لا يزال أمامنا طريق طويل قبل أن يصبح الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني واقعا ملموسا على الأرض إن أصبح كذلك بالأساس. مع ذلك حتى إذا لم يصبح واقعا، فقد أسفرت العملية ذاتها عن خاسرين ورابحين محتملين.
لا توجد صلاحية قانونية للاتفاق المبدئي، الذي يعرف بالخطة الشاملة، لأن أحدا لم يوقع عليه، مع ذلك فإن القرار، الذي أصدره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الأسبوع الماضي وهو السابع الخاص بهذا الأمر، قد ينظر إليه باعتباره يضفي قدرًا من الشرعية على الخطة.
وصوتت الولايات المتحدة بصفتها راعية للقرار لصالحه مما جعلها ملتزمة به، أما إيران، فهي ليست عضوا في مجلس الأمن، ولم يكن عليها التصويت ولم تتقبله. ولن يكون قبول قرار جديد بالأمر اليسير، لكنه يقوم على ستة قرارات سابقة رفضتها إيران.
ولمح جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، يوم السبت الماضي إلى أن الجمهورية الإسلامية قد لا تقبل القرار الجديد وهو ما يجعل الغموض يلف القضية برمتها في هذه الحالة. وقال ظريف: «يوضح نص الخطة أن فحواها لا يتطابق مع فحوى القرار 2231، وبالخلط بين الاثنين يثير جون كيري حالة من الارتباك».
وحتى تقبل إيران القرار الجديد وتمنح سندا قانونيا للخطة يجب أن يوافق مجلس الوزراء على النص أولا، ومن ثم سيتم تقديم الخطة إلى المجلس الأعلى للدفاع الوطني؛ وفي حال الموافقة عليه، ستتم إحالة النص إلى المجلس الإسلامي، الذي سيحيله بدوره، في حال الموافقة عليه، إلى مجلس صيانة الدستور. وفي النهاية، سيتم تقديم النص إلى «المرشد الأعلى»، والذي لا يوجد ما يلزمه بقبوله، بل يمكنه إلغاؤه في أي وقت بموجب الحكم الحكومي.
الوثيقة الوحيدة التي وقعت عليها إيران في فيينا هي ما يطلق عليها يوكيو أمانو، مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية «خريطة طريق» للتعامل مع مخاوف الوكالة الدولية بشأن الجوانب العسكرية للبرنامج النووي الإيراني مع التوجه لإصدار تقرير. ولا يزال النص سريا. مع ذلك لا يعني التوقيع الكثير؛ فعلى مدى الاثني عشر عاما الماضية وقعت إيران على مثل تلك الوثائق في ثلاث مناسبات ولم تكن تلتزم بها في كل مرة.
في كل الأحوال، لا توضح «خريطة الطريق» الوجهة، أو السرعة، أو الوسيلة، أو حتى ما إذا كان ينبغي بدء الرحلة بالأساس أم لا. ولا يمكن لأي «خريطة الطريق» أن تمنع المرء من تجاوز بعض النقاط أو حتى التراجع.
الرابحون
رغم أن ما بحوزتنا ليس سوى اتفاق غير حقيقي، يبدو رد الفعل العام تجاهه إيجابيًا. وليس من الصعب فهم ذلك. من بين الرابحين الرئيس باراك أوباما، الذي تمكن من اتخاذ هذه الخطوة في الفترة المتبقية من رئاسته، ويتفاخر بالفعل بذلك «النجاح التاريخي» الذي سيصقل إرثه.
وترضى روسيا عن الاتفاق لأنها تريد نصيبا من الأصول الإيرانية المتجمدة من خلال بيع أسلحة لطهران. وخلال المفاوضات التي تمت في فيينا، قاد حسين ديغان وزير الدفاع الإيراني وفد شارك به 40 شخصا إلى موسكو لمناقشة مشتريات الأسلحة. ولحق بالوفد حبيب الله سياري، قائد البحرية الإيرانية، الذي يريد تطوير، وإعادة تسليح قوته بمساعدة روسيا.
كذلك ترضى الصين عن الاتفاق لأنها بدأت إبرام اتفاقيات من أجل بناء خمس منشآت نووية في إيران، وتعتزم ضخ استثمارات ضخمة في صناعة النفط الإيراني. الجدير بالذكر أن إيران تعتمد على النفط الإيراني في سد 11 في المائة من احتياجاتها. وترضى ألمانيا عن الاتفاق لأن إيران هي أكبر شريك تجاري في الشرق الأوسط. وزادت الصادرات الألمانية إلى إيران بنسبة 32 في المائة خلال العام الماضي بفضل ضمانات الحكومة، التي تعتمد على الأمل في «اتفاق» يضع المزيد من المال في جيوب الإيرانيين. وترضى فرنسا عن الاتفاق لأن من شأنه تحفيز مبيعات الأسلحة إلى العرب الذين يشعرون بالقلق من تسلح إيران النووي. كذلك وقعت فرنسا على اتفاق من أجل إنشاء محطات كهرباء تعمل بالطاقة النووية في الكثير من الدول العربية من بينها مصر.
أما داخل إيران، فالرابح المباشر هو الفصيل الذي يقوده الرئيس هاشمي رافسنجاني وبه الرئيس حسن روحاني وأغلبية الوزراء في مجلس وزرائه. ويوم الإعلان عن «الاتفاق» في فيينا، نشر رافسنجاني ملصقا يظهر فيه على خلفية من الشمس المشرقة، وإلى جواره صورة روحاني، ووزير الخارجية ظريف، بحجم أصغر من رافسنجاني. وكان التعليق المصاحب للملصق «هاشمي، حكمتك وبعد نظرك، أفقت السكران من سكره». وتمثل تلك القصيدة الصغيرة هجوم على خامنئي الذي اتهمه رافسنجاني، من دون أن يسميه، بأنه «سكران بالشعارات». ويرى رافسنجاني أن «الاتفاق» نقطة انطلاق لحملته الرامية إلى السيطرة على المجلس الإسلامي، ومجلس الخبراء، الذي سيختار «المرشد الأعلى» في الانتخابات العامة خلال العام المقبل. وفي النهاية سيشغل منصب خامنئي إلى جانب أحد مساعديه. ومرشح رافسنجاني هو حسن الخميني، حفيد آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإيرانية.
تجاهل «المرشد الأعلى»
من أجل الإبقاء على المسافة الفاصلة بينه وبين خامنئي، قام رافسنجاني بأمرين خلال الأسبوع الماضي. كان الأول هو رفض الانضمام إلى الحضور الذي يقدمه خامنئي إلى رموز النظام. وظهر المقعد، الذي كان مخصصا لرافسنجاني، خاليا لأول مرة منذ عقود خلال الفعالية التي بثت على الهواء مباشرا. وكان الأمر الثاني في احتفالات عيد الفطر عندما تولى خامنئي إمامة الصلاة، ولم يقف رافسنجاني في الصف الأول، وفي النهاية غادر من دون إلقاء التحية على «المرشد الأعلى».
كذا يمكن اعتبار الجيش الإيراني من بين الرابحين. حتى قبل الإعلان عن «الاتفاق»، زاد روحاني ميزانية الجيش بنسبة 23 في المائة. وفي ظل الموارد المالية الجديدة، يمكن للجيش الإيراني أن يضغط لتنفيذ مشروعين. الأول هو تعزيز وجوده في العراق، وسوريا، ولبنان، قبل أن يحاول أي رئيس أميركي جديد من المحتمل أن يتسم بالعدائية التراجع عن سياسة أوباما الداعمة لطهران. الهدف المقبل هو بدء عمليات بناء هائلة في البحرية الإيرانية النظامية، والعمليات غير النظامية التي يسيطر عليها الحرس الثوري. ويعلم المخططون العسكريون في طهران أن أصول سلاح البحرية القادرة على توفير الدعم اللوجيستي ضرورية لمشروعات بناء إمبراطورية. ولا يوجد لدى أي دولة إقليمية في اللحظة الراهنة سلاح بحرية، حيث يعتمدون جميعهم على الولايات المتحدة في توفير الأمن البحري. وتعزز معاهدة الحدود البحرية، التي أقنعت إيران عمان بتوقيعها منذ بضعة أسابيع، طموحات طهران البحرية. وتضمن البحرية الإيرانية لعمان الحقوق البحرية في الجزر العمانية في خليج عمان وبحر العرب. وتعد جزيرة بيت الغنم من الجزر العمانية المهمة التي تعد البوابة الجنوبية لمضيق هرمز. كذلك لدى إيران قواعد بحرية في سوريا وأصول بحرية في لبنان بفضل وحدات تنظيم حزب الله الذي يخضع لسيطرة الجمهورية الإسلامية.
الخاسرون
تعد تركيا من بين الأطراف الخاسرة، حيث استفادت كثيرا من العقوبات المفروضة على إيران من خلال توفيرها لقنوات بديلة. ومع استعادة إيران للعلاقات التجارية الدولية المباشرة، سوف تخسر تركيا قدرا هائلا من العائدات التي كانت تحققها نظير رسوم النقل عبر أراضيها. ويظل الأسوأ هو أنه من المؤكد أن يزيد وجود جمهورية إسلامية وقوية الضغط على تركيا لقبول قيادة خمينية. ونشرت صحيفة «كيهان» اليومية، الناطقة باسم خامنئي، مقال افتتاحي يوم السبت يدعو تركيا إلى «الانضمام إلى جبهة المقاومة» تحت قيادة إيرانية، والاعتراف ببشار الأسد كرئيس شرعي لسوريا، والامتناع عن «ظلم الأقلية من العلويين والأكراد».
وهناك خاسر محتمل آخر وهو دبي، الإمارة التي كانت بمثابة عصب النشاط المصرفي والتجاري الإيراني منذ ثمانينات القرن الماضي. وبحسب آية الله شرودي، أحد مساعدي خامنئي، تزيد الاستثمارات الإيرانية في دبي على الـ700 مليار دولار. كذلك سينتهي الحال بأكثر دول المنطقة إلى التحول إلى خاسرين. وسيصبح نظام يدعم آيديولوجية راديكالية، ويسعى لزعامة العالم الإسلامي كله، أقوى لما سيراه خضوعا واستسلاما من قبل الولايات المتحدة. وهذا واضح بالفعل مع تكثيف حملة الخميني الدعائية على أساس إعلان خامنئي بداية الشهر الحالي عن «منطقة نفوذ» إيرانية.
ويعد ذكر خامنئي للبحرين واليمن ضمن منطقة النفوذ مثار قلق بالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي. وقال حميد زمردي، مخطط جيو استراتيجي: «أعلن خامنئي عن مشروع بناء إمبراطورية بذريعة معالجة الانقسامات الداخلية في النظام. ويمكن أن يتيح مثل هذا المشروع للفرق المتنافسة التعاون سويا من أجل تصدير الثورة».
إسرائيل أكبر الخاسرين
من جانب يمكن اعتبار بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، واحدًا من الخاسرين لأنه أخفق في منع التوصل إلى «الاتفاق» الذي أبرم في فيينا؛ ومن جانب آخر، يرى بعض القيادات الإسرائيلية، ومن بينهم قادة سابقون لجهاز الموساد الإسرائيلي مثل مائير دوغان، وإفرايم هليفي، إيران كحليف استراتيجي للدولة اليهودية. وحجتهم في هذا الصدد هي أن كلا من إسرائيل وإيران لا ترغب في شرق أوسط يهيمن عليه الإسلام السني أو القومية العربية. وباستثناء الحملة الدعائية، لم يتخذ الملالي أي موقف ضد إسرائيل؛ فهم يستخدمون القضية الفلسطينية فقط لإقناع العرب بنسيان أن إيران قوة شيعية واحترام قيادتها. ويشير البعض ومن بينهم ديفيد لورد أليانس، أحد أعضاء مجلس اللوردات البريطاني، إلى أن إسرائيل تدعو إيران إلى المشاركة في إدارة «المواقع المقدسة» الإسلامية في القدس.
مع ذلك يمكن أن ينتهي الحال بخامنئي، والفصائل المتشددة، التي تدعمه داخل إيران، إلى أن يكونوا من بين الخاسرين في حال ساعد الـ«اتفاق» في إنقاذ الجمهورية الإسلامية من أكبر أزمة اقتصادية مرت بها منذ الخمسينات. إذا حدث تطبيع للعلاقات مع الولايات المتحدة، سيحرم النظام من الدعامة الآيديولوجية الرئيسية التي تتمثل في شعار «الموت لأميركا». ويمكن لرافسنجاني و«مجموعة نيويورك» المحيطة به تقديم «حل صيني» تظل فيه الجمهورية الإسلامية نظاما قمعيا في الداخل، مع إقامة علاقات قوية مع الولايات المتحدة؛ بل إنهم مستعدون لوضع الجمهورية الإسلامية تحت وصاية القوى الكبرى لمدة تتراوح بين 10 و15 عاما من أجل ضمان بقاء النظام. ويقول إبراهيم أصغر زاده، أحد المشاركين في عملية احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية والذي أصبح داعما للإصلاح: «في تلك الحالة قد تكون الطبقات الوسيطة الإيرانية من الخاسرين. بل قد يصبح حتى روحاني من الخاسرين».
الإرهاب
لن يضع الـ«اتفاق» حدا لدور الجمهورية الإسلامية في دعم الإرهاب قي مختلف أنحاء العالم. وسوف يستمر تدريب، وتمويل، وتسليح حزب الله، وحماس، والجهاد الإسلامي، وغيرها من الجماعات المماثلة، بل وقد يزداد. ومن المؤكد أن أوباما يعلم أن طهران هي العاصمة التي لأغلب التنظيمات الإرهابية، ومنها غير الإسلامية من أميركا اللاتينية، مكاتب بها، والتي تعقد بها مؤتمرات سنوية كل فبراير (شباط). وسوف تحافظ طهران على هذا التقليد الذي بدأ خلال الأشهر القليلة الأولى من عمر الجمهورية الإسلامية، وهو احتجاز بعض الرهائن الأميركيين سواء داخل إيران، أو على أيدي عملاء الخميني في مناطق أخرى من الشرق الأوسط. ومنذ عام 1979 لم يمر يوم دون أن يحتجز أتباع الخميني بعض الأميركيين. ولا يزال هناك أربع رهائن محتجزون حاليا في طهران وهناك واحد مفقود. ويمكن للاتفاق أن يشجع أكثر العناصر تطرفا في نظام يستعد بالفعل إلى شن حملة ملاحقة كبيرة على مستوى البلاد ضد كل أشكال المعارضة وذلك بحسب تقارير في أنحاء إيران. وتم القبض على عشرات من نشطاء حقوق الإنسان، ونشطاء عماليين، ونشطاء في مجال حقوق الأقليات العرقية، على مدى الأسابيع القليلة الماضية، في الوقت الذي تروج فيه حملة تعرف باسم «العفة الإسلامية» لإجراءات جديدة ضد النساء. ودائما ما يكون الاتجاه نحو الثورة والإرهاب سهلا، والابتعاد عنه صعبا. لهذا لا يستبعد الكثير من المراقبين في إيران حدوث أي مفاجآت حين يتعلق الأمر بالرابحين والخاسرين في الـ«اتفاق».