كيف عاركت الأديان أرسطو وخرج من هجماتها غير مهزوم

من رفضها لفلسفته وتكفيرها وتحريمها إلى دمجها بل وتقديسها

كيف عاركت الأديان أرسطو وخرج من هجماتها غير مهزوم
TT

كيف عاركت الأديان أرسطو وخرج من هجماتها غير مهزوم

كيف عاركت الأديان أرسطو وخرج من هجماتها غير مهزوم

عاشت القرون الوسطى نزاعا محتدما ما بين الفلسفة والإيمان، أو قل بعبارة أوضح، ما بين العقل والوحي. فإذا كان الإيمان هو إذعان العقل لحكم الوحي، أي أن شهادة النص تكفي وما على العقل سوى التسليم، فإن العقل هو محاولة للإجابة عن الأسئلة الوجودية والبحث عن الخلاص الإنساني، بالاستناد إلى البرهان العقلي، أي إلى الإمكانات الخاصة للإنسان. بكلمة واحدة، إذا كان الإيمان يقدم حلا يرتكز على المفارق، أي على سند براني هو الوحي، فإن العقل يقدم حلا يرتكز على المحايث أي على سند جواني.

إن الإنسان المؤمن، مهما سلم وآمن فهو لن يقدر على التخلي عن عقله. فهو يصرخ طلبا للمعقولية وبحثا عن المبررات والدواعي والأسباب، وتلك مهمته. ومن تنكر لعقله تنكر لطبيعته. وهذا ما يفسر لماذا يستمر النزاع في قلب المؤمن، بين ما يقتضيه العقل من جهة والإيمان من جهة أخرى. فهو يجد نفسه بتأثير من الوحي، يطمح إلى دفع العقل إلى سبيله. وفي الآن عينه، يجد نفسه وبإيعاز من العقل، يطمح إلى غربلة الوحي وتمريره عبر أدواته المنطقية الصارمة. هذه الوضعية المفارقة هي التي هيمنت على الأفق الذهني للقرون الوسطى، وهي التي أفرزت لنا ذلك الإشكال الكبير الذي خيم على الفلاسفة، وهو التوفيق بين الفلسفة والدين، بين الحكمة والملة.
إن هذا الصراع المحتدم بين الفلسفة والدين، الذي كان المغزى منه إيجاد مخرج وتوافق يريح الإنسان، ظهر في الإسلام كما المسيحية، لكن بطرق مختلفة. ولعل أبرز نموذج إسلامي هو ابن رشد، وأبرز نموذج مسيحي هو توما الأكويني. فلنحكي القصة إذن؟
تبدأ القصة مع الفيلسوف اليوناني أرسطو (القرن الرابع قبل الميلاد) لتنتهي مع توما الأكويني المسيحي (القرن الثالث للميلاد)، مرورا مباشرة، بالفيلسوف الغزالي (القرن الحادي عشر للميلاد)، وابن رشد (القرن الثاني عشر للميلاد). فقصة الصراع / الحوار، كلف ما يناهز ستة عشر قرنا كي يحسم للوصل عوضا عن الفصل.
إن النزال الشهير بين العقل والنقل في القرون الوسطى، سواء في التربة العربية الإسلامية، والذي سمي بمعركة تهافت الفلاسفة، أو في التربة المسيحية اللاتينية بعد ذلك، خاصة في القرن الثالث عشر للميلاد، والذي سمي بالمعركة الأرسطية، كان يتم ضمن الإطار النظري الوسطوي نفسه، لكن بنتائج مختلفة مرتبطة بنمو المعارف وتراكمها، ونضج الإشكالية، وشدة المعركة التي كان لا بد أن تحسم من التنافر إلى التوافق، ومن ثم إمكان تفجير النسق الوسطوي بأكمله في القرن السابع عشر، عندما تمت هزيمة أرسطو ونسف نسقه، لكن هذه المرة من طرف علماء أمثال: كوبيرنيكوس وديكارت وغاليليو وكبلر ونيوتن.
من المعلوم أن فلسفة أرسطو خصوصا، ومن سار على دربه، وهم المشائية، ومنهم ابن سينا وابن رشد، كانت مرفوضة خاصة في جانبها الإلهي، من طرف الدين سواء الإسلامي أو المسيحي، لأن النظرة إليها جرت على أنها فلسفة وثنية من جهة، ومن جهة أخرى هي فلسفة مادية تعتمد المنطق الإنساني فقط، من دون تسديد من الوحي. وهو ما دفعها إلى القول بقدم العالم، إذ لا شيء من لا شيء. كما أنها كانت تقول بالنفس الكلية وليست الفردية. وهو الأمر الذي يتنافى كليا مع فكرة خلق العالم من عدم الدينية، والنفس الجزئية التي تعطي الشخصية الفردية للإنسان، ومن ثم المبرر لتحمل مسؤولية العقاب الأخروي.
نحن إذن أمام تصورين كبيرين سادا في القرون الوسطى: تصور فلسفي أرسطي النزعة لا يعتمد إلا على المجهود العقلي للإنسان، وتصور ديني يستند على الوحي. وما دام أن حجج الطرفين متكافئة ومتساوية في الإقناع، فقد أصبح من المستحيل طرد إحدى الأطروحتين بسهولة، والتاريخ يشهد على ذلك. فعلى الرغم من كل الهجوم الضاري على أرسطو، فقد ظل نموذجه ومعماره الفكري صامدا، ولم يهزم إلا في القرن السابع عشر على يد الثورة العلمية الحديثة. ففي التربة الإسلامية تمت مهاجمة أرسطو، خاصة من طرف الفقهاء. ولعل الذي أعطى لهم القوة في ذلك، هو أبو حامد الغزالي، الذي هاجم أرسطو ومن دار في فلكه بكتابه الشهير «تهافت الفلاسفة»، حين كفرهم في ثلاث مسائل وبدعهم في سبع، معتبرا أن الفلاسفة تطاولوا على عالم الإلهيات، وتخبطوا فيه خبط الناقة العشواء، واستخدموا المنطق في حدود خارج هذا العالم. فكانوا كمن وجد ميزانا للذهب فطمعوا في أن يزنوا به الجبال. فكان الأجدر بهم ترك المنطق في حدود عالم الشهادة.
لكن محاولة الغزالي هذه لإسكات الفلسفة وطردها، باعتبارها منافسا مزعجا لصفاء التصور الديني للوجود القائم على الخلق من عدم، لم تؤد إلى هزيمة أرسطو لسبب بسيط، هو أن فلسفته ليست محصورة فقط في جانب الإلهيات. فهو كان السيد بامتياز في الطبيعيات. ويكفي أن مبادئ الفلك والفيزياء كانت أرسطية، والكل كان يشتغل بها. وهذه الطبيعيات مرتبطة عند أرسطو بالإلهيات «الميتافيزيقا»، وأي طرد للإلهيات هو طرد للطبيعيات. وهو لأمر محرج ومربك جعل الكثير من الفلاسفة لا يستغنون عن أرسطو. وهو ما ظهر وبإلحاح عند ابن رشد، فاضطر إلى الرد على الغزالي بكتابه «تهافت التهافت».
لقد ظل أرسطو بمثابة الخلفية المعتمة المحركة للعلم في القرون الوسطى. بل حتى فكرته الميتافيزيقية عن العالم وعن النفس المخالفة للدين، لم يكن من الممكن غلبتها أو القول بخطئها منطقيا، ما عدا رفضها بالنص. لذلك بقيت أفكار أرسطو تسري وتقض مضجع الكثير من أهل النظر، لأنها لم تنسف بالبرهان. وهو ما جعل الفلسفة تدخل في توفيقية مع الدين معروفة للجميع، لأن العقل البشري يرفض التناقض ويسعى لإيجاد تناغم ونسق أكثر انسجاما. ويكفي التذكير بكتاب «ابن رشد» (1198 / 1126) «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال»، الذي خلص إلى نتيجة مفادها، أن الدين والأرسطية يصلان معا إلى الحقيقة وإن بطريقين مختلفين: طريق العقل، وهو للخاصة، وطريق النقل وهو للعامة. إذن المعركة الأرسطية في الساحة الإسلامية وصلت إلى فصل أرسطو عن الدين، وإن كانا معا يصلان إلى الحق (الله)، والحق لا يضاد الحق، ومن ثم فأرسطو خرج غير مهزوم، ولا تزال له الكلمة.
إن هذا النزال سيخفت قليلا في دار الإسلام، وسينطلق بعنف وشراسة في الساحة المسيحية، خاصة في القرن الثالث عشر. فبعد ترجمة فلسفة ابن رشد إلى اللاتينية، وهو الشارح الأكبر لأرسطو، وظهور تيار الرشدية، دخلت الكنيسة في صراع معها. فالرشدية تعني نشر أفكار يوناني وثني بشرح وتأويل عربي مسلم. وبعد كثرة التداول وانتشار فلسفة المعلم الأول «أرسطو» على نطاق واسع، وبعد تردد الكنيسة وحيطتها، أصبحت متسامحة نسبيا تجاهها، حيث فضلت تحمل أرسطو وتدريسه داخل رحابها على أن يتم تداوله خارج دائرة مراقبتها، خاصة في جامعة باريس المشهورة. وهو الأمر الذي تم تتويجه بعمل فذ للدكتور الملائكي توما الأكويني (1225 - 1274) الذي بذل جهودا كبيرة من أجل أن يقدم للكنيسة أرسطو قابلا للانسجام معها ومستعدا لخدمتها. فهو قام بعمل توفيقي لا يطرد أرسطو ليجد له طريقا معزولا، كما حدث مع ابن رشد، بل بدمجه وصهره في تعاليم الكنيسة، ليصبح وجهها المنطقي والناطق الرسمي باسمها، وهو ما سمي في التاريخ بعملية: «تنصير أرسطو».
لقد تعلق القديس توما الأكويني بأرسطو، حيث كاد يرتقي به إلى مرتبة آباء الكنيسة ودافع عنه. فهو أصبح لا يشكل خطرا محدقا يهدد حقائق الوحي والإيمان مطلقا. بل هو على العكس من ذلك، يمكن اعتماده كدعامة للمسيحية.
نعم ذلك ما حدث بالضبط، حين رضيت الكنيسة عن الأرسطية في نسختها التوماوية، بعد ثلاثين سنة من موته، وأعلنت مذهبه مذهبا رسميا لطائفة الدومينيكان، بل رسمته قديسا.
كان الهدف من هذه الإطلالة، إبراز طريقة توغل الأرسطية في القرون الوسطى. فمن رفضها وتكفيرها وتحريمها، إلى دمجها، بل تقديسها خاصة مع المسيحية. هذه الوحدة النسقية بين العقل والنقل، هي بالضبط من ستسمح بهزيمة أرسطو خلال القرن السابع عشر. لكن هذه المرة، ليس لدواع دينية ولاهوتية، بل لدواع علمية محضة بدأت مع كوبيرنيك لتنتهي مع نيوتن. وهنا فقط، سنفهم لماذا هاجمت الكنيسة بعضا من هؤلاء العلماء، حيث أحرقت جيوردانو برونو، ووضعت غاليليو في الإقامة الجبرية.. لأنهم قدموا تصورا للعالم ليس أرسطيا، وهي قد تبنته، رسميا، منذ نهاية القرن الثالث عشر، وجعلته في مرتبة القداسة. فالهجوم على أرسطو هو هجوم عليها. وفي الحقيقة لم يكن الصراع في هذه الحقبة بين العلم والدين بل بين العلم والعلم. علم أرسطي يتلاشى وعلم حديث ينشأ.



«كباب» لأمل دنقل وتوضيح من نزار قباني وغزليات لميعة عمارة

«كباب» لأمل دنقل وتوضيح من نزار قباني وغزليات لميعة عمارة
TT

«كباب» لأمل دنقل وتوضيح من نزار قباني وغزليات لميعة عمارة

«كباب» لأمل دنقل وتوضيح من نزار قباني وغزليات لميعة عمارة

عن دار «سطور» للنشر والتوزيع في بغداد، صدر مؤخراً كتاب جديد للكاتب والإعلامي السعودي محمد رضا نصر الله، بعنوان: «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع».

والمؤلف هو إعلامي وكاتب سعودي، عمل في عدة صحف سعودية، وأصبح في عام 1976 مشرفاً ثقافيّاً في جريدة «الرياض»، كما عُيِّنَ مديراً لتحرير «الرياض الأسبوعي»، بالإضافة إلى أنه كان يكتب زاوية أطلق عليها مسمّى «أصوات» بدأها في جريدة «الرياض» في عام 1978، وعيّن عضواً في مجلس الشورى السعودي عام 2005.

وقدم محمد رضا نصر الله عدداً من البرامج التلفزيونية الحوارية الثقافية والسياسية من أبرزها برنامج «هذا هو» استضاف فيها نخبةً من ألمع المثقفين والمفكرين العرب والأجانب على مدى سنوات طويلة، ومن بينها: «الكلمة تدقّ ساعة»، و«وجهاً لوجه»، و«حدث وحوار»، و«مواجهة مع العصر»، و«هذا هو»، وكان من أبرز من استضافهم في برامجه تلك: حمد الجاسر، وغازي القصيبي، ومحمد حسن عواد، وعزيز ضياء، وأحمد السباعي، وتوفيق الحكيم، وزكي نجيب محمود، وأحمد بهاء الدين، ويوسف إدريس، وأدونيس، وبلند الحيدري، ومحمد بن عيسى، والشاذلي القليبي، وحنان عشراوي، وصموئيل هنتنغتون، وپول فندلي، ومراد هوفمان، وغيرهم.

صفحة من كتاب «أصوات»

عناوين المقالات في كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» تأخذ القارئ في رحلة ثرية مع شخصيات فكرية وأدبية وثقافية عربية وعالمية، مع قراءة بانورامية للتراث الثقافي والأدبي للشخصيات بصيغة سجالية ونقدية، نقرأ منها «بین عكاز نزار قباني... ونظارة طه حسين»، «جولة مع الجابري»، «مع توفيق الحكيم في كازينو بترو»، «علاقتي بيوسف إدريس»، «برتوكولات حكماء ريش»، «سيرة عبد الوهاب المسيري غير الموضوعية»، «جلاسنوست محمود أمين العالم المتأخرة»، «بيريسترويكا سميح القاسم المتأخرة!»، «سميح القاسم وعرب الدشاديش»، «لقاء مع فدوى طوقان»، «حوار أندلسي مع فدوى طوقان»، «غوركي ينشر قصائد الريحاني بترجمة كراتشكوفسكي»، «من الشعر الأرسطي إلى بؤس البنيوية»، «مثاقفة محمد جابر الأنصاري الباريسية»، «البيروقراطية القصيبية»، «غازي القصيبي... والإبداع المركب»، «هل كان جاك بيرك مسلما؟!»، «رامبو يصفع... علي شماخ»، «قراءة أولى في شعر أبي البحر الخطي»، «حمادي... وأوراق ضائعة من حياة خالد الفرج»، «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، «جنتلمانية الاستعمار... بين الطيب صالح والجواهري»، «ريادة علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته»، «أيها العراق هلا خرجت من مزرعة البصل»، «تشومسكي الضائع بين نجومية فريدمان»، «حسن ظاظا وكشكوله»، «د.عبد الله الغذامي يكتب حول مقال (الجاحظ يحذر العرب)».

الحفر في الصخر

مقدمة الكتاب، كتبها الدكتور نزار عبيد مدني، وزير الدولة للشؤون الخارجيّة السعودي السابق، وحملت عنوان: «محمّد رضا نصر الله الأديب... المفكّر... الإعلامي»، تحدث فيها عن الكاتب قائلاً: «منذ أن عَرَفْتُهُ وجدتُه مثقّفاً، واعياً صبوراً، ذا تفكير عقلاني، وطبيعة هادئة، قوي الحجة، سديد الرأي، واضح الرؤية، يحمل في داخله قلباً ينبض بالحبّ والتسامح، وينبذ التعصّب والغلو، ويرفض الصراعات والمنازعات، دون التنازل عمّا يعتقده يصبّ في الصالح العام (...) علمتُ من سيرته أن طريقه نحو الشهرة والنجومية لم يكن ممهداً مفروشاً بالورود والرياحين، ولا خالياً من العثرات والعقبات والكبوات، ولكنه تمكّن بمخزونه الثري من الصبر والإرادة والعزيمة من تجاوز كل الصعاب، وتخطّى جميع العقبات، إلى أن غدا قامة من قامات الفكر والثقافة في المملكة، ومن جهابذة الإعلام المكتوب والمرئي، ومن الذين حفروا في الصخر حتى أصبح شخصية مرموقة يُشار إليها بالبنان في وطنه وفي خارج وطنه» (ص10).

• كباب لأمل دنقل

يتحدث في هذا الكتاب عن لقاءاته بالعديد من أعمدة الأدب العربي في مراحل مبكرة من حياته: «... وأنا على عتبة الدراسة الجامعية، (سافرتُ) صوب القاهرة صيف سنة 1974م، لمقابلة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل»... (ص21).

ومن الطريف هنا قصة لقائه بالشاعر أمل دنقل، يقول: «بعد هزيمة ١٩67، لم يتقدّم شاعر عربي إلى الوعي القومي خارج ظاهرة شعراء المقاومة الفلسطينية – مثلما تقدم الشاعر المصري أمل دنقل... كان صوتاً شعرياً جديداً، اتسم بالبساطة الجارحة والنبوءة الشعرية النافذة، إلى أعصاب الوطن العربي المشدودة. فقبل وقوع الكارثة، كان أمل يتقمص روح زرقاء اليمامة، المعروفة في الميثولوجيا العربية بحدّة البصر، درجةً مكنتها من اكتشاف العدو المتربص بقبيلتها، وهو في طريقه بجيشه إليها غازياً، منبها السلطة... بعد مسامرات ومناقشات و(مناكفات) في أماسي مقهى (ريش) الشهير، المتفرع من ميدان طلعت حرب، اتفقت وأمل دنقل على إجراء حديث صحافي لجريدة (الرياض)، غير أنه اشترط أن أتكفل بعد الانتهاء من هذه المهمة العسيرة بعشائه بطبق كباب، وأن يبيت في شقتي بشارع عماد الدين... وبين هذه الليلة وتلك، كان أمل يستجيب لطلباتي في إلقاء قصائده عندما يكون مزاجه صفواً» (ص23).

• السيّاب ولميعة و«جيكور»

في مكان آخر من الكتاب، يسرد مشهداً من حياة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب: «بتاريخ 23 أيلول 1979م، كنتُ ليلتها في دار السياب في البصرة، بعد زيارة (منزل الأقنان) في قريته جيكور مسقط رأسه، وقد التقيت فلاحين من أهله وجيرانه، كما التقيت صهره فؤاد عبد الجليل، وابنتيه غيداء وآلاء من زوجته إقبال. قبلها اكتشفت من خلال قراءتي في كتاب (تاريخ الأقطار العربية الحديث)، للمستعرب الروسي الضخم (لوتسكي) أن أسرة السيّاب كانت ذات ماض إقطاعي، إن لم يكن بالمصطلح الماركسي، فإنها على أي حال أسرة امتلكت الأراضي الزراعية»، ثم يقول: «ألهذا يستعيد السياب لا وعيه التاريخي في ديوانه (منزل الأقنان)؟... فقد وجدت بيت أسرة السياب في جيكور فسيح الباحة، كبير المساحة، بدا متهاوياً بأطلال مجد غابر، وكان الشعراء العرب من زوار مهرجانات بغداد يقفون عليه، كما كان شعراء الجاهلية يقفون على أطلالهم، ويتأملون في (شباك وفيقة) إحدى ملهمات الشاعر، ويا لهنّ من ملهمات» (ص26).

ثم يورد حديثاً للشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة عن علاقتها بالسيّاب: «لم تتردد الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة، حين التقيتها في أبو ظبي سنة 1996م، في الحديث معي عن افتتان السياب بجمالها الفاتن، وهما على مقاعد الدرس الجامعي في معهد دار المعلمين العالية ببغداد منتصف الأربعينيات الميلادية من القرن المنصرم». ثم يتندّر من مبالغة السياب في وصف نهر «جيكور»: «ولأن من طبيعة الشاعر الرومانسي المبالغة والإغراق في التخييل، فقد هالني مرأى نهر (جيكور)! فلم أجده سوى (نهير) أو ساقية نخيل في إحدى قرى القطيف، إلا أن خضرة جيكور شكلت عنصراً أساسياً، في صياغة مفتتح قصيدة السياب الشهيرة (أنشودة المطر)، فإذا بعيني حبيبته: غابتا نخيل ساعة السحر / أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر / عيناكِ حين تبسمان تورق الكروم/ وترقص الأضواء كالأقمار في نهر / يرجُّه المجداف وهنا ساعة السحر / كأنما تنبض في غوريهما النجوم / أنشودة المطر / مطر... مطر... مطر» (ص26، 27).

يتحدث المؤلف في كتابه الصادر حديثاً عن لقاءاته بالعديد من أعمدة الأدب العربي في مراحل مبكرة من حياته

مع نزار في لندن

يسرد في هذا الكتاب قصة لقائه بالشاعر السوري نزار قباني، يقول: «كانت البداية في شهر مارس (آذار) سنة 1994 على ضفاف احتفال لجائزة سلطان العويس أقيم في فندق في الشارقة، حين أطلّ نزار بصحبة ابنته زينب، من زوجته العراقية بلقيس، وأسفر اللقاء الذي بدأ بعتاب على إجراء حوار معه، وكرّت سبحة اللقاءات في أماكن متعددة، أبرزها اللقاءات المتعددة في شقة نزار الأنيقة في حي (نايس بريج) في لندن وفي أحدها سألته عن مناوشته البارعة مع مارون عبود، فقد كتب منتقداً واحداً من دواوينه، مشيدا في المقال نفسه بجديد صوره، في دواوينه الأربعة الأولى... هل كان يخشى شيخ النقّاد اللبنانيين في رده النثري الرقيق عليه، وهو يشكر التفاتته إلى شعره الشاب، واصفا إياه بشجرة السنديان التي تنقر العصافير الصغيرة مناقيرها على جذعها الضخم؟ فأجابني: لا... يا رضا... ليست خشية وإنما احترام، فقد كان مارون عبود وجيله في لبنان، ومنير العجلاني ومجايلوه في سوريا، وأنور المعداوي ورفقاه في القاهرة، أساتذة بحقّ وحقيق، ليسوا كأدباء وشعراء هذه الأيام، وقد صب جام غضبه على شعراء الحداثة العرب، من الذين فتكوا بقصائدهم الضبابية ذوق المتلقي العربي» (ص50).

لكن اللقاء الأبرز مع نزار تمّ أيضاً في شقته اللندنية، وفيها يقول الكاتب: «عاتبته ذات جلسة معه في الشقة اللندنية نفسها على إساءاته لأهل الخليج، التي ابتدأت منذ قصيدته (الحب والبترول)، فحكى لي مناسبتها وأنه كتبها في شخصية معيّنة غير سعودية اقترنت بفاتنة سورية من أسرة معروفة، كانت تصحبه في حفلات الاستقبال و(الدواوين)، وأردف: إن المملكة لم تصف معه أي حساب، لقد استقبلت أخاه د. رشيد في أحد مستشفيات الرياض لسنوات طويلة» (ص51).