إيطاليا: قراءة في حصيلة الأيام الـ100 من حكم جيورجيا ميلوني

بين المتابعة الأوروبية لأدائها... ومشاغبات «حليفيها» برلوسكوني وسالفيني

ميلوني مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (رويترز)
ميلوني مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (رويترز)
TT

إيطاليا: قراءة في حصيلة الأيام الـ100 من حكم جيورجيا ميلوني

ميلوني مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (رويترز)
ميلوني مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (رويترز)

كثيرة وعميقة هي التطورات التي تعاقبت على المشهد السياسي الإيطالي خلال الأشهر الستة المنصرمة. تطورات حصلت منذ سقوط حكومة ماريو دراغي، والفوز الساحق لائتلاف الأحزاب اليمينية في الانتخابات العامة، بقيادة جيورجيا ميلوني، الزعيمة السابقة للشبيبة الموسولونية ومؤسسة الحزب الذي قام على ركام الحركة الفاشية، وزعيمته. بهذا الفوز وصل اليمين المتطرف إلى قيادة إحدى الدول الأعضاء الوازنة داخل الاتحاد الأوروبي... وتولت امرأة رئاسة الحكومة للمرة الأولى في تاريخ إيطاليا. كذلك، لأول مرة أيضاً في التاريخ الإيطالي الحديث تتمتع الحكومة بأغلبية مريحة في البرلمان، تسمح لها بالبقاء حتى نهاية الولاية الاشتراعية والخروج عن القاعدة التي تشاء ألا يتجاوز متوسط عمر الحكومات الإيطالية 400 يوم. هذا، اللهم إلا إذا قاومت الأحزاب ميولها التقليدية إلى الانتحار السياسي وهواية زعمائها في تدبير المؤامرات والمكائد. بعد مرور مائة يوم على تشكيل ميلوني الحكومة الائتلافية الحالية مع حليفيها «اللدودين» ماتّيو سالفيني زعيم حزب «الرابطة» اليميني المتطرف، والملياردير سيلفيو برلوسكوني رئيس الوزراء الأسبق وزعيم «فورتسا إيطاليا»، يبدو أن التعقيدات المتوطنة في المشهد السياسي الإيطالي فرضت على ميلوني، ولو مؤقتاً، بعض الاعتدال في ميدان سياسي لا تطول فيه التحالفات كثيراً.

سالفيني (إ.ب.أ)

رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني، التي تعتبر أن بنيتو موسوليني كان زعيماً وطنياً ومن أنجح الزعماء السياسيين الذين أنجبتهم إيطاليا، تنبهّت إلى المصالح العميقة التي تربط بلادها بشركائها في الاتحاد الأوروبي، ومقتضيات تحالفاتها الدولية، خصوصاً، مع الولايات المتحدة. وهذا الواقع، فرض على حكومتها - على الأقل في المرحلة الراهنة - التخلّي عن معظم المبادئ اليمينية المتطرفة التي كانت ترفع لواءها عندما كانت في المعارضة. ليس هذا فقط، بل والسير أيضاً على خطى سلفها ماريو دراغي من أجل تهدئة الخواطر في المحيط الأوروبي الذي يشكّل المجال الحيوي الرئيسي بالنسبة للاقتصاد الإيطالي الرازح تحت أزمة ركود مزمنة منذ أكثر من عشر سنوات.
ما هو شبه مؤكد أن ميلوني أخذت على محمل الجد أيضاً تحذيرات المؤسسات الأوروبية من أنها تملك الوسائل والإجراءات اللازمة لردع البلدان الأعضاء في الاتحاد عن تجاوز المواثيق وانتهاك المبادئ المؤسسة المتوافق عليها للمشروع الأوروبي. والمعروف أنه منذ وصول ميلوني إلى الحكم في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قادت زعيمة حزب «إخوان إيطاليا» اليميني المتطرف حكومتها كما لو أن سلفها البراغماتي المعتدل - دراغي - هو الذي كان يمسك بالمقود. وبالفعل، أصبحت فجأة من أشدّ المدافعين عن العديد من السياسات الأوروبية التي كانت في مرمى سهامها طوال وجودها في المعارضة.

برلوسكوني (أ.ب)

إنجازات الـ100 يوم
ولكن بعد هذه الأشهر الثلاثة التي انقضت منذ وصول ميلوني إلى الحكم - الذي كان يبدو سراباً بعيداً منذ أقل من سنة - وبلوغها نهاية الخريطة التي كان قد رسمها دراغي على الطريق الأوروبية، تجد ميلوني نفسها الآن مضطرة لتحديد مسارها الخاص. والواقع أن هذا المسار ما زال إلى اليوم لغزاً بالنسبة للمراقبين، كما هو بالنسبة للحلفاء الذين تعرف جيداً أنهم يتربصون بها قبل الخصوم.
في أي حال، أبرز الإنجازات التي حققتها حكومة ميلوني خلال هذه الفترة كانت الموافقة السريعة على قانون الموازنة العامة، التي كانت الحكومات السابقة تتعثر طويلاً لتمريرها في البرلمان. وهنا نشير إلى أن حكومة دراغي هي التي كانت قد وضعت إطارها العام وخطوطها العريضة وفقاً للمعايير والشروط الأوروبية، في حين كانت أحزاب الائتلاف الحاكم حالياً تعترض عليها. وقد اضطرت ميلوني لسحب معظم التعديلات التي كانت أجرتها على مشروع الموازنة، بضغط من حلفائها وليس من المعارضة.
من ناحية ثانية، يعترف المسؤولون في المفوضية الأوروبية بأن جميع الخطوات التي أقدمت عليها رئيسة الحكومة الإيطالية حتى الآن، تندرج ضمن الخط الذي كان ينهجه سلفها حريصاً على التزام القواعد والمعايير الأوروبية المشتركة... لا بل إن بعضها لم يكن متوقعاً من حكومة درجت رئيستها على وضع المؤسسات الأوروبية في مرمى سهامها طوال سنوات، وتضمّ حزب «الرابطة». وهو الحزب الذي كان زعيمه سالفيني يدعو إلى الخروج من منطقة اليورو، وما زال لا يوفّر مناسبة من غير أن يطالب بإعادة النظر في الأسس التنظيمية للاتحاد الأوروبي وتغيير آليات اتخاذ القرار في مؤسساته. وبالتالي، لم يعد مستبعداً، في رأي البعض، أن تبادر حكومة ميلوني قريباً إلى الموافقة على اقتراح «آلية الاستقرار الأوروبية» التي كانت تعترض عليها بشدّة بحجة أنها تخدم مصالح بعض الدول، مثل ألمانيا وهولندا، على حساب دول أخرى تواجه صعوبات لاستيفاء الشروط والمعايير المالية؛ مثل إيطاليا.

دراغي (د.ب.أ)

الأزمة مع فرنسا
في المقابل، الأزمة الخارجية الوحيدة التي اصطدمت بها حكومة ميلوني خلال هذه الفترة، كانت مع فرنسا بسبب الخلاف على استقبال المهاجرين غير الشرعيين الذين تنقذهم سفن الإغاثة أمام السواحل الإيطالية. ولقد نشأت هذه الأزمة في الأساس من عثرة دبلوماسية ناجمة عن قلة خبرة ميلوني. إذ حاول حليفها في الحكومة، سالفيني، أن يستغلها للمزايدة في موضوع كان قد بنى عليه شعبيته في الماضي، الأمر الذي أدّى إلى ردة فعل قاسية من فرنسا تسببت في توتر شديد في العلاقات بين البلدين، ما زال يرخي بثقله عليها إلى اليوم.
في هذه الأثناء، استطاعت رئيسة الحكومة الإيطالية أن تحافظ على موقف رسمي متماسك من الحرب الأوكرانية بجانب الحلفاء الغربيين الداعمين لأوكرانيا. وجاء نجاحها على الرغم من المواقف المعروفة والمعلنة لحليفيها في الحكومة من تلك الحرب. إذ يعارض سالفيني وحزبه مواصلة إرسال إيطاليا المساعدات العسكرية إلى الأوكرانيين، في حين يدعو برلوسكوني إلى الحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإقناع الرئيس الأوكراني زيلينسكي بالتجاوب مع مطالب الرئيس الروسي. وللتذكير، كانت ميلوني قد أعلنت مؤخراً عن أنها ستقوم بزيارة إلى العاصمة الأوكرانية كييف قبل نهاية هذا الشهر بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الحرب. ومن المرجح إجراء هذه الزيارة برفقة رئيس وزراء بولندا ماتيوش ماروفييتسكي، وهو حليفها وشريكها في كتلة المحافظين اليمينيين التي ترأسها في البرلمان الأوروبي. ومن ثم، سيكون لقاؤها رئيس الوزراء البولندي الخطوة الوحيدة، حتى الآن، التي تقوم بها باتجاه مجموعة «فيسغراد»، التي تضمّ كلاً من سلوفاكيا والمجر وبولندا والجمهورية التشيكية، وتشكل جبهة المعارضة للخط العام داخل الاتحاد الأوروبي.
وفي سياق موازٍ، حرصت ميلوني منذ بداية ولايتها على تحاشي الصدام، الذي كان يتوقعه كثيرون، ببروكسل (قيادة الاتحاد الأوروبي)، بما في ذلك حول ملف الهجرة. إذ اختارت موقفاً وسطيّاً يخرج عن سياسة الحكومة السابقة بمقدار لا يفتح باب المواجهة مع الشركاء الأوروبيين، لكنه يكفي لتطمين القاعدة الشعبية وقطع طريق المزايدة أمام حزب الرابطة، حليفها في الحكومة. وفي هذا الصدد، قررت الإحجام عن إقفال الموانئ الإيطالية في وجه طالبي اللجوء - كما كانت تطالب خلال الحملة الانتخابية - لكنها ألزمت منظمات الإغاثة إرسال سفنها إلى موانئ بعيدة عن المواقع التي تنقذ فيها المهاجرين. وهذه خطوة لا تخالف القواعد الأوروبية المراعاة، ولا قانون البحار الذي تنشط في إطاره هذه المنظمات، مع أنها تضفي صعوبة كبيرة على نشاط هذه المنظمات التي بدأ بعضها يرفض تنفيذها.

ضمور للدور الإيطالي!
مقابل ما سبق، يلاحظ أن الانفراج الذي خيّم على علاقات ميلوني الأوروبية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من ولايتها بفضل التطمينات التي وزعتها في كل الاتجاهات على شركائها في الاتحاد ومـؤسساته - والذي كانت تحتاج إليه كي تنصرف لبرنامجها الداخلي الحافل بالتغييرات – أخذ يتبدد في الأيام الأخيرة. وهو الآن ينذر بضمور طويل الأمد للدور الإيطالي على الساحة الأوروبية، بعدما كان ماريو دراغي قد نجح في إعادة إيطاليا إلى صدارة المشهد الأوروبي.
ولعلّ المقارنة الأكثر دلالة على التغيير السريع الذي طرأ على حضور إيطاليا ودورها في الخارج، هي بين الصورة التي جمعت في الصيف الماضي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس، إلى جانب رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراغي في القطار الذي حمل الثلاثة إلى العاصمة الأوكرانية، وتلك التي ضمّت فولوديمير زيلينسكي إلى ماكرون وشولتس الأسبوع الماضي في قصر الإليزيه بباريس، هذه حملت رسالة واضحة من المحور الفرنسي الألماني مفادها أن إيطاليا «الجديدة» لم تعد شريكاً مميّزاً لهذا المحور كما كانت على عهد دراغي.
ثم إنه وفي اليوم التالي لذلك اللقاء، كان الاستياء بادياً بوضوح على وجه ميلوني خلال القمة الأوروبية التي استضافت الرئيس الأوكراني للمرة الأولى في بروكسل لتوجيه رسالة حول وحدة الصف الأوروبي في الدعم الذي يقدمه الاتحاد لبلاده. ولم تتردد رئيسة الحكومة الإيطالية عند نهاية تلك القمة في الإعراب عن استيائها من استبعادها من العشاء المقام على شرف الرئيس الأوكراني في قصر الإليزيه. وقالت «ما يهمّ فعلاً، الصورة التي تجمع قادة الدول الأعضاء بفولوديمير زيلينسكي، لأنها الرسالة الأقوى التي يمكن أن تصدر عن الاتحاد. واستباق هذا الحزم الأوروبي باجتماع موجّه للرأي العام الداخلي، من شأنه إضعاف الرأي العام الأوسع وتوجيه رسالة سياسية خاطئة».
في أي حال، الانطباع السائد في الحكومة الإيطالية، التي تدرك جيداً أن خطواتها الداخلية باقية تحت مجهر شركائها في الاتحاد، هو أن العلاقات الأوروبية باتت وسيلة لمعاقبة ميلوني أمام الرأي العام الإيطالي، على غرار ما حصل في مراحل سابقة من التاريخ الحديث. ويقارن المراقبون بين ما حصل مؤخراً خلال القمة الأوروبية في بروكسل، وما شهدته قمة أخرى في عام 2011 من التهكم الساخر الذي دار بين المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي حول رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق برلوسكوني قبل أن يجبر على الاستقالة... عندما كان مسدس الأزمة المالية موجهاً إلى صدغه.
ومرة أخرى، تقف إيطاليا أمام معضلتها الأساسية داخل الاتحاد الأوروبي، وهي أنها رغم كونها القوة الاقتصادية الثالثة في الاتحاد، وكونها عضواً في «مجموعة الدول الصناعية السبع»، فما زالت تتأرجح في معادلة التوازنات الأوروبية بين كتلة الدول المؤثرة في القرارات الكبرى وتلك التي تبحث دائماً عن تحالفات ظرفية للدفاع عن مصالحها.
وبالفعل، بعدما كان دراغي قد نجح، بفضل مكانته الوازنة على الصعيد الأوروبي، في الحصول على «مقعد دائم» لإيطاليا في النادي الألماني الفرنسي، تبيّن أن ذلك لم يكن سوى سراب مؤقت تبخّر بعد سقوطه. وهذا ما أكده إيمانويل ماكرون في ردّه غير المباشر على ميلوني، عندما قال «ألمانيا وفرنسا تلعبان دوراً خاصاً منذ ثماني سنوات في هذه القضية. وهما اللتان تقودان هذه العملية، فضلاً عن أنه يعود للرئيس الأوكراني أن يختار الصيغة التي يريد». ولا شك في أن الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني، وأيضاً الرئيس الأوكراني، يدركون جيداً أنه رغم أن الموقف الرسمي المعلن للحكومة الإيطالية - الذي كررته رئيستها عدة مرات - هو تبنّي الموقف الأوروبي - الأطلسي الداعم لأوكرانيا في مواجهة الاجتياح الروسي، فإن حليفيها برلوسكوني وسالفيني تربطهما علاقة قديمة ببوتين، وهذان يعارضان مواصلة تزويد أوكرانيا بالأسلحة... حتى إن الأول لم يتردد أكثر من مرة في انتقاد الرئيس الأوكراني وتحميله مسؤولية اندلاع الحرب، داعياً إلى الإصغاء لمطالب بوتين.
ومن ثم، عندما حاولت ميلوني التأكيد على موقفها من ذلك اللقاء الثلاثي في قصر الإليزيه بقولها إنها لو دعيت إلى ذلك العشاء لكانت نصحت بألا يقام عشية القمة الأوروبية مع زيلينسكي، فإنها كشفت عن السبب الحقيقي وراء خلافها مع المحور الألماني الفرنسي. إذ إنها قالت «يخطئ من يعتقد أن هناك أعضاء من الدرجة الأولى وأعضاء من الدرجة الثانية في الاتحاد الأوروبي، وعليه أن يتذكر حادثة (التيتانيك)، لأنه عندما تغرق السفينة فلا فرق بين المسافر في الدرجة الأولى والمسافر في الدرجة الثانية».
الواضح إذن، أن تصاعد التوتر بين جيورجيا ميلوني وحلفاء إيطاليا في الاتحاد يهدد بالقضاء - بشكل نهائي - على المحاولات التي بذلتها منذ وصولها إلى الحكم لإضفاء صورة الاعتدال على علاقاتها الدولية. لا بل إنه من المؤكد أن هذا التصعيد الأخير مع الرئيس الفرنسي سيدفعها أكثر باتجاه حلفائها الآيديولوجيين التقليديين في الاتحاد، مثل بولندا أو المجر والجمهورية التشيكية، التي اجتمعت برؤساء حكوماتها في خلوة طويلة بعد صدامها بماكرون.

خيارات اليمين الإيطالي المتطرف... ومحاولات معارضيه
> ما يزيد من احتمالات تشدد موقف جيورجيا ميلوني في مواجهتها المفتوحة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، واندفاعها أكثر نحو حلفائها التقليديين في المعسكر اليميني الأوروبي، نتائج الانتخابات الإقليمية التي أجريت مطلع هذا الأسبوع. في هذه الانتخابات، حصدت رئيسة الحكومة اليمينية الإيطالية انتصاراً تاريخياً رسّخ زعامتها للتحالف اليميني، وعزز موقع حزبها في صدارة المشهد السياسي الإيطالي، ومن ثم، حظوظ حكومتها في البقاء حتى نهاية الولاية الاشتراعية. هذا، ومن شبه المؤكد أن ميلوني لن تفوّت فرصة هذا الانتصار لتصفية حساباتها مع حلفائها في الحكومة وفرض طوق عليهم يقيها من الشطحات التي تضع الحواجز على مسار علاقاتها الخارجية، كتلك التي صدرت مؤخراً عن سيلفيو برلوسكوني بشأن الحرب في أوكرانيا.
بيد أن المتنفّس الرئيسي لحكومة ميلوني يبقى رصيدها الكبير في البرلمان، وحالة الغيبوبة التي تطغى على المعارضة. وهنا في المعارضة، تحاول القوى والأحزاب اليسارية والتقدمية - كعادتها منذ عقود - إعادة تأسيس تشكيلاتها التي نادراً ما تدوم من ولاية اشتراعية لأخرى، وأخذت تظهر بوادر قيام حزب وسطي حول رئيس الوزراء وزعيم الحزب الديمقراطي الأسبق ماتيو رينزي وبعض المنشقين عن برلوسكوني وحركة «النجوم الخمسة». لكن هذا الاطمئنان الذي يؤمنه ضعف المعارضة وتشرذمها، يقابله حذر شديد من المفاجآت والمكائد على الجبهة الداخلية للائتلاف الحاكم. ذلك أنه بقدر ما تتراجع شعبية الحليفين لصالح حزب ميلوني... يزداد التوتر بين الحلفاء، وتزداد معه شهيتهم للمعارضة من الداخل. وفعلاً، بدأت تظهر بوادر هذه المعارضة خلال الأيام الأخيرة بعدما ألمحت رئيسة الحكومة إلى عزمها على إعادة النظر في مشروع الدولة الفيدرالية «المفصّل على مقاس» الأقاليم الغنية، الذي كان قد طرحه حزب «الرابطة» ضمن البرنامج الحكومي.
إلى جانب كل ذلك، يبقى الامتحان الأكبر أمام حكومة ميلوني متمثلا في معالجة الوضع الاقتصادي المتردي منذ سنوات، والذي كانت وعودها الانتخابية بالخروج منه أحد الأسباب الرئيسية لفوزها. وهذا، فضلاً عن أدائها في استخدام الأرصدة الضخمة المخصصة لإيطاليا من صندوق الإنعاش الأوروبي، التي تشكّل فرصة تاريخية فريدة لإجراء الإصلاحات المنتظرة منذ عقود، والتي تتعثّر دائماً في مسالك السياسة الإيطالية المعقدة.



لبنان: تدابير سياسية ــ عسكرية لتجنب جولة جديدة من الحرب

جنود قرب مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان خلال عملية تسليم مجموعات فلسطينية سلاحها للجيش اللبناني يوم 13 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)
جنود قرب مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان خلال عملية تسليم مجموعات فلسطينية سلاحها للجيش اللبناني يوم 13 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)
TT

لبنان: تدابير سياسية ــ عسكرية لتجنب جولة جديدة من الحرب

جنود قرب مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان خلال عملية تسليم مجموعات فلسطينية سلاحها للجيش اللبناني يوم 13 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)
جنود قرب مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان خلال عملية تسليم مجموعات فلسطينية سلاحها للجيش اللبناني يوم 13 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)

نجح لبنان الرسمي، إلى حد كبير، نتيجة التدابير السياسية والعسكرية التي اتخذها في الفترة الماضية، في وقف، أو «فرملة»، التصعيد الإسرائيلي الذي كان مرتقباً قبل نهاية العام، رداً على ما تقول تل أبيب إنها محاولات من قبل «حزب الله» لإعادة ترميم قدراته العسكرية. وتلعب واشنطن، راهناً، دوراً أساسياً في الضغط على إسرائيل لإعطاء فرصة للمسار السياسي - الدبلوماسي الذي انطلق مؤخراً مع موافقة الدولة اللبنانية على تطعيم الوفد الذي يفاوض في إطار لجنة وقف النار (الميكانيزم) بشخصية مدنية.

عُقدت يوم الجمعة، جولة ثانية من مفاوضات مدنية بين لبنان وإسرائيل، هي الأولى من نوعها منذ 40 عاماً، بعد انضمام السفير اللبناني السابق سيمون كرم، والمدير الأعلى للسياسة الخارجية في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي يوري رسنيك، إلى المستشارة الأميركية مورغان أورتاغوس، لاجتماعات لجنة الإشراف على تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية (الميكانيزم)، مشاركين مدنيين إلى جانب العسكريين.

ويطمح لبنان الرسمي أن تؤدي هذه المفاوضات لتنفيذ مطالبه بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي لا تزال تحتلها، وتحرير الأسرى المحتجزين لديها، ووقف اعتداءاتها وخروقاتها للسيادة اللبنانية، فيما بدا لافتاً حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن نيته أن يؤدي هذا المسار التفاوضي إلى تعاون اقتصادي مع لبنان.

استراتيجية عسكرية جديدة

وبدا واضحاً مؤخراً أنّ قيادة الجيش اللبناني تنتهج استراتيجية جديدة في إدارة المرحلة، تسعى من خلالها للتأكيد أنها تنفّذ كامل مهامها جنوب نهر الليطاني، بعكس ما يروج له الإسرائيليون عن تلكؤ وتباطؤ في هذا المجال. وفي هذا الإطار، نظّم الجيش جولة أولى للإعلاميين المحليين والأجانب، تلتها جولة مماثلة للسفراء والدبلوماسيين الأجانب إلى منطقة جنوب الليطاني، للاطلاع من كثب على ما تم إنجازه على الأرض. ويهدف الجيش من خلال هذه الخطوات إلى كسب الرأي العام الدولي إلى صفّه، وإحراج إسرائيل التي ترفض تقديم أي تنازل لملاقاة التنازلات اللبنانية المتتالية.

وأسهمت موافقة الجيش اللبناني على تفعيل مهامه جنوب نهر الليطاني، بما في ذلك تفتيش بعض المنازل التي حدّدتها لجنة «الميكانيزم»، في دعم مسار التهدئة القائم وقطع الطريق على الحجج والمبررات الإسرائيلية لتوجيه ضربة عسكرية جديدة وواسعة داخل لبنان.

وانتقد مقربون من «حزب الله» إجراءات الجيش الأخيرة، واعتبروا أن الموافقة على تفتيش منازل السكان «تنازل جديد يُقدم عليه لبنان وخضوع للإرادة والرغبة الإسرائيلية، ما سيستدعي مزيداً من الطلبات والشروط من قبل تل أبيب».

في المقابل، يعتبر الجيش أنه وبإجراءاته هذه، يجنّب أهل الجنوب مزيداً من القتل والدمار، خصوصاً بعد إلغاء إسرائيل مؤخراً ضربة جوية هددت بها لأحد المنازل بعد إقدام الجيش اللبناني على تفتيشه أكثر من مرة، للتأكد من خلوه من الأسلحة.

فرصة دبلوماسية

وبعدما كانت كل الأجواء الداخلية والخارجية ترجّح فرضية اندلاع حرب إسرائيلية جديدة مع «حزب الله» نهاية العام الحالي، أو مطلع العام الجديد، خصوصاً مع إعلان وزير الخارجية اللبناني، يوسف رجي، مؤخراً عن تحذيرات وصلت من جهات عربية ودولية تفيد بأن إسرائيل تحضّر لعملية عسكرية واسعة ضد لبنان، يتحدث مسؤولون لبنانيون الآن عن تمديد المهلة المعطاة للبنان لإنجاز مهمة حصرية السلاح على كامل الأراضي اللبنانية.

وفي هذا السياق، يشير النائب آلان عون إلى «فرصة أعطيت للمسار التفاوضي الذي أطلقه رئيس الجمهورية عبر السفير سيمون كرم، لعلّه يحقّق تقدّماً في ملف السلاح من جهة والمطالب اللبنانية من جهة أخرى، إلا أن لا أحد يمكنه أن يضمن أن فترة السماح هذه ستدوم طويلاً، ما يبقي لبنان تحت خطر مرحلة تصعيد وجولة عنف أخرى لتحقيق مكتسبات أو فرض تنازلات لم تحققها المفاوضات». ويلفت عون في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «الأميركيين كانوا وراء الفرصة الدبلوماسية الجديدة، وهم من ضغطوا على الطرف الإسرائيلي للتجاوب مع دعوة رئيس الجمهورية (جوزيف عون) إلى التفاوض. وجاء تعيين (السفير) كرم في هذا السياق». ويضيف: «لكن رعايتهم لمسار التفاوض الذي يتناسب مع الرغبة اللبنانية، لا يلغي تأييدهم الكامل لإسرائيل وخطواتها في حال فشل المفاوضات وعودة التصعيد».

ويعتبر النائب عون أن «موقع لبنان التفاوضي صعب جداً، ولذلك يجب أن تكون استراتيجية التفاوض قائمة على مبدأ الاتفاق وفق (السلّة الكاملة) التي ترضي الطرفين، ولو تطلّب الحلّ جدولة مراحل لتنفيذه على غرار اتفاق غزة، لأن لبنان، للأسف، عاجز عن فرض أي شروط وتنازلات جزئية في ظلّ الخلل الفادح بميزان القوى».

خلاف أميركي - إسرائيلي

ويذهب دبلوماسيون سابقون أبعد في مقاربة ما يجري، معتبرين أنّ التطورات تندرج في إطار «كباش» أميركي - إسرائيلي؛ فبينما تسعى واشنطن وإدارة الرئيس دونالد ترمب إلى تثبيت الاستقرار في المنطقة، تفضّل إسرائيل مواصلة عملها العسكري لتحقيق أهدافها.

ويرى السفير اللبناني السابق في واشنطن رياض طبارة، أن «لبنان ليس لاعباً أساسياً في المشهد الحالي، لذلك تراه يتجاوب مع التحركات الخارجية المتعارضة على قدر المستطاع، وقد تفهمت واشنطن الموقف اللبناني الذي ينسجم مع المثل القائل (العين بصيرة واليد قصيرة)».

ويعتبر طبارة في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «لبنان الرسمي وبالقرارات والإجراءات الأخيرة التي اتخذها يسير على الطريق الصحيح بمواكبة التطورات»، مستبعداً «جولة حرب إسرائيلية جديدة في ظل وجود (فيتو) أميركي واضح يتصدى لمثل هذا السيناريو». ويضيف: «الخلافات طفت إلى السطح بين ترمب ونتنياهو؛ فالأول يريد السلام في أوكرانيا والشرق الأوسط، فيما يعتبر الثاني أن هناك فرصة للتوسع باتجاه إسرائيل الكبرى ويعمل لمواصلة ضرباته لـ(حزب الله)».

ويشير طبارة إلى أن «اللوبي الإسرائيلي في أميركا يعيش حالة تضعضع وانقسام حول دور إسرائيل في العالم، وهو ما تجده الإدارة الأميركية الحالية فرصة لممارسة ضغط غير مسبوق على إسرائيل»، متوقعاً «لقاء حامياً مرتقباً بين ترمب ونتنياهو الذي تم استدعاؤه لإبلاغه بخطوط حمراء، وأبرزها خط أساسي يقول بتفادي الوصول إلى حرب مفتوحة».

كما يرى طبارة أن «إسرائيل أصلاً مرتاحة للواقع الراهن، بحيث إنها تستهدف من تشاء، وما تشاء، عندما تريد وأينما تريد، ما يعزز فرضية استمرار مرحلة الستاتيكو (الجمود) المتواصلة منذ اتفاق وقف النار في نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي».

ويلتقي ترمب نتنياهو في فلوريدا بالولايات المتحدة يوم 29 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. وفيما يتصدر ملف غزة والانتقال إلى تطبيق المراحل اللاحقة من الاتفاق المرتبط بالقطاع، يحضر الملف اللبناني إلى جانب الملف السوري والعلاقة مع إيران بقوة على طاولة الاجتماع.

ويأمل المسؤولون اللبنانيون في أن يواصل ترمب ضغوطه على نتنياهو لتجنيب لبنان جولة جديدة من العنف، وإن كانوا يرون أن تل أبيب ستواصل عملياتها العسكرية التي تتركز على عمليات اغتيال عناصر ومسؤولين في «حزب الله».

تشدد «حزب الله»

ووسط كل هذه التطورات، يواصل «حزب الله» تشدده في التعامل مع ملف سلاحه شمال نهر الليطاني، بحيث خرج أمينه العام الشيخ نعيم قاسم مؤخراً، ليقول: «سندافع عن أنفسنا حتى لو أُطبقت السماء على الأرض. لن يُنزع السلاح تحقيقاً لهدف إسرائيل، ولو اجتمعت الدنيا بحربها على لبنان. افهموا جيداً: الأرض والسلاح والروح خلطة واحدة متماسكة. أيّ واحد تريدون نزعه أو تمسّون به، يعني أنّكم تمسّون بالثلاثة وتريدون نزعها، وهذا إعدام لوجودنا، ولن نسمح لكم بذلك، ولن يكون هذا».

ويرى أستاذ القانون والسياسات الخارجية في باريس الدكتور محيي الدين الشحيمي، أن «لبنان محاصر بين احتلالين: الأول؛ احتلال (حزب الله)، رغم هزيمته في الحرب، واستمراره في عرقلة كل الخطوات التي تقوم بها السلطة في لبنان للوصول إلى مفهوم الدولة الحقيقي والدستوري. أما الاحتلال الثاني؛ فهو الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني الذي أتى نتيجة مباشرة لدخول الحزب والممانعة بالحرب بطريقة غير شرعية ودستورية، مع استمرار الكيان الإسرائيلي بالغلو وإبراز تفوقه».

ويعتبر الشحيمي في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الدولة اللبنانية المتمثلة بالعهد الحالي، تعمل بجهد كبير بين ألغام الداخل الممانع وضغوطات الخارج الملحة، بحيث تنكب سلطتها التنفيذية بثنائية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على تجنيب لبنان المآسي والحرب، حيث كان لتعيين السفير الأسبق سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني في (الميكانيزم) صدى إيجابي محلياً ودولياً»، لافتاً إلى أن «هذه الخطوة وضعت لبنان على سكة الدولة الراشدة والمتكلمة عن نفسها، وهو ما كان يطلب منها في الأروقة الدولية كأي شرط طبيعي في ملف المفاوضات، ذلك أن وجود شخصية مدنية سياسية تتسلم زمام الأمر اللبناني التنفيذي ضمن الأطر الاتفاقية، جنّب لبنان الاستهدافات الإسرائيلية للبنية الحيوية الرسمية والحكومية، وهو ما تجهد عناصر دول العالم الصديقة المولجة مساعدة لبنان على تثبيته وتأمينه، خصوصاً في واشنطن وباريس».

ويرى الشحيمي أن «استمرار (حزب الله)، في المقابل، بتعنته وتمسكه بالسلاح وتفريقه بين شمال الليطاني وجنوبه (...) هو إعلان صريح بخرقه اتفاق نوفمبر 2024، الذي وضع أسس ومراحل تنفيذ وقف إطلاق النار، وهذا ما يضع لبنان من جديد تحت رحمة الاستهدافات الإسرائيلية من بوابة استهداف الحزب الذي يبرهن عن نفسه كل يوم في كونه أداة إيرانية بعناصر لبنانية على الأرض اللبنانية؛ يُطبّق وصايا الحرس الثوري لأهداف غير لبنانية».

طروحات مقلقة

ويفترض أن ينجز الجيش اللبناني مهمة حصرية السلاح جنوب نهر الليطاني، أي على الحدود مع إسرائيل، نهاية العام الحالي، ويقدّم قائده العماد رودولف هيكل، تقريره الثالث عما تم تحقيقه حتى الساعة، ليفتح بذلك باب النقاش واسعاً على كيفية تطبيق مندرجات قرار مجلس الوزراء بملف السلاح شمال نهر الليطاني، في ظل رفض «حزب الله» التام التعاون وتسليم السلاح في هذه المنطقة.

وتخشى قوى لبنانية معارضة لـ«حزب الله» طروحات يتم التداول بها علناً، وأخرى خلف الأبواب المغلقة بخصوص حل أزمة سلاح الحزب، على غرار إبقاء السلاح المتوسط والخفيف الذي لا يهدد أمن إسرائيل، بيد عناصر الحزب، وكذلك إعطاء الحزب مكاسب سياسية على حساب أطراف أخرى من أجل إقناعه بأن يوافق على تسليم سلاحه. وكان موقف المبعوث الأميركي توم برّاك، الذي اعتبر فيه أنه «ليس من الضَّروري نزعُ سلاح (حزب الله)، إنما منع استعماله»، قد فاقم هذه الهواجس.


خوسيه أنطونيو كاست... «بينوشيه جديد» في تشيلي بصناديق الاقتراع

خوسيه أنطونيو كاست... «بينوشيه جديد» في تشيلي بصناديق الاقتراع
TT

خوسيه أنطونيو كاست... «بينوشيه جديد» في تشيلي بصناديق الاقتراع

خوسيه أنطونيو كاست... «بينوشيه جديد» في تشيلي بصناديق الاقتراع

بعد 35 عاماً على سقوط نظام الجنرال أوغوستو بينوشيه، قرر التشيليون، يوم الأحد الفائت، بأغلبية ساحقة، اختيار أحد أنصاره رئيساً جديداً لهم، في انتخابات مُنيت فيها القوى اليسارية بأقسى هزيمة منذ عودة النظام الديمقراطي في عام 1990. الرئيس الجديد، خوسيه أنطونيو كاست، مولود في العاصمة سانتياغو منذ 59 عاماً من أسرة ألمانية هاجرت إلى تشيلي بطريقة غير شرعية في نهاية الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها والده جندياً في الجيش النازي. يشكّل وصول كاست إلى رئاسة تشيلي التي تنعم بنسبة عالية من الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي في محيطها الإقليمي المضطرب، خطوة متقدمة في الاستدارة اليمينية لأنظمة الحكم في أميركا اللاتينية التي تحظى باهتمام خاص من الإدارة الحالية في الولايات المتحدة. سارعت إدارة الرئيس دونالد ترمب إلى تهنئة الرئيس المنتخب، معربة عن استعدادها لفتح صفحة جديدة من التعاون معه.

في سبتمبر (أيلول) 1988 ذهب التشيليون إلى صناديق الاقتراع في استفتاء شعبي حول بقاء الجنرال بينوشيه في الحكم أو رحيله. سبقت الاستفتاء حملة واسعة شارك فيها أنصاره ومعارضوه في أنحاء البلاد، وبخاصة في الأوساط الطلابية التي كانت المعقل الرئيسي للقوى المعارضة، من أقصى اليسار إلى اليمين المحافظ والمعتدل. يومها برز بين القوى الطلابية المؤيدة لبقاء بينوشيه في الحكم، شاب في الثانية والعشرين من عمره، يدعى خوسيه أنطونيو كاست، يدرس الحقوق في جامعة سانتياغو الكاثوليكية، ويعتبر أن النظام العسكري الذي يقوده الجنرال، بعد انقلابه على حكومة الشيوعي سالفادور الليندي، هو «لصالح جيل الشباب، ومؤسس لمستقبل زاهر من الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي في تشيلي».

يومها كان ميغيل، الشقيق الأكبر لخوسيه أنطونيو، وزيراً غير مرة في حكومة بينوشيه الأولى وحاكماً للمصرف المركزي، وأحد أركان الدائرة الضيقة التي كانت تحيط بالجنرال وتسعى لبقائه في الحكم، رغم تنامي المعارضة الشعبية ضده وفقدانه للعديد من حلفائه الإقليميين والدوليين. كما أن شقيقاً آخر له، بين أشقائه التسعة، كان قد أدين في تحقيق حول اختفاء عشرات الطلاب والمزارعين وإعدام العديد منهم عام 1973.

بعد مرور أربعين عاماً تقريباً على تلك الحقبة، وصل خوسيه أنطونيو كاست إلى سدة الرئاسة ليقول في أول تصريح له بعد دقائق معدودات من تأكد فوزه مساء الأحد الفائت: «ما كان ليحصل الذي حصل لولا وجود الله معنا»، فيما كان أنصاره يهتفون للرئيس المنتخب الذي «أنقذهم من الشيوعية». في تلك الأثناء، كان الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، الحليف الإقليمي الأوثق للرئيس الأميركي دونالد ترمب، يعلن عن ابتهاجه بفوز من وصفه بالصديق، معتبراً فوزه «خطوة جديدة في المنطقة على طريق الدفاع عن الحياة والحرية والملكية الخاصة»، فيما كانت التهاني تنهال عليه من أقطاب اليمين المتطرف في أميركا اللاتينية وأوروبا.

لكن خلافاً للعديد من قادة القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة الذين تشكّل انتماؤهم العقائدي في كنف الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعيشها بلدانهم، وصعدت شعبيتهم من الرغبة العارمة في التغيير وعلى ركام الأحزاب التقليدية، يمكن القول إن كاست هو من «أنقياء» الآيديولوجيا اليمينية المتطرفة التي نهلها من مشاربها الأصلية منذ المراحل الأولى لنشاطه السياسي الذي بدأ بتربيته العائلية، ثم في مرحلة الدراسة الجامعية عندما انضمّ إلى حزب «الاتحاد الديمقراطي المستقل» الذي أنشأه خايمي غوزمان المنظّر العقائدي لنظام بينوشيه والذي اغتالته المعارضة عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ عام 1991، واستمرت لما يزيد على عشرين عاماً في صفوف ذلك الحزب حيث تولّى مناصب عديدة، منها أربع ولايات متتالية كعضو في البرلمان، قبل أن ينشقّ عنه في عام 2016 لاعتباره أن الحزب قد انحرف عن مشروعه الأصلي وتخلّى عن «المبادئ الأخلاقية» التي وضع أسسها الجنرال بينوشيه.

بعد عام واحد على انشقاقه عن «الاتحاد الديمقراطي المستقل»، قرر كاست خوض المعركة الرئاسية، فحصد في انتخابات عام 2017 فشلاً ذريعاً، إذ لم ينل سوى 8% من الأصوات، ليعلن أنه يؤمن بـ«الله والوطن والعائلة»، وأنه سيواصل مسيرته بعزم وإيمان، قائلاً: «لو كان الجنرال بينوشيه على قيد الحياة لكان صوّت لي». وبعد إعلان هزيمته في تلك الانتخابات، توجّه إلى السجن لزيارة ميغيل كراسنوف الذي كان القضاء قد أدانه بالحبس ألف عام (1000 عام) لارتكابه عشرات الجرائم ضد الإنسانية على عهد بينوشيه. وكان كاست، في حملته الانتخابية تلك، اقترح إغلاق الحدود البرية مع بوليفيا لوقف تدفق المخدرات، وتعيين مدرّس للتعليم الديني في المعاهد الرسمية، والعفو عن المعتقلين لأسباب تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان إبان الحكم العسكري.

في عام 2019، أسّس كاست «الحزب الجمهوري» عشيّة اندلاع موجة الاحتجاجات الشعبية والطلابية التي اجتاحت البلاد ضد النظام الليبرالي الجديد الذي كان بدأ يترسّخ في تشيلي. صارت تلك الاحتجاجات تُعرف لاحقاً بالانفجار الاجتماعي، وتصدّت لها الحكومة بقمع شديد أوقع عدداً من القتلى. وعندما أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية للمرة الثانية، في عام 2021، خاض حملته تحت عنوان «استعادة الأمن والنظام ومحاربة الانفجار الإجرامي». ورغم تضمين برنامجه عناوين مثل «اليمين الجديد» و«مواجهة الانهيار الآيديولوجي والمؤسسي»، أو مثل «استعادة دور الثقافة في الحياة العامة»، أعلن من غير مواربة معارضته لزواج المثليين والإجهاض، داعياً إلى إلغاء وزارة شؤون المرأة، والمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، معرباً في إحدى الندوات عن خشيته من أن «امرأة تتحول إلى رجل لتصبح فيما بعد كاهناً».

في الجولة الأولى من تلك الانتخابات، حلّ كاست في المرتبة الأولى حاصداً 28% من الأصوات، لكن في الجولة الثانية، ورغم جنوح خطابه نحو الاعتدال وطرح بعض الطروحات التوفيقية، خسر أمام مرشح اليسار الرئيس الحالي غابرييل بوريتش الذي قال له عندما هاتفه ليل الأحد الفائت للتهنئة: «سوف تشعر بوطأة الوحدة في السلطة». بعد هزيمته الثانية تولّى رئاسة «الشبكة السياسية للقيم»، وهي منظمة تضمّ سياسيين وناشطين يمينيين من أميركا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدة وأفريقيا، يعارضون الحركة النسائية الراديكالية والإجهاض والمساواة بين الأجناس الاجتماعية. وقبل أيام من مغادرته ذلك المنصب، صرّح قائلاً: « أولئك الذين يسخرون منّا في وسائل الإعلام ويصبّون علينا حقدهم في وسائل التواصل الاجتماعي، هم الذين يخافون منّا لأنهم يعرفون أننا لا نتراجع أو نستسلم في الدفاع عن مبادئنا وقيمنا».

من الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى هزيمته في محاولته الثانية للوصول إلى الرئاسة، كانت التعبئة الواسعة في صفوف النساء والطلاب، وذلك قبل أن يصبح الاقتراع إلزامياً بموجب القانون اعتباراً من السنة التالية. وقد حرص كاست في حملته الانتخابية الثالثة على عدم التعمّق في طروحاته الآيديولوجية المثيرة للجدل، مثل معارضة الإجهاض وزواج المثليين والدفاع عن النظام السابق (نظام بينوشيه)، الأمر الذي أثار بعض البلبلة في الوسط الديني المتزمت الذي ينتمي إليه ويناصره بقوة. وركّز، في المقابل، على ضرورة تشكيل حكومة طوارئ تتفرّغ في المرحلة الأولى من ولايته لمعالجة الأزمة الاقتصادية، والوضع الأمني، والهجرة، والنمو الاقتصادي المتباطئ منذ سنوات.

كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها فوز كاست في انتخابات الرئاسة التشيلية بعد ثلاثة عقود ونصف على رحيل الجنرال بينوشيه وفي خضمّ التحولات التي تعتمل في شبه القارة الأميركية اللاتينية التي تحوّلت، في غضون أشهر قليلة، إلى إحدى أولويات الإدارة الأميركية. هل تغيّرت الخريطة السياسية في تشيلي؟ هل انتهت المواجهة التقليدية بين أنصار النظام العسكري ومؤيدي الديمقراطية؟ أو بين جلادي ذلك النظام وضحاياه؟ أو هل أن وصول كاست إلى القصر الذي شهد مقتل، أو انتحار، سالفادور الليندي، ليس سوى النتيجة الحتمية لنهاية فصل سياسي ولفشل القوى والأحزاب التقليدية، اليسارية والوسطية واليمينية، في معالجة الأزمات التي بدأت تحاصر إحدى أنجح التجارب السياسية الحديثة في أميركا الجنوبية؟

الإجابة عن هذه التساؤلات لا بد من أن تنتظر تسلّم كاست مهامه أواسط مارس (آذار) المقبل حين سيعلن برنامج حكومته الذي على أساسه ستحدد القوى المعارضة موقفها من العهد الجديد وأساليب مواجهته، لا سيما أن الأصوات التي حملته إلى سدة الرئاسة في الجولة الثانية من الانتخابات، لا تعكس، على الأرجح، ما يتمتع به من تأييد حقيقي، بل هي مرآة للقوى الرافضة التجربة اليسارية الراهنة.

أميركا اللاتينية... اليسار يتراجع

> لم تكرر واشنطن في تشيلي ما فعلته في الانتخابات الرئاسية التي أجريت مؤخراً في هندوراس (لم تُعلن بعد نتائجها الرسمية). في هندوراس تدخلت الإدارة الأميركية مباشرة بشخص رئيسها دونالد ترمب الذي أعلن دعمه المرشح اليميني نصري عصفورة وهدد بعقوبات في حال عدم فوزه، وذهب إلى حد العفو عن الرئيس الأسبق الذي كان يقضي عقوبة بالسجن 45 في الولايات المتحدة بتهمة الاتجار بالمخدرات مع منظمات إجرامية. في المقابل، نأت واشنطن عن أي تدخل مباشر أو غير مباشر في انتخابات تشيلي. كان وراء ذلك سببان رئيسيان، على الأرجح. أولاً، لأنها كانت مرتاحة للنتيجة المتوقعة بفوز خوسيه أنطونيو كاست. وثانياً، لأنها تدرك مدى الحساسية التي يثيرها موضوع التدخل الأميركي في الشأن الداخلي لتشيلي نظراً لسوابق التاريخ غير البعيد، وخشية من ردة فعل معاكسة تقلب موازين القوى.لكن ذلك لم يكن حائلاً دون مسارعة الخارجية الأميركية إلى تهنئة الرئيس المنتخب، معربة عن استعدادها لفتح صفحة جديدة واسعة من التعاون مع تشيلي «من أجل ترسيخ الديمقراطية والأمن ومكافحة الهجرة غير الشرعية والإرهاب المنظم»، كما جاء في بيان رسمي أميركي. وكان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو قد أعرب عن أمله في أن تشيلي، بقيادة خوسيه أنطونيو كاست، «ستدفع باتجاه أولويات مشتركة بين البلدين».أكثر المهللين لفوز كاست كان الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي الذي قال إنها «خطوة إقليمية كبيرة على طريق الدفاع عن الحياة والحرية والملكية الخاصة في شبه القارة». وأضاف ميلي: «أشعر بسعادة غامرة لهذا الفوز الساحق الذي حققه صديقي كاست. إنني على يقين من أننا سنعمل يداً بيد كي نحرر أميركا اللاتينية من نير اشتراكية القرن الحادي والعشرين». وختم تصريحاته بنشره على وسائل التواصل الاجتماعي خريطة لأميركا الجنوبية والبلدان التي يعتبرها حليفة: تشيلي، الأرجنتين، باراغواي، البيرو والإكوادور، تحت عنوان «اليسار يتراجع والحرية تتقدم».وليس مستغرباً أن يكون رئيس الأرجنتين أكثر المهللين لفوز كاست، خاصة أن العلاقات بين البلدين اللذين يتقاسمان أكثر من خمسة آلاف كيلومتر من الحدود البرية تميّزت بعداء ظاهر بين ميلي والرئيس التشيلي غابرييل بوريتش منذ وصول الأول إلى الرئاسة. وأعرب ميلي عن استعداده للمباشرة فوراً بالعمل مع كاست من أجل مكافحة تجارة المخدرات والجريمة المنظمة عبر الوطنية. وكان كاست صرّح خلال الحملة الانتخابية بأنه يرى في ميلي مصدر إلهام ونموذجاً يحتذى لإنهاض اقتصاد تشيلي من ركوده.ولا شك في أن فوز كاست يعزز مطامح الرئيس دونالد ترمب في المنطقة، خاصة بعد الطوق الذي بدأ بفرضه منذ فترة حول النظام الفنزويلي ونشره عشرات القطع الحربية في منطقة الكاريبي تحت عنوان مكافحة الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات. وقد تهافت كل من رؤساء الإكوادور وبوليفيا والباراغواي على تهنئة كاست، معتبرين هم أيضاً أن فوزه يمهّد لبداية عصر جديد في أميركا اللاتينية.الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، ونظيرته المكسيكية كلاوديا شاينباوم، نوّها من جهتيهما بشفافية الانتخابات التشيلية وطابعها السلمي، فيما فاجأ الرئيس الكولومبي غوستافو بترو بتصريح ناري في تعليقه على النتائج قائلاً: «رياح الموت تهبّ من الجنوب والشمال... الفاشية تتقدم، ولن أمدّ يدي أبداً لمصافحة نازي أو ابن نازي. من المؤسف أن بينوشيه وصل بالعنف إلى السلطة، لكن من المؤسف أكثر أن الشعوب الآن هي التي تختار بينوشيه بإرادتها».


واشنطن تُخاطر بالتحوّل من حليف للاتحاد الأوروبي إلى خصم

الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي محاطاً بقادة أوروبيين ومفاوضين أميركيين في برلين يوم 15 ديسمبر 2025 (أ.ب)
الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي محاطاً بقادة أوروبيين ومفاوضين أميركيين في برلين يوم 15 ديسمبر 2025 (أ.ب)
TT

واشنطن تُخاطر بالتحوّل من حليف للاتحاد الأوروبي إلى خصم

الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي محاطاً بقادة أوروبيين ومفاوضين أميركيين في برلين يوم 15 ديسمبر 2025 (أ.ب)
الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي محاطاً بقادة أوروبيين ومفاوضين أميركيين في برلين يوم 15 ديسمبر 2025 (أ.ب)

شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في عهد دونالد ترمب، بولايته الثانية، تحوّلاً نوعياً وعميقاً، انتقلت فيه القارة الأوروبية من موقع الشريك الاستراتيجي التقليدي إلى هدف سياسي معلن في الخطاب الأميركي الجديد. لم يعد البيت الأبيض يقدّم الاتحاد الأوروبي بوصفه ركيزة للنظام الغربي، بل كعبءٍ حضاري وأمني واقتصادي يحتاج إلى «تصحيح» جذري في البنية والسياسات والقيادة. هذا التغيّر في الرؤية لم يبقَ حبيس اللغة الدبلوماسية، بل خرج في الأسابيع الأخيرة إلى العلن عبر تصريحات نارية من واشنطن وتسريبات لأخبار ووثائق أثارت قلق بروكسل.

لم يقتصر التحول في العلاقات الأميركية الأوروبية على تعديل في الأولويات الاستراتيجية، بل امتد ليلامس جوهر العلاقة، حتى أصبحت المجموعة الأوروبية تبدو وكأنها العدو الجديد الذي حّل محل العدو الروسي القديم. هذا ما يظهر من خلال اللهجة العدائية الجديدة التي تبنتها واشنطن تجاه بروكسل. الصدمة كانت شديدة حين صدر تقرير الأمن قومي الأميركي في ديسمبر (كانون الأول) 2025، وعُدّ الأكثر هجوماً تجاه أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة. لم تكتفِ الوثيقة بتقديم القارة العجوز على أنها فضاء هشّ يهدده «الانهيار الحضاري» بفعل أزمات الهجرة وتآكل السيادة الوطنية، بل ذهبت إلى حد اتهام منظومة الاتحاد الأوروبي بتقويض الدولة الوطنية، والتضييق على حرية التعبير. وبهذا، انتقل الخلاف من مستوى السياسات إلى مستوى تصوّر مختلف لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي المرغوب في الغرب.

تجلى العداء أيضاً في لغة غير مسبوقة استخدمها ترمب في المقابلات التلفزيونية والصحافية، ولا سيما في مقابلته مع الموقع الأميركي «بوليتيكو» التي أُذيعت في الثامن من ديسمبر 2025، إذ استخدم فيها عبارات قاسية وغير دبلوماسية لوصف الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه. وأضاف أن أوروبا تتجه في «اتجاه سيئ» وأن سياساتها الحالية في مجالات الهجرة والأمن تضعف القارة بدلاً من تعزيزها.

كما اتهم الرئيس الأميركي القادة الأوروبيين بأنهم «يتحدثون كثيراً ولا يقدمون حلولاً فعلية»، في إشارة واضحة إلى ما يعدّه ضعفاً في الاستجابة للأزمات الأمنية والاقتصادية. هدد ترمب أيضاً بالانسحاب من التزامات الدعم الأوروبي في حالات الطوارئ، مشيراً إلى أن بلاده لن تكون ملزمة بالوقوف إلى جانب أوروبا إذا واجهت تهديداً أمنياً، وهو تصريح وصفه الكثيرون بأنه تصعيد غير مسبوق في تاريخ العلاقات عبر الأطلسي، خاصة بين حلفاء تاريخيين. لكنها ليست المرة الأولى التي تهاجَم فيه المجموعة الأوروبية بهذه الحدّة، فقد سبق أن تبنّى نائب الرئيس الأميركي، جي. دي. فانس، نبرة ساخرة وقاسية تجاه الأوروبيين خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن» في فبراير (شباط) 2025، داعياً أوروبا إلى تحمل المزيد من الأعباء العسكرية في أوكرانيا والتوقف عن «العيش على نفقة» حلف «الناتو»، ومن ثمّ على نفقة الولايات المتحدة.

ردود فعل رسمية غاضبة

تصاعدت نبرة الغضب عند المسؤولين الأوروبيين، بعد مواقف الإدارة الأميركية الأخيرة، وقد تجلّى هذا الرفض في مواقف رسمية وشعبية. حيث انتقد أنطونيو كوستا (رئيس المجلس الأوروبي) الاستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة بشكل مباشر، مُندداً باتهامات «آيديولوجية» حول الرقابة و«الامّحاء الحضاري» لأوروبا. وحذّر من أي محاولة لـ«واشنطن للتدخل في الحياة السياسية الأوروبية» أو التأثير على اختيار الحكومات، مشدداً على أن العلاقات عبر الأطلسي قد «تغيّرت». أما جوزيب بوريل (الممثل الأعلى للشؤون الخارجية) فقد وصف كلام ترمب عن أوروبا «الضعيفة» و«المنحلة» بأنه قريب من «إعلان حرب سياسية». كما أدان بيدرو سانشيز، رئيس الوزراء الإسباني، تصريحات ترمب، قائلاً إن صعود «الترمبية» في جميع أنحاء العالم يمثل تهديداً للديمقراطية، وإن أوروبا يجب أن تظل موحدة في مواجهة هذه الهجمات. كما رفض المستشار الألماني فريدريش ميرتس الانتقادات الأميركية لضعف القادة الأوروبيين، مؤكداً أن ألمانيا لا تزال ملتزمة بحرية التعبير وأن النصائح الخارجية بشأن القيم الديمقراطية غير مرحب بها. وشدد على ضرورة أن تتحمل أوروبا مسؤولية أكبر عن الأمن. أما وزيرة خارجية بريطانيا، إيفيت كوبر، فأكدت أنه رغم خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي، فإن أوروبا تظهر «كقوة» وليس «كضعف»، مستشهدة بزيادة ميزانيات الدفاع والدعم الكبير لأوكرانيا.

وأشار مسؤولون آخرون في الاتحاد إلى أن الخطاب الأميركي أصبح «يتوافق مع رواية الكرملين» ويسعى للتشكيك في صمود الاتحاد. من جانب القوى الكبرى عدّت كل من باريس وبرلين هذا التحول الأميركي تأكيداً لضرورة «الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي» الذي طالما دافع عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وأكدت الحكومة الألمانية أن العديد من الانتقادات الأميركية تستند إلى «آيديولوجيا» لا تحليل استراتيجي.

الرأي العام الأوروبي مستاء

أما على المستوى الشعبي؛ فقد أظهرت بعض الاستطلاعات الأخيرة أن شريحة متزايدة من الأوروبيين أصبحت تنظر إلى الولايات المتحدة، تحديداً في ظل إدارة ترمب، بوصفها «خصماً» أو «عدواً محتملاً»، أكثر من كونها حليفاً موثوقاً. حيث تُظهر استطلاعات الرأي الأوروبية الحديثة تحوّلاً ملحوظاً في المزاج العام تجاه الولايات المتحدة، في ظل الانتقادات المتزايدة الصادرة عن إدارة ترمب بحق أوروبا. فبحسب دراسة للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، لم يعد نصف الأوروبيين ينظر إلى الولايات المتحدة بعدّها حليفاً تقليدياً كما كان الأمر في السابق، بل هي الآن شريك ضروري تحكمه المصالح أكثر مما تجمعه الثقة. وتؤكد استطلاعات «يورو نيوز» ومؤسسة «بيرتلسمان» هذا الاتجاه، إذ يرى نحو 49 في المائة من مواطني الاتحاد الأوروبي أن الولايات المتحدة لم تعد الحليف الأهم لبلدانهم، فيما تؤيد أغلبية واضحة انتهاج سياسة أوروبية أكثر استقلالاً عن واشنطن. كما تكشف بيانات معهد «يوغوف» عن تراجع حاد في الصورة الإيجابية للولايات المتحدة داخل عدد من الدول الأوروبية الكبرى، حيث لا تتجاوز نسبة الآراء الإيجابية ثلث السكان في دول مثل ألمانيا وفرنسا والدول الإسكندنافية. أما استطلاع «لو غران كونتينان» و«كلوستر 17» فيعكس بعداً عاطفياً أكثر حدّة، إذ عبّر أكثر من نصف المستطلَعين عن شعورهم بـ«الإذلال» إزاء السياسات والاتفاقات الأميركية الأخيرة، فيما أبدى سبعة من كل عشرة أوروبيين استعدادهم لمقاطعة المنتجات الأميركية، ورأى نحو 44 في المائة أن الرئيس الأميركي يمثل خصماً لأوروبا لا شريكاً لها. وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى تآكل متسارع في الثقة الشعبية الأوروبية بالشراكة عبر الأطلسي، وتنامي الدعوات إلى إعادة تعريف العلاقة مع الولايات المتحدة على أسس أكثر توازناً، تقوم على الندية والاستقلال الاستراتيجي، بدل الاعتماد التقليدي الذي طبع العلاقات بين الطرفين لعقود.

الملف الأوكراني ومحاولة تهميش الأوروبيين

شكّلت الحرب في أوكرانيا ميداناً عملياً لاختبار عمق التحوّل في النظرة الأميركية إلى أوروبا. فبينما ترى أوروبا أن الدفاع عن أوكرانيا هو دفاع عن أمنها، تميل الإدارة الأميركية إلى التعامل مع الحرب كملف يجب إغلاقه بأسرع وقت ممكن، حتى وإن تطلّب الأمر فرض تسوية تضر بمصالح كييف ودول المجموعة الأوروبية. في هذا السياق كشف تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية نشر في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم عن وجود «ميثاق سرّي» يُقال إن إدارة ترمب بصدّد بلورته بالتعاون مع روسيا، بهدف إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي وتمويل إعادة إعمار أوكرانيا. الخطّة، بحسب الصحيفة، أشبه باتفاق «المال مقابل السلام» ويهدف إلى إنهاء الصراع عبر صفقات اقتصادية ومالية، مع تقليل دور الأوروبيين، الذين تعدّهم واشنطن أطرافاً ثانوية.

ونشرت «وول ستريت جورنال» في تقريرها الذي حمل عنوان «كسب المال، لا الحرب، الخطة الحقيقية لترمب من أجل السلام في أوكرانيا»، تفاصيل اتفاق سرّي مزعوم بين مبعوث واشنطن رجل الأعمال ستيف ويتكوف والمكلف بالاستثمارات الروسية الخارجية كيريل ديمترييف، الذي من المتوقع أن يعتمد على أكثر من 200 مليار يورو من الأصول الروسية المُجمّدة في أوروبا، معظمها في بلجيكا وفرنسا لتسهيل صفقات اقتصادية ضخمة، الهدف منها إعادة إنعاش الاقتصاد الروسي وإمضاء عقود استثمارات أميركية ضخمة في قطاعات استراتيجية روسية. في المقابل، يُنظر في قرض تعويضات بقيمة 45 مليار يورو لأوكرانيا، يتم تمويله من فوائد الأصول الروسية المجمّدة. الأهم هو أن شركات أميركية كبيرة ستستفيد من هذا الاتفاق مثل إكسون موبيل التي ستحصل على حصص في مشاريع طاقة استراتيجية روسية، مثل استخراج الأتربة النادرة، والتنقيب عن النفط في القطب الشمالي. وتشمل المشاريع أيضاً بناء مراكز بيانات ضخمة في أوكرانيا، منها مركز للمعلوماتية في زاباروجيا يعمل بالطاقة النووية.

المخاوف الأوروبية

تسريب تفاصيل هذه الخطّة أثار قلق القادة الأوروبيين، خصوصاً أن هذا المخطّط سيعزز من تعافي روسيا اقتصادياً ويُضعف الاتحاد الأوروبي. كما أن الكشف عن هذه الخطة قد أثار أزمة دبلوماسية مع واشنطن، إذ يرى الأوروبيون أنهم مُهمَّشون تماماً من الصفقة، وأن واشنطن تتعامل مع الأمر وكأنه شأن أميركي - روسي خالص. حيث حذّر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، في كلمة تناقلتها وسائل الأعلام الأوروبية بإسهاب، من أن أي تسوية للحرب في أوكرانيا تسمح لروسيا بإعادة بناء قدراتها العسكرية ستشكّل تهديداً مباشراً لأمن أوروبا. وأكد أن سلاماً لا يقيّد الطموحات الروسية ولا يضمن سيادة أوكرانيا سيكون مجرد هدنة مؤقتة تمهّد لمواجهة جديدة، داعياً الأوروبيين إلى تعزيز قدراتهم الدفاعية والحفاظ على وحدة الصف الأطلسي لمواجهة المخاطر المقبلة.

كما أبدت كايا كالاس، الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، قلقها من أن الخطة الأميركية التي يجري إعدادها، دون مشاركة فعالة من أوروبا أو أوكرانيا، قد تعوق الجهود الدبلوماسية المشتركة وتضعّف موقع الاتحاد الأوروبي في مفاوضات السلام المُرتقبة.

اعتراضات قانونية

كما تواجه الخطة الأميركية الهادفة إلى توظيف الأصول الروسية المجمدة في البنوك الأوروبية لدعم أوكرانيا اعتراضات قانونية متزايدة داخل عدد من دول الاتحاد الأوروبي وبالأخص من قبل فرنسا وألمانيا.

جوهر الإشكال يكمن في أن تجميد الأصول لا يعني قانونياً مصادرتها. فالقوانين الدولية والأوروبية تميّز بوضوح بين إجراء احترازي مؤقت يمنع التصرف في الأموال، وبين نزع الملكية أو تحويلها إلى طرف ثالث، وهو ما يتطلب أساساً تشريعياً أو قضائياً صريحاً. كما تصطدم الخطة بمبدأ الحصانة السيادية للدول، الذي يحمي أصول الدول والبنوك المركزية من المصادرة، حتى في حالات النزاع. وتخشى عدة عواصم أوروبية أن يشكّل تجاوز هذا المبدأ سابقة خطيرة قد تقوّض الثقة في النظام المالي الأوروبي وتعرّض أصولها السيادية مستقبلاً لمخاطر مماثلة. اضافة إلى ذلك، تبرز قيود قانونية وتقنية على المؤسسات التي تحتفظ بهذه الأصول، مثل شركات الإيداع المالي، والتي تلتزم بقوانين صارمة تمنعها من استخدام الأموال أو تحويلها دون غطاء قانوني واضح، تفادياً للمساءلة القضائية.

محاولات أميركية لتفكيك الاتحاد من الداخل

وما يزيد من قلق العواصم الأوروبية هو الشكوك المتنامية حول وجود أجندة موازية سرية للإدارة الأميركية تهدف إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي. فبحسب ما أورد موقع «ديفنس وان» الأميركي المتخصّص في الشؤون الدفاعية، فإن النسخة غير المنشورة من الاستراتيجية الوطنية للأمن القومي تتضمن توجيهات تُركّز على تعزيز العلاقات الثنائية مع أربع دول أوروبية هي النمسا، وإيطاليا، والمجر، وبولندا. وتكشف الوثيقة، تحت شعار مستحدث هو «لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى»، عن دعوة كرّستها الإدارة الحالية، تقضي بـ«سحب» هذه الدول بعيداً عن تأثير الاتحاد الأوروبي وتقريبها من واشنطن، مستغلةً النزعات القومية والشعبوية الصاعدة في هذه الدول التي يُنظر إليها على أنها الأكثر استعداداً لتبني خطاب يتناغم مع خطاب ترمب، بشكل أفضل، مع الإشارة تحديداً إلى إيطاليا. تنظر بروكسل إلى هذا المخطط على أنه محاولة لتقويض الوحدة الأوروبية من خلال دعم التيارات المناهضة للاندماج الأوروبي. حيث يتحوّل الخلاف عبر الأطلسي إلى عامل من عوامل التفكك الداخلي في الاتحاد، بدلاً من أن يكون حافزاً لتماسكه كما كان الحال خلال الحرب الباردة. وإذا استمر الخطاب الأميركي في التعامل مع أوروبا بوصفها «شريكاً فاشلاً»، فإن الفجوة عبر الأطلسي ستتسع، وربما تتحول إلى شرخ بنيوي، بحسب ما ترى بروكسل.

التركيز الأميركي ينصبّ على إيطاليا... فما السبب؟

تركز واشنطن مساعيها الأوروبية حالياً على إيطاليا، نظراً لعدة عوامل استراتيجية وسياسية. فهناك أولاً موقعها الجغرافي والسياسي داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تعد واحدة من الدول الكبرى من حيث عدد السكان والاقتصاد داخل الاتحاد. لذلك فإن أي تغيّر في موقفها تجاه بروكسل يمكن أن يؤدّي إلى ارتدادات مهمة في السياسة الأوروبية، إضافة إلى التقارب الآيديولوجي بين بعض قطاعات السلطة الإيطالية والإدارة الأميركية الحالية، حيث تظهر العلاقات بين روما وواشنطن، لا سيما بين قادة سياسيين في إيطاليا وحلفاء في الولايات المتحدة، انسجاماً في عدد من القضايا، حيث يوجد بشكل واضح تقارب آيديولوجي بين حزب «إخوة إيطاليا» الذي تتزعمه رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، والقيم السياسية التي يروّج لها دونالد ترمب. ويقوم هذا التقاطع أساساً على خطابٍ محافظ يركّز على السيادة الوطنية، ورفض توسيع صلاحيات المؤسسات فوق الوطنية، إضافة إلى التشديد على ضبط الهجرة والدفاع عما يُسمّى «الهوية الثقافية» و«القيم التقليدية». كما يشترك الطرفان في نظرة نقدية تجاه النخب الليبرالية والمؤسسات البيروقراطية، سواء في بروكسل أو في واشنطن، عادّين أن هذه النخب ابتعدت عن هموم الطبقات الشعبية. كل هذا يعزّز رغبة واشنطن في استخدام إيطاليا بوصفها نموذجاً لشراكة ليست مؤسسية فقط، بل آيديولوجية أيضاً. وقد تكون الظروف الداخلية في أوروبا بين الولاء المؤسسي للاتحاد ورغبات قومية أكثر استقلالية، كما هو الوضع في إيطاليا، هي فرصة لواشنطن لتعزيز قواسم مشتركة مع قادة إيطاليين حول «السيادة الوطنية»، فلئن كانت جورجيا ميلوني قد حاولت تحقيق نوع من التوازن بين ولائها لبروكسل وواشنطن، فإن شخصيات أخرى قريبة منها، كماتيو سالفيني، لم تتردّد في التعبير عن الإعجاب بالرئيس الأميركي، حيث صرّح سالفيني، عقب فوز ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية نهاية العام الماضي، بأنه سيرتدي ربطة عنق حمراء طوال أربع سنوات، تعبيراً عن تقديره واحترامه لسيد البيت الأبيض الجديد.