من التاريخ: نهاية الحرب المكسيكية ـ الأميركية

من التاريخ:  نهاية الحرب المكسيكية ـ الأميركية
TT

من التاريخ: نهاية الحرب المكسيكية ـ الأميركية

من التاريخ:  نهاية الحرب المكسيكية ـ الأميركية

كما تابعنا الأسبوع الماضي، ففقد اندلعت الحرب المكسيكية الأميركية عام 1846، عندما أصر الرئيس الأميركي جيمس بولك على التحرش بالجيوش المكسيكية في الشمال للدخول في حرب مفتوحة بهدف الضغط على الحكومة المكسيكية للتنازل عن أراضيها الشمالية الغربية. وقد نجح بولك في إقناع الكونغرس بإعلان الحرب على المكسيك وخلال أشهر قليلة استطاع حشد ثلاثة جيوش الأول بقيادة الجنرال زاكري تايلور، والذي استطاع إلحاق عدد من الهزائم بالجيش المكسيكي والتوغل حتى مدينة مونتيري وجيش آخر صوب الغرب بقيادة «كيرني». واستطاع جيش تايلور أن يحتل الأراضي المكسيكية التي كان الأميركيون يطمعون فيها، بينما فرض الحصار على الساحل الشرقي للمكسيك بقيادة الجنرال سكوت ودعمه الرئيس بعد ذلك بقوات إضافية من جيش تيلور والتي توترت علاقته به تدريجيًا بسبب شعبيته المتزايدة. وقد استقر رأي البرلمان المكسيكي على إسناد قيادة الجيش إلى السياسي العجوز سانتا آنا والذي دخل في معركة غير حاسمة مع تيلور في الشمال، ولكنه اضطر إلى الانسحاب بعدما استدعاه البرلمان للسيطرة على حالة الفوضى في العاصمة المكسيكية بسبب تشتت الرأي واختلاف السياسيين، وهكذا بدأ الحصار العسكري التدريجي للضغط على المكسيك للتنازل عن أراضيها.
لقد استطاع سانتا آنا أن يفرض السلم الداخلي في العاصمة المكسيكية ودحر الفوضى المحيطة بها وتوحيدها على هدف مقاومة الأميركيين. ولكن هذا التحرك كلفه الكثير من الوقت والجهد لجيش منهك بالفعل، وبالتالي فلم يتمكن الرجل تجهيز الجيش بالشكل المطلوب لمواجهة الجيوش الأميركية، فلقد صدرت توجيهات الرئيس الأميركي للجنرال سكوت بإنزال بر مائي لبدء الغزو الأميركي من الشرق لمحاصرة العاصمة المكسيكية. وهناك دارت معركة «فيرا كروز» الشهيرة والتي استسلمت فيها القوات المكسيكية بعد دفاع مرير بسبب نقص العدد والأغذية بعدما دب فيها اليأس من وصول أي إمدادات من سانتا آنا. وبمجرد أن استطاع سكوت السيطرة على الوضع بدأ يجهز جيشه للتحرك الفوري صوب العاصمة المكسيكية، ولم يكن أمام «سانتا آنا» إلا التحرك بجيشه صوب الشرق لمواجهة الجيش الأميركي بعيدًا عن العاصمة، وقد اختار الرجل منطقة ضيقة معروفة باسم سيروا جوردو بين الجبال لحشد دفاعاته، ونظم الرجل جيشه، ولكنه ترك ميسرته اعتمادًا على أنها منطقة مرتفعة يصعب على الجيش الأميركي اقتحامها، وركز كل جهده في الوسط والميمنة. وهنا وقع الرجل في خطأ تكتيكي شديد سرعان ما استغله القائد الأميركي سكوت فأرسل قوة استطاعت الاستيلاء على هذه المنطقة المرتفعة ووضع المدفعية فيها. وعندما اندلعت المعركة في صباح اليوم التالي فوجئ المكسيكيون بالمدفعية الأميركية المرتفعة تنهال عليهم، ورغم الصمود المكسيكي القوي والدفاع المستبسل للجنود، فإن الأمر كان قد حسم بالفعل لصالح الأميركيين وهزم المكسيكيون هزيمة نكراء اضطر بعدها سانتا آنا لسحب قواته والتوجه نحو العاصمة من أجل تدشين الدفاعات الأخيرة لمواجهة الجيش الأميركي.
وبدأ الجنرال سكوت في تحريك جيوشه صوب العاصمة المكسيكية منتظرًا الإمدادات التي لم تصل له بالشكل الكافي، ولكن جيشه كان متفوقًا بكل المعايير على ما تبقى من الجيش المكسيكي، وهنا أرسل الرئيس بولك مبعوثه لتجديد عرض شراء الأراضي المكسيكية مرة أخرى. ولكن المقاومة المكسيكية لم تكن قد انتهت بعد، فسرعان ما جهزت الجيوش المكسيكية نفسها للدفاع عن المدينة، وساعدهم على ذلك لواء من القوات الآيرلندية المنشقة عن الجيش الأميركي والرافضة للمحاولات الأميركية للاستحواذ على الأراضي المكسيكية، ولكن المقاومة لم تكن قادرة على وقف الزحف الأميركي ضد العاصمة، وفي سبتمبر (أيلول) 1847 حاصر سكوت العاصمة المكسيكية ولم يبق أمامه أية مقاومة إلا في إحدى القلاع الحصينة المعروفة باسم «كاستيو دي شابولتيبك» والتي احتمت فيها المقاومة الباقية، ولكنها لم تكن لتصمد أمام المدفعية الأميركية. وعندما لم يتبق للدفاع عنها إلا بضعة متدربين عسكريين هدأت المعارك ورفض هؤلاء الشباب الاستسلام وآثروا رمي أنفسهم من أعلى القلعة بدلاً من ذلك، وعند هذا الحد انتهت المقاومة المكسيكية واحتل الجيش الأميركي العاصمة المكسيكية انتظارًا لإذعان البرلمان للتنازل عن الأرض.
واقع الأمر أن الساسة المكسيكيين لم يستطيعوا الموافقة على التنازل المطلوب، ولم يكن أمام مبعوث الرئيس «بولك» إلا فتح مفاوضات ممتدة معهم لإقناعهم بعدم جدوى الاستمرار في المقاومة السياسية لأمر محتوم، ولكن الرجل فشل في إقناعهم، وهنا ضاق صبر الرئيس الأميركي وقام باستدعاء المفاوض، ولكن الجنرال سكوت أقنعه بعدم الامتثال للتعليمات لأنه لم يكن من المنطقي أن يختفي المفاوض في هذه الظروف السياسية الصعبة، وخاصة أنه كان عاقد العزم على ضرورة الانسحاب، وبالفعل بقي الرجل واضطر الساسة المكسيكيون للانصياع للأمر الواقع في 1848، فتم التوقيع على الاتفاق النهائي والذي بمقتضاه تنازلت المكسيك عما يقرب من نصف مليون كيلومتر مربع من الأراضي الشمالية والشمالية الغربية لصالح الولايات المتحدة الأميركية وهي الولايات المعروفة اليوم باسم كولورادو ويوتاه ونيفادا وأريزونا ونيو مكسيكو وكاليفورنيا وأريزونا وذلك مقابل خمسة عشر مليون دولار أميركي وتم مد حدود الدولتين إلى نهر «الريو جراندي» كما كانت واشنطن تريد.
هكذا انتهت الحرب المكسيكية - الأميركية بضياع ما يقارب من نصف الأراضي المكسيكية لصالح الولايات المتحدة، وانتهت معها ما وصفها بعض المؤرخين «بالحرب الإمبريالية الأولى» للولايات المتحدة والتي كان هدفها الأساسي هو امتلاك أراضي دولة أخرى، وكانت نتيجة الحرب موت ما يقرب من خمسة عشر ألف جندي أميركي أغلبهم من المرض وضعف الرعاية الصحية وهو ما يمثل قرابة ثلث القوات الأميركية التي شاركت في هذه الحرب بأشكال مختلفة على مدار السنوات الثلاث، وكانت النتيجة بالنسبة للمكسيكيين كارثية، حيث دحر جيشهم وأصبحت المكسيك في حالة عسكرية يرثى لها. وعلى الرغم من نجاح الرئيس الأميركي في تحقيق هدفه السامي بضم الأراضي المكسيكية فإنه فقد كل تعاطف مع مرور الوقت، بل إن الكثيرين بدأوا ينتقدونه علنًا لسياساته التحكمية ومواقفه العنيفة تجاه قادة الجيش، وهو ما جعله محاصرًا من الناحية السياسية في البيت الأبيض في الوقت الذي بدأ فيه التصعيد السياسي لغريمه الجنرال تيلور والذي استطاع الفوز بالرئاسة الأميركية بسبب مواقفه العسكرية والوطنية القوية. والملاحظ أيضا أن هذه الحرب كانت فاتحة خير لعدد ممن شاركوا فيها من قبل الولايات المتحدة، فلقد شهدت أدوارًا قوية لعدد من القادة الأميركيين وعلى رأسهم الجنرال روبرت ليي والذي أصبح فيما بعد قائد قوات الجنوب في الحرب الأهلية الأميركية التي أعقبت هذه الحرب.
وقد تركت هذه الحرب الكثير من الدروس الهامة وعلى رأسها أن الدولة التي تفتقر لجيش قوي لن ينفعها التشدق بالمبادئ والقوانين للدفاع عن أراضيها فقديمًا قال الرومان مقولتهم الشهيرة: «إذا أردت السلام فكن مستعدًا للحرب Si vis Pacem Para Bellum»، فالدولة التي لا تستطيع أن تحمي حدودها وأراضيها فإنها قد تكون معرضة لتجربة مثل التي تعرض لها المكسيكيون في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخهم والتي تركت فيها غصة تاريخية لا تزال تحلق بمرارتها في حلوقهم إلى اليوم، وهو ما دفع الديكتاتور المكسيكي الشهير بورفيريو دياز لقول جملته الشهيرة «مسكينة المكسيك.. بعيدة عن الله وقريبة من الولايات المتحدة».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.