بيدرو مارتينيز مونتابيث... غيّر الصورة النمطية عن العرب في الغرب

رحيل «المستعرب» الإسباني عاشق اللغة العربية

بيدرو مارتينيز مونتابيث
بيدرو مارتينيز مونتابيث
TT

بيدرو مارتينيز مونتابيث... غيّر الصورة النمطية عن العرب في الغرب

بيدرو مارتينيز مونتابيث
بيدرو مارتينيز مونتابيث

ودّع المستعرب الإسباني بيدرو مارتينيز مونتابيث، عاشق اللغة العربية، الذي شغف بالعرب ولغتهم وتاريخهم منذ صباه، في صبيحة يوم 14 فبراير الحالي، عالمنا عن عمر 89 عاماً.
اختفى ذلك الصوت الذي كان يدافع بحماس عن إبراز «أهمية الأندلس ورمزه» بوصفه كياناً فريداً من نوعه في الفضاء العربي والإسلامي، كما يقول، واكتشف آفاقاً أخرى كانت خافية على العرب أنفسهم: فردوس الأندلس.
حفر بعيداً في دراساته الاستشراقية، من دون أن يقع في القوالب النمطية السائدة، بل على العكس من ذلك قدَّم نموذجاً لفهم العالم العربي والإسلامي، وأزال الغشاوة عن عيون الغرب في رؤية تراثنا من خلال اكتشافه الثروة الهائلة الكامنة في الحب لكل ما هو أسباني وعربي مشترك، وكان يفضّل الحديث باللغة العربية التي تعلّمها في تطوان والقاهرة وبغداد؛ لأنه «عشق سحر كلماتها ونكهة حروفها». ترك المستعرب الراحل وراءه إرثاً كبيراً ليس من الكتب والمراجع، بل من البصمة الإنسانية التي غلفت حروفه، وجِدّيته في فهم العرب ومعارفهم.
ولكل هذا، كان لرحيله صدى كبير، وخصوصاً في الأوساط الجامعية التي احتفت ببحوثه وأعماله، فقد جاء النعي الأول من جامعة مدريد المستقلّة التي عمل فيها لسنوات، وكذلك من جامعة جيان الإسبانية التي قلّدته الدكتوراه الفخرية في 2003، بناء على اقتراح من قسم اللغات والثقافات المتوسطية؛ تقديراً لعمله الأكاديمي.
تتراوح جهوده بين ترجمة الشعر العربي ودراسته والتعريف به على نطاق البلدان الناطقة باللغة الإسبانية، والتعمّق في دراسة علاقة العرب بالبحر الأبيض المتوسط، ومعاني الأندلس ورموزها، وشعر المقاومة الفلسطينية، كما عرَّف بكبار الكُتّاب والشعراء العرب، ونقل آثارهم إلى اللغة الإسبانية؛ من أمثال نجيب محفوظ، ونزار قباني، ومحمود درويش، وفدوى طوقان، وسعدي يوسف، وصلاح عبد الصبور، وجبران، والسيّاب، والبياتي، وأدونيس، وغيرهم، وشارك في عدد من اللجان العلمية والثقافية العربية وجمعية الصداقة العربية الإسبانية، وحلقات الحوار بين الثقافتين. وبإيجاز، قدَّم خريطة الأدب العربي في اللغة الإسبانية.
في مقابل ذلك انهالت عليه التكريمات والجوائز الأدبية من الجامعات والأكاديميات من أنحاء العالم، نذكر منها جامعة المعتمد بن عباد في أصيلة، وجامعة جيان، وجامعة مدريد المستقلة، ومن الجوائز: جائزة القدس، وجائزة الشيخ زايد شخصية العام الثقافية، والميدالية الذهبية للأندلس، وغيرها الكثير.
التقيتُ المستعربَ الإسباني الراحل مونتابيث مرتين؛ أولاهما في أصيلة في 1985 أو 1986 ضمن مهرجانها، وفي أبوظبي في 2009 أثناء منحه جائزة الشيخ زايد لشخصية العام.
في اللقاء الأول رافقته إلى زيارة طنجة، التي اعتبرها المنفى الذهبي لعدد من الكتّاب والفنانين، إذ تحدَّثنا عن بول باولز وزوجته جين، وهنري ماتيس، ويوجين ديلاكروا، وبوريس جيسان، ورولان بارت، وجان جينيه، وتينسي وليامز، ومحمد شكري، ومحمد مرابط، الذين تركوا بصماتهم على هذه المدينة وتاريخها. جلسنا في فندق «المنزة» المطل على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وتذكّر بحنين الماضي العربي الغابر في قرطبة وغرناطة وأشبيليه... أيْ روح الأندلس، إذ ظلت عبارته عالقة في ذهني: «إنني أفضِّل أندلس الحوار على أندلس الحنين»ـ فقد وُلد المستعرب الراحل بالأندلس في قرية صغيرة اسمها شودر، وهو يدرك جيداً أن «كل إنسان يولَد في الأندلس يحمل في أعماقه بذور الحضارة العربية...».
تكمن أهمية ما قام به في التعريف بالأدب العربي وترجمته؛ ليس من الناحية التسجيلية فحسب، بل الجمالية باعتبارها تجربة شخصية وجماعية.
من المعروف أن الأدب العربي المعاصر في الخمسينيات والستينيات كان مجهولاً لدى الغرب، من كان يكتب عن الأدب العربي أو العالم العربي آنذاك قلة قليلة. وفاجأني بقوله: «تصوَّرْ أن القراء الإسبان عندما قرأوا رواية الياطر لحنا مينا، دهشوا لوجود بحر في العالم العربي؛ لأن العرب في أذهانهم هم سكان الصحراء وأصحاب الجِمال». وأضاف: «لماذا؟ لأن الإنسان الغربي يجمع بين كلمة العرب والصحراء بكل سهولة. لو سألت، على سبيل المثال، طالباً جامعياً في إسبانيا عن ذكر أسماء المدن التي تطل على البحر المتوسط، فإنه لا يذكر أبداً اسم أية مدينة عربية؛ لأنهم يذكرون مدن الشمال وليس الجنوب».
المستعرب الراحل، من خلال ترجماته الجادة، غيّر هذه الصورة النمطية وغيرها من الصور التي اعتادها الغرب، لكن هذا التغيير جاء بطيئاً. والأسباب معروفة؛ «لأن ما يمثل العرب في أذهانهم هو البترول والإرهاب؛ وذلك بسبب وسائل الإعلام الغربية التي تعمل على تشويه هذه الصورة».
لكن المستعرب الراحل تساءل عن الجوهري في هذا الأمر؛ وهو: «كيف يكافح العرب هذا النفوذ الإعلامي الخاطئ... ولا يوجد حل سحري آخر سوى ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية، كردّ حاسم على ذلك. ما ينقله الغرب أحياناً هو ما ينقله العالم العربي؛ ذلك لأن معظم الصور العالقة في الذهن الغربي شكلية ولا تمثل حقيقة الحياة اليومية، ولا الروح النابضة في أعماق هذه الشعوب. لهذا قلت في نفسي إنه من واجبي أن أقوم بتعريف العالم العربي للقراء الغربيين، لذا تركت الدراسات التاريخية والعصور الوسطى، ودخلت الحاضر؛ أي ترجمة الأدب العربي المعاصر».
سألته عن أبرز شاعر عربي عرفه وأحبَّ ترجمته إلى الإسبانية، أجابني: «أجيبك، بلا تردد: بدر شاكر السيّاب أعظم شاعر ترجمته إلى الإسبانية، رغم صعوبة شعره؛ لأنه يتميز بالتكثيف. أما ترجمة الشعراء الآخرين: عبد الوهاب البياتي، ومحمود درويش، ونزار قباني، وغيرهم، فلا تصعب ترجمتهم. هنا لا أتكلم عن القيمة الشعرية لأولئك الشعراء، بل عن ترجمة نصوصهم وما يواجهني فيها من صعوبات».
أتذكّر كتابه القيم «الأدب العراقي المعاصر»، الذي صدر في مدريد وطُبع مرتين، وهو كتاب ضخم، في ستمائة صفحة، يتضمن إنتاج الأدباء العراقيين منذ مطلع القرن العشرين حتى الآن، لكنني اندهشت، وفرحت، في آن واحد، حين عثرت على اسم الكاتب علي الوردي الذي صنّفه مونتابيث بوصفه واحداً من أهم الأدباء العراقيين.
عاش المستعرب الراحل مونتابيث ليس مع اللغة، بل مع الواقع العربي منذ الخمسينيات والستينيات إلى آخِر لحظات حياته. عاش في تطوان لعامين، والقاهرة لست سنوات في المركز الثقافي الإسباني ودرس العربية وكتب أطروحته «عن العصر المملوكي». وهكذا توالت كتبه المهمة؛ مثل كتابه «الموضوعات الأندلسية في الأدب العربي المعاصر»؛ أي لجوء الشعراء العرب إلى المدن الأندلسية وتناول آثارها واستخدام رموزها.
يقول المستعرب الراحل: «أخبرني الطاهر بن جلون، ذات مرة، أنه كتب عن غرناطة، وتحدَّث عن الصراعات الداخلية التي وقعت في الأندلس، وقارن بين ما وقع في فترة ملوك الطوائف، وما يقع حالياً في العالم العربي! وكأن الصورة نفسها تتكرر».
لم ينقطع المستعرب الراحل عن دراسة العالم العربي وأدبه، وهو القائل: «في الغرب، لا تزال فكرة التفوق الأخلاقي على العالم العربي هي السائدة». وظلّ إلى آخِر ساعاته يكافح ضد هذه الفكرة وتداعياتها من خلال حسه النقدي الملتزم بالموضوعية، كما لم يتوقف عن إقامة الحلقات والدراسات، مؤسساً «دائرة الثقافات العربية الإسبانية» في 2016 التي يَعتبر فيها نفسه عضواً فحرياً.
إنه آخِر المستعربين الإسبان العظام ممن يمتلك سلطة نقدية وأدبية لا جدال فيها بين المتخصصين، تميَّز بمسيرته العلمية، وبريادته في ترجمة الشعر العربي الحديث، إذ فتح عيون الغرب على الواقع المعاصر لعالم عربي معقد وحيوي، وقدم تحليلاته العميقة، لا كمستشرق، بل كمستعرب، كما كان يحلو له أن يطلق على نفسه؛ لأنه أراد أن يعيش الحاضر.
اختار دراسة اللغة العربية تحت تأثير معلمه الأول اللامع دون إميليو غارسيا غوميز، إذ اكتشف أنه ليس على دراية بهذا العالم عندما كان في السابعة عشرة من عمره، وانجذب إلى عشق هذه اللغة؛ لأنها «غنية بالمفردات والتعبيرات، في جمالياتها المتعددة».
ثم بدأ منذ ذلك الوقت ينكبّ على الدراسات العربية، فدرس الأدب الكلاسيكي وتاريخ الأندلس «لوضعها في قلب العالم المعاصر». وكان الجوهري في ذلك هو فتح عالم الدراسات على مصراعيه في الجامعات الإسبانية.
يعتقد مونتابيث أن الترجمة بين اللغتين العربية والإسبانية غائبة رغم اتساعها إلى بلدان أميركا اللاتينية، وفي نظره كان الشعر الأندلسي مرفوضاً لسنوات طويلة، والآن نجد شعراء مثل ابن زيدون والمعتمد بن عباد، أو الشعر الشعبي الأندلسي أو ما يسمى الزجل والموشحات مثلاً، قد أعيد له الاعتبار مؤخراً. وكل ذلك بفضل الترجمة.
لم ينس مونتابيث شعراء المهجر الشمالي؛ لأن أول كتاب نُشر له في عام 1956 كان عن جبران خليل جبران، وإيليا «أبو ماضي»، وميخائيل نعيمة، وغيرهم، كما حاول أن يرصد «الإنتاج الأدبي والفكري لدى الكتّاب العرب في المهجر الجنوبي» في بلدان أميركا اللاتينية كالمكسيك والأرجنتين وكوبا. وفي عام 1968 أصدر كتاباً عن شعراء المقاومة الفلسطينية، وهو أول كتاب يصدر باللغات الأوروبية، ولا يمكن إهمال كتابه المتميز «خمسة عشر قرنًا من الشعر العربي» الذي يتضمن ترجمة للمختارات الشعرية يتعرف فيه قارئ اللغة الإسبانية على بانوراما للشعر العربي في شموليته، كما ترجم قصص نجيب محفوظ، والشاروني، ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم من أجل وضع الشعر مقابل النثر.
في عام 2009 التقينا ثانية عندما فاز بجائزة الشيخ زايد، وتُوّج بلقب «شخصية العام الثقافية»؛ «تكريماً لدوره الرائد في بناء جسور التواصل بين الثقافتين العربية والإسبانية».
لقد منح المستعرب الراحل الاستعراب الإسباني الأهمية نفسها التي يتمتع بها الاستعراب الفرنسي أو الإنجليزي أو غيرهما.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟