الاتفاق النووي الإيراني.. الرابحون والخاسرون

أوباما أضافه إلى إرثه السياسي.. وأوروبا تتسابق لقطف الثمار التجارية.. وتركيا من الأطراف الخاسرة

الاتفاق النووي الإيراني.. الرابحون والخاسرون
TT

الاتفاق النووي الإيراني.. الرابحون والخاسرون

الاتفاق النووي الإيراني.. الرابحون والخاسرون

لا يزال أمامنا طريق طويل قبل أن يصبح الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني واقعا ملموسا على الأرض إن أصبح كذلك بالأساس. مع ذلك حتى إذا لم يصبح واقعا، فقد أسفرت العملية ذاتها عن خاسرين ورابحين محتملين.
لا توجد صلاحية قانونية للاتفاق المبدئي، الذي يعرف بالخطة الشاملة، لأن أحدا لم يوقع عليه، مع ذلك فإن القرار، الذي أصدره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الأسبوع الماضي وهو السابع الخاص بهذا الأمر، قد ينظر إليه باعتباره يضفي قدرًا من الشرعية على الخطة.
وصوتت الولايات المتحدة بصفتها راعية للقرار لصالحه مما جعلها ملتزمة به، أما إيران، فهي ليست عضوا في مجلس الأمن، ولم يكن عليها التصويت ولم تتقبله. ولن يكون قبول قرار جديد بالأمر اليسير، لكنه يقوم على ستة قرارات سابقة رفضتها إيران.
ولمح جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، يوم السبت الماضي إلى أن الجمهورية الإسلامية قد لا تقبل القرار الجديد وهو ما يجعل الغموض يلف القضية برمتها في هذه الحالة. وقال ظريف: «يوضح نص الخطة أن فحواها لا يتطابق مع فحوى القرار 2231، وبالخلط بين الاثنين يثير جون كيري حالة من الارتباك».
وحتى تقبل إيران القرار الجديد وتمنح سندا قانونيا للخطة يجب أن يوافق مجلس الوزراء على النص أولا، ومن ثم سيتم تقديم الخطة إلى المجلس الأعلى للدفاع الوطني؛ وفي حال الموافقة عليه، ستتم إحالة النص إلى المجلس الإسلامي، الذي سيحيله بدوره، في حال الموافقة عليه، إلى مجلس صيانة الدستور. وفي النهاية، سيتم تقديم النص إلى «المرشد الأعلى»، والذي لا يوجد ما يلزمه بقبوله، بل يمكنه إلغاؤه في أي وقت بموجب الحكم الحكومي.
الوثيقة الوحيدة التي وقعت عليها إيران في فيينا هي ما يطلق عليها يوكيو أمانو، مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية «خريطة طريق» للتعامل مع مخاوف الوكالة الدولية بشأن الجوانب العسكرية للبرنامج النووي الإيراني مع التوجه لإصدار تقرير. ولا يزال النص سريا. مع ذلك لا يعني التوقيع الكثير؛ فعلى مدى الاثني عشر عاما الماضية وقعت إيران على مثل تلك الوثائق في ثلاث مناسبات ولم تكن تلتزم بها في كل مرة.
في كل الأحوال، لا توضح «خريطة الطريق» الوجهة، أو السرعة، أو الوسيلة، أو حتى ما إذا كان ينبغي بدء الرحلة بالأساس أم لا. ولا يمكن لأي «خريطة الطريق» أن تمنع المرء من تجاوز بعض النقاط أو حتى التراجع.

الرابحون
رغم أن ما بحوزتنا ليس سوى اتفاق غير حقيقي، يبدو رد الفعل العام تجاهه إيجابيًا. وليس من الصعب فهم ذلك. من بين الرابحين الرئيس باراك أوباما، الذي تمكن من اتخاذ هذه الخطوة في الفترة المتبقية من رئاسته، ويتفاخر بالفعل بذلك «النجاح التاريخي» الذي سيصقل إرثه.
وترضى روسيا عن الاتفاق لأنها تريد نصيبا من الأصول الإيرانية المتجمدة من خلال بيع أسلحة لطهران. وخلال المفاوضات التي تمت في فيينا، قاد حسين ديغان وزير الدفاع الإيراني وفد شارك به 40 شخصا إلى موسكو لمناقشة مشتريات الأسلحة. ولحق بالوفد حبيب الله سياري، قائد البحرية الإيرانية، الذي يريد تطوير، وإعادة تسليح قوته بمساعدة روسيا.
كذلك ترضى الصين عن الاتفاق لأنها بدأت إبرام اتفاقيات من أجل بناء خمس منشآت نووية في إيران، وتعتزم ضخ استثمارات ضخمة في صناعة النفط الإيراني. الجدير بالذكر أن إيران تعتمد على النفط الإيراني في سد 11 في المائة من احتياجاتها. وترضى ألمانيا عن الاتفاق لأن إيران هي أكبر شريك تجاري في الشرق الأوسط. وزادت الصادرات الألمانية إلى إيران بنسبة 32 في المائة خلال العام الماضي بفضل ضمانات الحكومة، التي تعتمد على الأمل في «اتفاق» يضع المزيد من المال في جيوب الإيرانيين. وترضى فرنسا عن الاتفاق لأن من شأنه تحفيز مبيعات الأسلحة إلى العرب الذين يشعرون بالقلق من تسلح إيران النووي. كذلك وقعت فرنسا على اتفاق من أجل إنشاء محطات كهرباء تعمل بالطاقة النووية في الكثير من الدول العربية من بينها مصر.
أما داخل إيران، فالرابح المباشر هو الفصيل الذي يقوده الرئيس هاشمي رافسنجاني وبه الرئيس حسن روحاني وأغلبية الوزراء في مجلس وزرائه. ويوم الإعلان عن «الاتفاق» في فيينا، نشر رافسنجاني ملصقا يظهر فيه على خلفية من الشمس المشرقة، وإلى جواره صورة روحاني، ووزير الخارجية ظريف، بحجم أصغر من رافسنجاني. وكان التعليق المصاحب للملصق «هاشمي، حكمتك وبعد نظرك، أفقت السكران من سكره». وتمثل تلك القصيدة الصغيرة هجوم على خامنئي الذي اتهمه رافسنجاني، من دون أن يسميه، بأنه «سكران بالشعارات». ويرى رافسنجاني أن «الاتفاق» نقطة انطلاق لحملته الرامية إلى السيطرة على المجلس الإسلامي، ومجلس الخبراء، الذي سيختار «المرشد الأعلى» في الانتخابات العامة خلال العام المقبل. وفي النهاية سيشغل منصب خامنئي إلى جانب أحد مساعديه. ومرشح رافسنجاني هو حسن الخميني، حفيد آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإيرانية.

تجاهل «المرشد الأعلى»
من أجل الإبقاء على المسافة الفاصلة بينه وبين خامنئي، قام رافسنجاني بأمرين خلال الأسبوع الماضي. كان الأول هو رفض الانضمام إلى الحضور الذي يقدمه خامنئي إلى رموز النظام. وظهر المقعد، الذي كان مخصصا لرافسنجاني، خاليا لأول مرة منذ عقود خلال الفعالية التي بثت على الهواء مباشرا. وكان الأمر الثاني في احتفالات عيد الفطر عندما تولى خامنئي إمامة الصلاة، ولم يقف رافسنجاني في الصف الأول، وفي النهاية غادر من دون إلقاء التحية على «المرشد الأعلى».
كذا يمكن اعتبار الجيش الإيراني من بين الرابحين. حتى قبل الإعلان عن «الاتفاق»، زاد روحاني ميزانية الجيش بنسبة 23 في المائة. وفي ظل الموارد المالية الجديدة، يمكن للجيش الإيراني أن يضغط لتنفيذ مشروعين. الأول هو تعزيز وجوده في العراق، وسوريا، ولبنان، قبل أن يحاول أي رئيس أميركي جديد من المحتمل أن يتسم بالعدائية التراجع عن سياسة أوباما الداعمة لطهران. الهدف المقبل هو بدء عمليات بناء هائلة في البحرية الإيرانية النظامية، والعمليات غير النظامية التي يسيطر عليها الحرس الثوري. ويعلم المخططون العسكريون في طهران أن أصول سلاح البحرية القادرة على توفير الدعم اللوجيستي ضرورية لمشروعات بناء إمبراطورية. ولا يوجد لدى أي دولة إقليمية في اللحظة الراهنة سلاح بحرية، حيث يعتمدون جميعهم على الولايات المتحدة في توفير الأمن البحري. وتعزز معاهدة الحدود البحرية، التي أقنعت إيران عمان بتوقيعها منذ بضعة أسابيع، طموحات طهران البحرية. وتضمن البحرية الإيرانية لعمان الحقوق البحرية في الجزر العمانية في خليج عمان وبحر العرب. وتعد جزيرة بيت الغنم من الجزر العمانية المهمة التي تعد البوابة الجنوبية لمضيق هرمز. كذلك لدى إيران قواعد بحرية في سوريا وأصول بحرية في لبنان بفضل وحدات تنظيم حزب الله الذي يخضع لسيطرة الجمهورية الإسلامية.
الخاسرون
تعد تركيا من بين الأطراف الخاسرة، حيث استفادت كثيرا من العقوبات المفروضة على إيران من خلال توفيرها لقنوات بديلة. ومع استعادة إيران للعلاقات التجارية الدولية المباشرة، سوف تخسر تركيا قدرا هائلا من العائدات التي كانت تحققها نظير رسوم النقل عبر أراضيها. ويظل الأسوأ هو أنه من المؤكد أن يزيد وجود جمهورية إسلامية وقوية الضغط على تركيا لقبول قيادة خمينية. ونشرت صحيفة «كيهان» اليومية، الناطقة باسم خامنئي، مقال افتتاحي يوم السبت يدعو تركيا إلى «الانضمام إلى جبهة المقاومة» تحت قيادة إيرانية، والاعتراف ببشار الأسد كرئيس شرعي لسوريا، والامتناع عن «ظلم الأقلية من العلويين والأكراد».
وهناك خاسر محتمل آخر وهو دبي، الإمارة التي كانت بمثابة عصب النشاط المصرفي والتجاري الإيراني منذ ثمانينات القرن الماضي. وبحسب آية الله شرودي، أحد مساعدي خامنئي، تزيد الاستثمارات الإيرانية في دبي على الـ700 مليار دولار. كذلك سينتهي الحال بأكثر دول المنطقة إلى التحول إلى خاسرين. وسيصبح نظام يدعم آيديولوجية راديكالية، ويسعى لزعامة العالم الإسلامي كله، أقوى لما سيراه خضوعا واستسلاما من قبل الولايات المتحدة. وهذا واضح بالفعل مع تكثيف حملة الخميني الدعائية على أساس إعلان خامنئي بداية الشهر الحالي عن «منطقة نفوذ» إيرانية.
ويعد ذكر خامنئي للبحرين واليمن ضمن منطقة النفوذ مثار قلق بالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي. وقال حميد زمردي، مخطط جيو استراتيجي: «أعلن خامنئي عن مشروع بناء إمبراطورية بذريعة معالجة الانقسامات الداخلية في النظام. ويمكن أن يتيح مثل هذا المشروع للفرق المتنافسة التعاون سويا من أجل تصدير الثورة».

إسرائيل أكبر الخاسرين
من جانب يمكن اعتبار بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، واحدًا من الخاسرين لأنه أخفق في منع التوصل إلى «الاتفاق» الذي أبرم في فيينا؛ ومن جانب آخر، يرى بعض القيادات الإسرائيلية، ومن بينهم قادة سابقون لجهاز الموساد الإسرائيلي مثل مائير دوغان، وإفرايم هليفي، إيران كحليف استراتيجي للدولة اليهودية. وحجتهم في هذا الصدد هي أن كلا من إسرائيل وإيران لا ترغب في شرق أوسط يهيمن عليه الإسلام السني أو القومية العربية. وباستثناء الحملة الدعائية، لم يتخذ الملالي أي موقف ضد إسرائيل؛ فهم يستخدمون القضية الفلسطينية فقط لإقناع العرب بنسيان أن إيران قوة شيعية واحترام قيادتها. ويشير البعض ومن بينهم ديفيد لورد أليانس، أحد أعضاء مجلس اللوردات البريطاني، إلى أن إسرائيل تدعو إيران إلى المشاركة في إدارة «المواقع المقدسة» الإسلامية في القدس.
مع ذلك يمكن أن ينتهي الحال بخامنئي، والفصائل المتشددة، التي تدعمه داخل إيران، إلى أن يكونوا من بين الخاسرين في حال ساعد الـ«اتفاق» في إنقاذ الجمهورية الإسلامية من أكبر أزمة اقتصادية مرت بها منذ الخمسينات. إذا حدث تطبيع للعلاقات مع الولايات المتحدة، سيحرم النظام من الدعامة الآيديولوجية الرئيسية التي تتمثل في شعار «الموت لأميركا». ويمكن لرافسنجاني و«مجموعة نيويورك» المحيطة به تقديم «حل صيني» تظل فيه الجمهورية الإسلامية نظاما قمعيا في الداخل، مع إقامة علاقات قوية مع الولايات المتحدة؛ بل إنهم مستعدون لوضع الجمهورية الإسلامية تحت وصاية القوى الكبرى لمدة تتراوح بين 10 و15 عاما من أجل ضمان بقاء النظام. ويقول إبراهيم أصغر زاده، أحد المشاركين في عملية احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية والذي أصبح داعما للإصلاح: «في تلك الحالة قد تكون الطبقات الوسيطة الإيرانية من الخاسرين. بل قد يصبح حتى روحاني من الخاسرين».

الإرهاب
لن يضع الـ«اتفاق» حدا لدور الجمهورية الإسلامية في دعم الإرهاب قي مختلف أنحاء العالم. وسوف يستمر تدريب، وتمويل، وتسليح حزب الله، وحماس، والجهاد الإسلامي، وغيرها من الجماعات المماثلة، بل وقد يزداد. ومن المؤكد أن أوباما يعلم أن طهران هي العاصمة التي لأغلب التنظيمات الإرهابية، ومنها غير الإسلامية من أميركا اللاتينية، مكاتب بها، والتي تعقد بها مؤتمرات سنوية كل فبراير (شباط). وسوف تحافظ طهران على هذا التقليد الذي بدأ خلال الأشهر القليلة الأولى من عمر الجمهورية الإسلامية، وهو احتجاز بعض الرهائن الأميركيين سواء داخل إيران، أو على أيدي عملاء الخميني في مناطق أخرى من الشرق الأوسط. ومنذ عام 1979 لم يمر يوم دون أن يحتجز أتباع الخميني بعض الأميركيين. ولا يزال هناك أربع رهائن محتجزون حاليا في طهران وهناك واحد مفقود. ويمكن للاتفاق أن يشجع أكثر العناصر تطرفا في نظام يستعد بالفعل إلى شن حملة ملاحقة كبيرة على مستوى البلاد ضد كل أشكال المعارضة وذلك بحسب تقارير في أنحاء إيران. وتم القبض على عشرات من نشطاء حقوق الإنسان، ونشطاء عماليين، ونشطاء في مجال حقوق الأقليات العرقية، على مدى الأسابيع القليلة الماضية، في الوقت الذي تروج فيه حملة تعرف باسم «العفة الإسلامية» لإجراءات جديدة ضد النساء. ودائما ما يكون الاتجاه نحو الثورة والإرهاب سهلا، والابتعاد عنه صعبا. لهذا لا يستبعد الكثير من المراقبين في إيران حدوث أي مفاجآت حين يتعلق الأمر بالرابحين والخاسرين في الـ«اتفاق».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.