي حال استمرار الإمدادات الروسية عند مستوياتها الحالية، على الاتحاد الأوروبي استيراد 20 مليار متر مكعب من الغاز الروسي فقط، خلال العام الحالي، مقابل 155 مليار متر مكعب، قبل نشوب الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
وفَّر الاتحاد الأوروبي 12 مليار يورو (8.‏12 مليار دولار) من الغاز منذ بداية الأزمة الروسية، بفضل زيادة توليد طاقة الرياح والطاقة الشمسية. وفق بيانات مركز أبحاث الطاقة (إمبر) الصادرة 22 فبراير (شباط) 2023.
وخفضت دول الاتحاد الأوروبي استهلاك الغاز بنسبة 3.‏19 في المائة منذ الصيف الماضي، لتتجاوز هدف الاستهلاك، الذي وضعته الكتلة الأوروبية. وفق وكالة الإحصاء الأوروبية «يوروستات» الثلاثاء الماضي.
كانت الدول الأوروبية قد تعهدت بخفض الطلب على الغاز بنسبة 15 في المائة خلال الأشهر ما بين أغسطس (آب) 2022، ومارس (آذار) 2023، مقارنة بالفترة نفسها خلال الخمسة أعوام السابقة. وذلك بعدما خفضت روسيا صادرات الغاز للكتلة الأوروبية في أعقاب غزو أوكرانيا.
وأظهر تقييم للأشهر من أغسطس 2022، حتى يناير 2023، أن 22 دولة من بين 27 دولة خفضت الطلب بنسبة 15 في المائة أو أكثر.
ووفقاً لـ«يوروستات»، سجلت فنلندا وليتوانيا والسويد أكبر خفض بنسبة سالب 3.‏57 في المائة، وسالب 9.‏47 في المائة وسالب 2.‏40 في المائة على التوالي.
وخفضت دول أخرى استهلاك الغاز، ولكن بنسبة أقل من المستهدف، وهي سلوفينيا (سالب 2.‏14 في المائة) وإسبانيا (سالب 7.‏13 في المائة) وآيرلندا (سالب 3.‏0 في المائة). وسجلت دولتان فقط بالاتحاد الأوروبي زيادة في الطلب، وهما سلوفاكيا بزيادة بنسبة 6.‏4 في المائة ومالطا بنحو 9.‏11 في المائة. ومع هذا التخفيض في الطلب الأوروبي على الغاز، تراجعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا إلى نحو 50 يورو لكل ميغاواط في الساعة، نزولاً من زهاء 350 يورو سجلتها خلال ذروة الأزمة، أو ما يعادل 100 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. كما تراجعت أسعار العقود الآجلة للغاز الطبيعي في الولايات المتحدة لأقل من دولارين لكل مليون وحدة حرارية لأول مرة منذ 2020. إلى 1.9 دولار لكل مليون وحدة حرارية تسليم مارس 2023.
ولا يتعارض كل هذا، مع التسعيرة الجبرية (سقف للأسعار) التي وضعتها أوروبا على الغاز الروسي. غير أن المخاوف تتزايد مع كل فصل من فصول العام، سواء موسم الشتاء الذي يتطلب التدفئة أو موسم الصيف الذي يتطلب التبريد.
- فرص الشرق الأوسط تزداد
تقول إيمان هيل، رئيسة الاتحاد الدولي لمنتجي النفط والغاز، إن الصراع الروسي الأوكراني سلَّط الضوء على أهمية أمن الطاقة للعالم أجمع، ولفت الانتباه إلى أزمة كبيرة جنباً إلى جنب مع عمليات إزالة الكربون وتحول الطاقة: «نحن جميعاً معنيون بصناعة النفط والغاز لدفع عملية إزالة الكربون وتحول الطاقة، ولكن لا يمكن أن يكون ذلك على حساب أمن الطاقة».
أضافت لـ«الشرق الأوسط»: «على سبيل المثال، إذا نظرنا إلى أوروبا، فقد أوضحت الحرب الروسية أنه لا يمكنك الاعتماد بشكل مفرط على الإمداد من بلد واحد، أو منطقة واحدة، مثل أوروبا، التي اعتمدت بشكل مفرط على روسيا في إمدادات الطاقة».
ترى هيل أن هناك فرصة كبيرة لدول الخليج والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لسد الفجوة في الطلب على الطاقة، وسط سياسة تنويع الإمدادات بعيداً عن الغاز والنفط الروسي، التي تتبعها الدول الأوروبية، وبعض الدول الأخرى، خوفاً من العقوبات. وقالت: «ستكون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منطقة مهيمنة من حيث الإنتاج لعقود قادمة». نظراً لأن المنطقة تتمتع بإمكانيات كبيرة سواء في الطاقة التقليدية أو الطاقة المتجددة.


مقالات ذات صلة

زيلينسكي: مقتل 15 ألف جندي روسي خلال القتال في كورسك

أوروبا دبابة روسية مدمرة في منطقة كورسك (أ.ب)

زيلينسكي: مقتل 15 ألف جندي روسي خلال القتال في كورسك

أكد مسؤول عسكري أوكراني، الاثنين، أن قواته تكبّد قوات موسكو «خسائر» في كورسك بجنوب روسيا، غداة إعلان الأخيرة أن أوكرانيا بدأت هجوماً مضاداً في هذه المنطقة.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يلقي كلمته أمام السفراء الفرنسيين 6 يناير 2025 بقصر الإليزيه في باريس (رويترز)

ماكرون يدعو أوكرانيا لخوض «محادثات واقعية» لتسوية النزاع مع روسيا

قال الرئيس الفرنسي ماكرون إن على الأوكرانيين «خوض محادثات واقعية حول الأراضي» لأنهم «الوحيدون القادرون على القيام بذلك» بحثاً عن تسوية النزاع مع روسيا.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا جندي روسي خلال تدريبات عسكرية في الخنادق (لقطة من فيديو لوزارة الدفاع الروسية)

روسيا تعلن السيطرة على «مركز لوجيستي مهم» في شرق أوكرانيا

سيطرت القوات الروسية على مدينة كوراخوف بشرق أوكرانيا، في تقدّم مهم بعد شهور من المكاسب التي جرى تحقيقها بالمنطقة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا صورة تظهر حفرة بمنطقة سكنية ظهرت بعد ضربة صاروخية روسية في تشيرنيهيف الأوكرانية (رويترز)

روسيا تعلن اعتراض 8 صواريخ أميركية الصنع أُطلقت من أوكرانيا

أعلن الجيش الروسي اليوم (السبت)، أنه اعترض 8 صواريخ أميركية الصنع أطلقتها أوكرانيا في اتجاه أراضيه.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا رجال إنقاذ أوكرانيون في موقع هجوم مسيّرة روسية بكييف (إ.ب.أ)

مقتل 5 أشخاص على الأقل بهجمات متبادلة بين روسيا وأوكرانيا

أسفرت هجمات روسية بمسيّرات وصواريخ على أوكرانيا، يوم الجمعة، عن مقتل ثلاثة أشخاص على الأقلّ، في حين قُتل شخصان في ضربات أوكرانية طالت مناطق روسية.

«الشرق الأوسط» (موسكو - كييف)

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟