أرشيفات الصحف المصرية... «كنز» معرفي وذاكرة وثائق تاريخية

خبراء يعدّونها مرجعاً مهماً للإعلاميين والباحثين

دار الكتب والوثائق القومية المصرية
دار الكتب والوثائق القومية المصرية
TT

أرشيفات الصحف المصرية... «كنز» معرفي وذاكرة وثائق تاريخية

دار الكتب والوثائق القومية المصرية
دار الكتب والوثائق القومية المصرية

على مدار سنوات طويلة اعتبر أرشيف الصحف والمجلات مصدراً مهماً للمعلومات، يحمل توثيقاً لحقب تاريخية على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومن خلال دراسة عدد صحيفة أو مجلة في فترة من الزمن يستطيع الباحث التعرف على القضايا التي كانت تشغل بال المواطنين والسياسيين والمثقفين في تلك الفترة، وكيف كانوا يتفاعلون مع الأحداث المختلفة من حولهم، وكأنه انتقل عبر «آلة الزمن» إلى عصور تاريخية سابقة.


 (موقع أرشيف الإنترنت)

وحقاً، كلما طال عمر صحيفة أو مجلة، زادت قيمة أرشيفها وقوته بتناوله حقباً تاريخية متنوعة. وبالتالي، يتحوّل إلى مصدر لا غنى عنه لقصص ومواضيع صحافية تعمل على ربط الماضي بالحاضر، أو تحاول استعادة لحظات تاريخية، أو تروي وتوثّق سيراً ذاتية لشخصيات عامة أو رموز سياسية وفنية وثقافية.
في مصر، بالذات، تُعَد أرشيفات المطبوعات القديمة العريقة مرجعاً حيوياً وضرورياً للإعلاميين والباحثين، وهي تشكل مصادر معلومات أساسية لمواضيعهم الصحافية ومراجع رئيسية في أبحاثهم العلمية. وهذا، مع أن ثمة اختلافات يشهدها القطاع الإعلامي اليوم مع ظهور الإنترنت، إذ أتاحت الشبكة العنكبوتية الوصول إلى المعلومات الأرشيفية والتاريخية بسرعة ويسر. ولكن في الوقت عينه، كان ثمن السرعة واليسر في استثمار الإنترنت باهظاً في عدة حالات على صعيد الصدقية. إذ يحمل البحر المتلاطم من المواقع الإلكترونية، عبر الإنترنت، كثيراً من المعلومات الزائفة والمضللة، ما يفرض على الإعلاميين والباحثين - على حد سواء - مزيداً من التدقيق والتقصّي قبل اعتمادها في أعمالهم.

«لا ديكاد إيجيبسيان»

دخول المطبعة
تاريخياً، عرفت مصر الصحافة مع دخول المطبعة لأول مرة إبان فترة الحملة الفرنسية على البلاد (1798 – 1801). ولقد بدأت المطبعة بإعداد المنشورات باللغة العربية. ثم بدأ إصدار صحف باللغة الفرنسية، فشهدت القاهرة الصورة الكاملة للصحف عبر صحف مثل «الكورييه دو ليجيبت»، و«لا ديكاد إيجيبسيان». إلا أن عمر هاتين الصحيفتين انتهى بخروج الحملة الفرنسية من مصر، حسب ما ورد في مجلة «ذاكرة مصر المعاصرة» الصادرة عن مكتبة الإسكندرية.
من ناحية ثانية، يؤرخ للصحافة المصرية بفترة حكم محمد علي. ووفق «ذاكرة مصر المعاصرة»، تعد «جريدة الخديوي»، التي تحوّلت عام 1828 إلى صحيفة «الوقائع المصرية» أقدم وأول صحيفة رسمية مصرية. وفي حين يحمل أرشيف «الوقائع المصرية» توثيقاً لجميع القرارات والقوانين الرسمية الصادرة في البلاد منذ عهد محمد علي، فإن ثمة صحفاً ومجلات عريقة تتضمن أرشيفاتها توثيقاً اجتماعياً وسياسياً غنياً جداً للأوضاع في مصر منذ القرن التاسع عشر، وعلى رأسها أرشيف صحيفة «الأهرام» المصرية التي أسست عام 1875، ومجلة «روزاليوسف» التي أسست عام 1925، وغيرها.
محمد بغدادي، الكاتب الصحافي في مجلة «روزاليوسف» المصرية، اعتبر في حوار مع «الشرق الأوسط» أن أرشيفات الصحف والمجلات «من أهم مصادر المعلومات للصحافي، كما أنها مصدر قوة للصحيفة والمؤسسة الإعلامية بشكل عام». وأردف أنه «كلما كان أرشيف الصحيفة أو المجلة قوياً، زادت قدرتها على التواصل مع قضايا الناس عبر إتاحة معلومات تربط الماضي بالحاضر، وأعطت الصحافي فرصة أكبر لتوثيق قصصه الصحافية، وتضمينها بيانات ومعلومات تاريخية موثقة».
وتحدث بغدادي عن «تطور الأرشيف الصحافي مع مرور الوقت، من الميكروفيلم، إلى الرقمنة على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، ما أتاح للصحافي والباحث الحصول على المعلومات بشكل أيسر، وأسرع». وقال إن «هذه السهولة في الحصول على المعلومات، تزامنت مع فرض أعباء أخرى على الصحافي والباحث، بعضها مادي إذ تفرض بعض المؤسسات رسوماً للحصول على أرشيفها، أما البعض الآخر فمرتبط بضرورة تمكن الصحافي أو الباحث من أدوات التحقق من المعلومات، ولا سيما مع وجود كم هائل من المعلومات غير الموثقة على شبكة الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي». ومن ثم شدد على «ضرورة أن توفر المؤسسات الإعلامية للعاملين فيها اشتراكات في أرشيفات المؤسسات المرموقة وذات المصداقية، لضمان قصص صحافية دقيقة».


«كورييه دو ليجيبت»

قصص ومواضيع شتى
في الواقع، لا يقتصر دور الأرشيف على تزويد الصحافي بمعلومة تاريخية، أو صورة لتضمينها في قصته الصحافية، بل غالباً ما تصدر قصصٌ ومواضيع كاملة مستوحاة من الأرشيفات، وتخصّص بعض الصحف والمواقع الإلكترونية أبواباً ثابتة تتضمن مواضيع معتمدة بالكامل على الأرشيف الصحافي. وكمثال على ذلك تناول ذكرى حادثة وقعت في تاريخ معين، أو استرجاع سيرة فنان أو شخصية عامة من حواراته الصحافية. وإلى جانب هذا اعتماد الباحثين على هذه الأرشيفات في أبحاث تحاول شرح الأوضاع الاجتماعية في فترة زمنية معينة، أو رصد تطور الإعلانات في فترة زمنية أخرى، وغيرها من المواد التي يعتبر الأرشيف الصحافي رافداً أساسياً لها. ولذا وصفه البعض بـ«الكنز»؛ تقديراً للكم الهائل من المعلومات والأفكار التي يمكن أن يختزنها وتقدم لدى نشرها خدمة معرفية مميزة.
في هذا الإطار، تعتمد الكاتبة والناقدة أنس الوجود رضوان، مدير تحرير القسم الثقافي في صحيفة «الوفد» المصرية، على الأرشيف في كتابة كتاب عن زوجها الراحل الصحافي والروائي موسى صبري. خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» قالت شارحة إن «الأرشيف الورقي للصحف والمجلات شيء في غاية الأهمية، يتضمن توثيقاً لمراحل تاريخية مهمة... ومن خلاله يمكن سبر أغوار شخصيات، ودراسة حال المجتمع على جميع المستويات». واستطردت: «الصحيفة وثيقة تاريخية مهمة» قبل أن تشكو من «ضياع الأرشيف مع بداية عصر الرقمنة»؛ إذ تقول: «خلال عملية الرقمنة فُقد كثير من نسخ الصحف والمجلات... ولولا احتفاظ زوجي الراحل بأرشيف خاص لما تمكنت من إعداد كتابه بالشكل المطلوب» بسبب ضياع مواد كثيرة من الأرشيف.
وبالفعل «ضياع الأرشيف» من النقاط التي تطرقت إليها الدكتورة ليلى عبد المجيد، أستاذة الإعلام في جامعة القاهرة، خلال حوارها مع «الشرق الأوسط»، مشيرة إلى قضايا أثيرت أخيراً تتعلق بـ«بيع وضياع جزء من أرشيفات الصحف والمجلات المصرية». وأكدت عبد المجيد على «أهمية الأرشيف كوثيقة تاريخية، ورافد بحثي... وإبان إعدادي رسالتي الماجستير والدكتوراه كان الأرشيف الصحافي أحد المراجع المهمة التي اعتمدت عليها». ومعلوم أن قضية بيع الأرشيف الصحافي المصري أثارت جدلاً في الفترة الأخيرة، في أعقاب أنباء تحدثت وصول أرشيف صحيفة «الأهرام» إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية، في إطار التعاقد مع شركة أميركية لإتاحة أرشيف «الأهرام» بصورة رقمية.
من جهة ثانية، بينما ترى وفاء عبد الحميد، رئيسة إذاعة البرنامج الثقافي السابقة في الإذاعة المصرية، أن «الإتاحة الرقمية ربما سهلت من حفظ وإتاحة المعلومات الأرشيفية»، فهي شددت في حوار مع «الشرق الأوسط» على ما اعتبرته «مكامن الخطورة» في هذه الإتاحة الرقمية، وفي مقدمتها «انتشار المعلومات الزائفة». وقالت: «الإنترنت مليء بالمعلومات الخاطئة والمضللة... وبالتالي، يظل الأرشيف الرسمي للصحف والمواقع الإلكترونية الموثوقة، والإذاعة والتلفزيون الوثيقة الأهم».
ثم تطرقت عبد الحميد إلى «قلة اهتمام الصحافيين اليوم بالأرشيف مقارنة بما كانت عليها الحال قبل سنوات». واستطردت «يكتفي الصحافي اليوم بالبحث على الإنترنت من دون أن يكلف نفسه عناء الذهاب إلى أرشيف مؤسسة إعلامية... في حين إنني كنت أمضي أياماً في الأرشيف لإعداد قصصي الصحافية، سواءً كان ذلك داخل الإذاعة أو في دار الكتب والوثائق القومية التي تحتفظ بنسخ من جميع الصحف والمجلات المصرية».
وما يستحق التنويه هنا، أن دار الكتب والوثائق القومية المصرية تحتفظ بنسخ من أرشيفات الصحف المصرية، ما يجعلها مصدراً مهماً للباحثين ودارسي الإعلام والصحافيين، وكثيراً ما يكلّف دارسو الإعلام بإعداد قصص أو مشاريع بحثية عن تاريخ الصحافة في مرحلة معينة، خلال فترة دراستهم. كذلك تضم مكتبة الإسكندرية بدورها نسخاً مرقمنة من أرشيفات الصحف والمجلات المصرية.
وعلى الصعيد الدولي، تضع الصحف والمجلات الكبرى قواعد لتداول أرشيفاتها، فعلى سبيل المثال، تتيح صحيفة «النيويورك تايمز» الأميركية، الاطلاع على أرشيفها بطريقتين، توضحهما على موقعها الإلكتروني: الأولى من خلال أرشيف مقالات «النيويورك تايمز»، وهو متاح للجميع ويغطي الفترة من 1851 وحتى الآن.
أما الطريقة الثانية فعبر ما يسمى بـ«آلة الزمن» التي تتيح الاطلاع على الأعداد كاملة من عام 1851 وحتى 2002 مقابل اشتراك شهري.


مقالات ذات صلة

«بي بي سي» ستطعن في دعوى ترمب القضائية بشأن مقاطع معدلة من خطابه

أوروبا شعار هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) على مكتبها في لندن (أ.ف.ب)

«بي بي سي» ستطعن في دعوى ترمب القضائية بشأن مقاطع معدلة من خطابه

قالت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، اليوم (الثلاثاء)، إنها ستطعن في دعوى قضائية رفعها الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضدها بسبب مقاطع معدلة من خطاب له.

«الشرق الأوسط» (لندن )
أوروبا شعار هيئة البث الخارجية الألمانية (دويتشه فيله) كما يظهر على مقرها الرئيسي في برلين (د.ب.أ)

روسيا تصنف «دويتشه فيله» الألمانية «منظمة غير مرغوب فيها»

أعلنت روسيا تصنيف هيئة البث الخارجية الألمانية (دويتشه فيله) «منظمة غير مرغوب فيها».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
يوميات الشرق يتوّج مسار «التميز الإعلامي» المنتجات النوعية التي تُصاغ بروح إبداعية وفق أعلى المعايير المهنية (موقع المنتدى)

«الجائزة السعودية للإعلام» تطلق مسار «التميّز» للاحتفاء بالأعمال الوطنية

أطلقت «الجائزة السعودية للإعلام 2026» مسار «التميّز» المخصَّص للاحتفاء بالأعمال التي جسّدت الهوية الوطنية، وارتقت بالرسائل الاتصالية للمناسبات الكبرى في البلاد.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الرحيل حدث لكنَّ الحضور لم يغب يوماً (الشرق الأوسط)

«عشرون» جبران تويني الذي مضى في طريقه حتى النهاية

كان الاحتفاء بجبران تويني مواجهة متجدّدة مع معنى أن يصرّ أحدهم على قول «لا» في مرحلة انتشرت فيها الـ«نعم» الرخوة...

فاطمة عبد الله (بيروت)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ.ف.ب) play-circle

«تنطوي على خيانة»... ترمب يصف تقارير إعلامية بشأن صحته بـ«التحريضية»

انتقد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشدة وسائل إعلام طرحت تساؤلات حول وضعه الصحي، واصفاً تقاريرها بأنها «تحريضية، وربما تنطوي على خيانة».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

«نتفليكس» و«باراماونت» تتسابقان لشراء «ورنر بروس»

epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue.  EPA/HANNIBAL HANSCHKE
epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue. EPA/HANNIBAL HANSCHKE
TT

«نتفليكس» و«باراماونت» تتسابقان لشراء «ورنر بروس»

epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue.  EPA/HANNIBAL HANSCHKE
epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue. EPA/HANNIBAL HANSCHKE

تعيش هوليوود واحدة من أكثر لحظاتها اضطراباً منذ عقود، بعدما تحوّلت صفقة الاستحواذ على «ورنر بروس ديسكفري» إلى مواجهة مفتوحة بين عملاق البث «نتفليكس» من جهة، والتحالف الذي تقوده «باراماونت – سكاي دانس» برئاسة ديفيد إليسون (نجل مؤسس «أوراكل» الملياردير لاري إليسون)، المدعوم بثروات هائلة وشبكة نفوذ سياسية، من جهة أخرى.

ورغم أن ظاهر المعركة تجاري بحت، فإن جوهرها يتجاوز حدود صناعة الترفيه ليصل إلى توازنات القوة الإعلامية في الولايات المتحدة، وإلى مقاربات البيت الأبيض التنظيمية، وربما حتى إلى علاقة الرئيس دونالد ترمب بعدد من هذه المؤسسات.

Paramount, Netflix and Warner Bros logos are seen in this illustration taken December 8, 2025. REUTERS/Dado Ruvic/Illustration

أهمية «ورنر بروس»

تعد «ورنر بروس» إحدى أثقل القلاع الثقافية والإعلامية في العالم. فإلى جانب تاريخها السينمائي العريق، تمتلك الشركة واحدة من أضخم مكتبات المحتوى التي تضم أعمالاً من «هاري بوتر» و«دي سي كوميكس» و«غيم أوف ثرونز»، إضافة إلى شبكة «إتش بي أو» ومحفظة تلفزيونية واسعة. والسيطرة عليها تمنح مالكها ثلاث ركائز جوهرية:

• محتوى ضخم عالي القيمة قادر على تغذية منصات البث لعقود مقبلة.

• حقوق بث وتوزيع دولية تتيح توسعاً كبيراً في الأسواق العالمية.

• تكامل رأسي كامل يجمع بين الإنتاج والتوزيع والبث، ويخلق قوة سوقية استثنائية.

من هنا، فإن فوز «نتفليكس» أو «باراماونت» بالاستوديو يعني تغيّراً جوهرياً في المشهد العالمي، وظهور كيان يتجاوز في وزنه معظم الشركات الإعلامية الحالية.

"باراماونت" تخوض سباقاً مع "نتفليكس" لشراء "ورنر بروس" (أ.ف.ب)

صفقة نتفليكس و«قلق» البيت الأبيض

أعلنت «نتفليكس» قبل أيام التوصل إلى اتفاق مبدئي لشراء معظم أصول «ورنر بروس ديسكفري» مقابل 83 مليار دولار (عرضت فيها 27.75 دولار للسهم)، مع إبقاء «سي إن إن» والقنوات الإخبارية والرياضية ضمن شركة مستقلة تدعى «ديسكفري غلوبال».

عدّ كثيرون الخطوة منطقية: توحيد أكبر منصة بث في العالم مع واحد من أضخم الاستوديوهات، ما يخلق عملاقاً يصعب منافسته. لكن العامل السياسي دخل ساحة المعركة بقوة. فقد صرّح الرئيس ترمب بأنه سيكون «منخرطاً» في تقييم الصفقة، ملمّحاً إلى أن الحصة السوقية لـ«نتفليكس» قد تشكل «مشكلة».

ورغم ثنائه على تيد ساراندوس، الرئيس التنفيذي المشارك للمنصة، فإن تلويحه بالتدخل التنظيمي ألقى ظلالاً من الشك على الصفقة، خصوصاً أن عرض «نتفليكس» يجمع بين النقد والأسهم، ما يعرّضه لتدقيق احتكاري واسع.

باراماونت.. عرض «عدائي» ونقد أكثر

لم تتأخر «باراماونت – سكاي دانس» في الرد. فبعد ساعات من إعلان «نتفليكس»، أطلقت عرضاً عدائياً مباشراً للمساهمين بقيمة 108.4 مليار دولار، وبسعر 30 دولاراً للسهم، أي أعلى بكثير من عرض منافستها.

ويمتاز عرض «باراماونت» بأنه أكثر نقداً وتمويلاً مباشراً، مدعوماً من ثروة عائلة إليسون وصناديق «ريدبيرد» و«أفينيتي بارتنرز»، إضافة إلى ثلاثة صناديق سيادية عربية (السعودية، الإمارات، قطر) تشارك بتمويل بلا حقوق حوكمة. ووفقاً لمصادر في الشركة، فإن عرضها «أكثر يقيناً وسرعة في التنفيذ»، مقارنة بعرض «نتفليكس» الذي يتوقع أن يواجه تدقيقاً احتكارياً وتنظيمياً معقداً.

البعد السياسي للصراع

على الرغم من محاولة الطرفين الظهور وكأن معركتهما تجارية بحتة، فإن السياسة حاضرة بكل ثقلها. ويلعب جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترمب، دوراً محورياً بصفته شريكاً مالياً في عرض «باراماونت» عبر «أفينيتي بارتنرز». وتحدثت تقارير بريطانية عن وعود من «باراماونت» بإجراء تغييرات جذرية في «سي إن إن» في حال فوزها، وهو ما يمنح الصفقة بعداً سياسياً حساساً.

في المقابل، ينتقد ترمب «باراماونت» و«سي بي إس» التابعة لها بسبب خلافات مع برنامج «60 دقيقة». ومع ذلك، صعّد ترمب هجومه المباشر على «سي إن إن»، مطالباً بتغيير مالكيها كجزء من أي صفقة لبيع «ورنر». وقال في اجتماع بالبيت الأبيض: «لا أعتقد أنه يجب السماح للأشخاص الذين يديرون (سي إن إن) حالياً بالاستمرار. يجب بيعها مع باقي الأصول». كما أكد أنه سيشارك بنفسه في قرار الموافقة على الصفقة، في خروج غير مألوف عن الأعراف التنظيمية.

هذا التناقض يكشف عن صراع مفتوح على النفوذ الإعلامي، قد يؤثر على القرار النهائي أكثر من معايير الاحتكار ذاتها، رغم أن اكتمال أي من الصفقتين، سيؤدي إلى ولادة عملاق إعلامي فائق.

منصتان فائقتان

اندماج «نتفليكس ورنر بروس» سيخلق أكبر منصة بث ومكتبة محتوى في العالم، تفوق «أمازون برايم» و«ديزني» مجتمعتين في حجم الاشتراكات والمحتوى الأصلي والحقوق. أما اندماج «باراماونت ورنر بروس» فسيكوّن أكبر استوديو سينمائي - تلفزيوني متكامل، يضم «سي بي إس» و«باراماونت» و«إيتش بي أو» و«سي إن إن» (في حال لم تُفصل)، ما يجعله النسخة الحديثة من «استوديو هوليوودي شامل». وسيعد الكيان الناتج عن أي من الصفقتين الأكبر عالمياً في مجال الإعلام والترفيه، لكن بدرجات مختلفة: «نتفليكس» ستتربع على قمة البث، و«باراماونت» على قمة الإنتاج التقليدي والخبري.

لكن المخاطر كبيرة أيضاً. فوفق محللين، قد يبتلع الاستوديو إدارة «نتفليكس» ويستهلك طاقاتها، بينما يخشى البعض من تراجع نوعية المحتوى إذا خضعت المكتبة الضخمة لمنهج المنصة القائم على الكميات الكبيرة.

ويتفق خبراء على أن كلا العرضين يواجه عوائق تنظيمية ضخمة، لكن الخطر الأكبر ليس تنظيمياً، بل سياسي، كما قال وليام باير، المدير السابق لقسم مكافحة الاحتكار في وزارة العدل. وقال لصحيفة «واشنطن بوست»: «المشكلة الحقيقية هي إن كانت القرارات ستُبنى على اعتبارات قانونية أم على مصلحة الرئيس».

بالنسبة لمحطة «سي إن إن» التي يناهضها ترمب علناً، فستكون مع عرض «نتفليكس»، جزءاً من شركة منفصلة لديها استقلال أكبر، بعيداً عن الصراع السياسي. وهو ما يعدّه كثير من العاملين فيها مخرجاً آمناً، بعد تخوفهم من احتمال أن تقود «باراماونت»، المتجهة نحو توجّهات محافظة، عمليات تغيير واسعة فيها. ومع ذلك، من الناحية الاقتصادية، سيكون مستقبل «سي إن إن» في شركة صغيرة تحدياً قد يقود إلى تقشف أكبر.

وفي النهاية، قد تكون القرارات السياسية هي العامل الحاسم في تحديد من سيضع يده على إرث «ورنر بروس» العريق.


قرارات «يوتيوب» حول «مراقبة المحتوى» تثير جدلاً متصاعداً

شعار «يوتيوب»         (د.ب.أ)
شعار «يوتيوب» (د.ب.أ)
TT

قرارات «يوتيوب» حول «مراقبة المحتوى» تثير جدلاً متصاعداً

شعار «يوتيوب»         (د.ب.أ)
شعار «يوتيوب» (د.ب.أ)

أثارت قرارات «يوتيوب» بشأن «مراقبة المحتوى» بالاعتماد على «نظام الإشراف القائم على الذكاء الاصطناعي في المنصة»، جدلاً متصاعداً بين صُنّاع المحتوى، بعد تكرار حالات الإغلاق المفاجئ لقنوات بـ«تهم الممارسات الخادعة وعمليات الاحتيال»، دون ردود واضحة من المنصة حول الأسباب. إذ يأتي الرد على الطعون بشكل «نمطي جاهز»، مما يعرّض قنوات بارزة للاختفاء بعد سنوات من الجهد.

واللافت أن بعض حالات حجب القنوات انتهت باستعادتها بعد لجوء صُنّاع المحتوى إلى إثارة «ضجة» على منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، حسبما رصد «سيرش إنجين جورنال». من جانبها، نفت «يوتيوب»، عبر مدونتها، اتهامات «عدم الدقة»، وقالت إنها «لم ترصد أي مشكلات واسعة النطاق في قرارات إغلاق القنوات، وإن نسبة صغيرة فقط من إجراءات الإنفاذ يتم التراجع عنها».

ويرى المتخصص في الإعلام الرقمي بالإمارات، تاج الدين الراضي، أن «يوتيوب» منصة لها استراتيجية خاصة مقارنةً بالمنصات الأخرى. وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «(يوتيوب) ارتبطت بالمحتوى الغني والعميق والفيديو الطويل، ومن ثم فإن أي تطوير في المنصة يجب ألا يخترق هويتها». وأضاف أن «(يوتيوب) ليست منصة تصفّح سريع بلا مضمون، فما يميزها هم صُنّاع محتوى استثمروا وقتاً وجهداً وإنتاجاً».

وعن توسّع «يوتيوب» في استخدام الذكاء الاصطناعي في «مراقبة المحتوى»، قال الراضي: «هذا الاتجاه من (يوتيوب) هو أمر مفهوم في إطار تطوير إدارة المنصة، لكن بشرط أساسي، ألا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى نسخة جديدة من (السباق وراء السرعة) على حساب جوهر (يوتيوب)». وأشار إلى أن «أي نموذج رقابي آلي يحمل هامش خطأ عالي المستوى، وعملياً قد لا يكون عادلاً، وهنا تكلفة الخطأ كبيرة، لأنها منصة مهنية أكثر منها منصة عبور سريع».

وأثار الراضي خلال حديثه شعوراً بـ«عدم الأمان لدى صُنّاع المحتوى على (يوتيوب)» وتأثير هذه القرارات على الاستثمار في المنصة. وقال إن «مناخ عدم الأمان يدفع (اليوتيوبرز) نحو محتوى أكثر تحفظاً وأقل عمقاً، ويضعف استعدادهم للاستثمار طويل الأمد في (يوتيوب)، لأن مستقبلهم يصبح مرهوناً بقرار آلي غير متوقع».

وتحدث موقع Dexerto الإنجليزي عن حالة صانع محتوى يملك آلاف المشتركين، تم حظره بسبب تعليق لصانع المحتوى كتبه من حساب آخر عندما كان عمره 13 عاماً. ولاحقاً اعتذرت «يوتيوب» وأبلغته أن الحظر كان خطأ من جانبها.

وأعلنت «يوتيوب» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن برنامج تجريبي باسم «الفرص الثانية» يسمح لبعض المبدعين بإنشاء قنوات جديدة إذا استوفوا شروطاً محددة، وكانت قنواتهم قد أُغلقت منذ أكثر من عام، إلا أن البرنامج لا يعيد الفيديوهات أو المشتركين المفقودين.

من ناحية أخرى، أشار الرئيس التنفيذي لـ«يوتيوب»، نيل مواهان، في مقابلة مع مجلة «تايم»، في ديسمبر (كانون الأول) الجاري، إلى «نية الشركة توسيع أدوات الإشراف بالذكاء الاصطناعي». وقال إن «(يوتيوب) ستمضي قدماً في توسيع الإنفاذ بالذكاء الاصطناعي رغم مخاوف المبدعين».

ويعتقد الصحافي المصري، المدرّب المتخصص في الإعلام الرقمي، معتز نادي، أن النموذج الأنسب ليس اختياراً بين مراجعة بشرية أو شفافية خوارزميات تعلن عنها منصة «يوتيوب»، بل معادلة هجينة تجمع أيضاً الذكاء الاصطناعي. وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «ذلك يتحقق من خلال الفرز أولاً وفق معايير واضحة، لكن مع مراجعة بشرية إلزامية تشرح سبب المخالفات والبنود التي تعرضت للانتهاك في السياسة الخاصة بالموقع وكيفية تقديم استئناف (ضد قرارات الحظر)».

وتعليقاً على تصريح رئيس «يوتيوب» بأن الشركة ستواصل توسيع استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، قال معتز نادي إن «العلاقة المقبلة مع صُناع المحتوى ستكون على المحك، فالمنصة تريد الـAI (الذكاء الاصطناعي) لأنه سلاحها لتنقيح كل المحتوى في ظل العدد الهائل من الحسابات».

وأضاف أن «صُنّاع المحتوى أمام سيناريو مواصلة العمل على منصة (يوتيوب) للحصول على مزيد من الأرباح والانصياع لسياساتها وبنودها، أو التفكير في الهجرة لمنصة تواصل اجتماعي أخرى، لكن يبقى هاجس المكاسب حاضراً، فالكل يبحث عن زيادة موارده، والكنز هنا هو الجمهور بعدد مشاهداته، ومن ثم سيكون الربح هو لغة التعامل بينهما».


بسّام برَّاك... عاشق العربية وحارسها أوصى بتكريمها في جائزة

أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
TT

بسّام برَّاك... عاشق العربية وحارسها أوصى بتكريمها في جائزة

أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)

أقفل الإعلامي اللبناني الراحل بسّام برَّاك باب العربية الفصحى وراءه ومشى. أصدقاؤه وزملاؤه، عندما تسألهم من يرشحون لحمل إرثه، يردّون: لا أحد. حبّه للعربية الفصحى كان يسري في دمه. أبحر في مجالها الواسع وغاص في معانيها حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته. ألقابه ترتبط ارتباطاً مباشراً بها، وهي كثيرة. فهو «الأستاذ» و«المعلّم» و«عاشق اللغة» و«حارسها». كثيرون من أهل الإعلام والصحافة يعدّونه شخصية لن تتكرر في لبنان. وكان برَّاك قد رحل بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز الـ53 عاماً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

حالة العشق هذه لم يكن يخفيها عن أحد. يفتخر بإجادة العربية وبالتحدث بها في أي مكان ومناسبة. حتى عندما يحاور أولاده في البيت كان يتكلّم معهم بالفصحى، وهو على يقين بأن زرع بذور العربية في أعماقهم، لا بدّ أن تتفتّح براعمها عند الكبر.

الإعلامية لينا دوغان رافقته في مشوار إعلامي طويل (الشرق الأوسط)

جائزة بسام برَّاك للغة العربية

حلم الإعلامي الراحل بتنظيم جائزة يكرّم من خلالها اللغة المغرم بها. فهو تربّى في منزل يهوى أفراده، من والدين وأخوة، العربية. نشأ على حبها والإعجاب بها. حاول أكثر من مرة إطلاق الجائزة، غير أن ظروفاً عاكسته. وعندما أصابه المرض وبدأت صحته تتراجع، أوصى زوجته دنيز بأن تنفذها بعد مماته.

تقول دنيز لـ«الشرق الأوسط»: «كان يطرب للعربية فيقرأها بنهم، ويتحدث بها بشغف. كانت فكرة الجائزة تراوده دائماً. وعندما مرض أوكل هذه المهمة لي. وسنعلن عن هذه الجائزة في الذكرى السنوية الأولى لوفاته، ونقدمها لمن يستحقها».

المناسبة الثانية التي سيتم تكريم بسام برَّاك خلالها تقام في 18 ديسمبر (كانون الأول)، ويصادف اليوم العالمي للغة العربية. تنظّم مدرسة العائلة المقدسة التي كان أستاذ الصفوف العربية فيها، يوماً كاملاً لاستذكاره.

كان الراحل برّاك يلقب بـ"عاشق اللغة العربية وحارسها" (الشرق الأوسط)

بسام الزميل الخلوق

عندما تسأل أصدقاء الراحل بسام برَّاك عنه تأتيك أجوبة متشابهة، وجميعها تصب في خانة «الزميل الخلوق». يؤكدون كذلك أنه إعلامي متميّز بشدة حبّه للعربية الفصحى.

الإعلامية لينا دوغان التي رافقت برَّاك في مشوارٍ مهني طويل، تعدّه مثلها الأعلى في اللغة العربية. وتضيف لـ«الشرق الأوسط»: «كان دقيقاً جداً في ملاحظاته للأخطاء في العربية. فعندما تسمع أذنه أي لفظ أو إلقاء أو خطأ يقترفه مذيع أخبار، يبادر إلى تصحيحه بشكل تلقائي».

وعن التأثير الذي تركه بسام على الذاكرة الجماعية من خلال اللغة، تردّ: «لقد قام بخطوة استثنائية في هذا الخصوص. أطلق مسابقة (الإملاء باللغة العربية). ووضع حجر الأساس للغة نحكيها، ولا نجيد قواعدها ولا كتابة ألفاظها. حتى أنه كان من النادر جداً في المسابقة المذكورة، أن ينجح أحد فيها، مع أن المتسابقين من الطراز الأول، ويتألفون من دكاترة واختصاصيين في العربية، إضافة إلى أدباء ووزراء ونواب».

تروي لينا دوغان أنه لبالغ ولعه بالفصحى، كان يتكلمها مع أطفاله. «تخيلي كان عندما يتوجه لابنه الصغير الذي يؤدي بالفرنسية أغنية طفولية معروفة (Tape les mains) يقول له: (صفّق صفّق). كان حارساً للغة، يعدّها أساسية في هويتنا العربية». وتضيف: «لقد كان إعلامياً مثقفاً جداً ومهذباً، خلوقاً. وهو ما بتنا نفتقده اليوم في مهنتنا».

وعما تعلّمته منه تردّ: «الكثير وأهمها الدقّة في العمل. ولا سيما قراءة النص أكثر من 10 مرات كي أتقّن إذاعته. كما تعلمت منه المثابرة في العمل. فبسام كان يملك تقنية إلقاء مثالية. ومرات كثيرة يرتجل مباشرة على المسرح في مناسبة يطلب منه تقديمها».

الإعلامي جورج صليبي كان رفيق دربه في المهنة وفي حب فيروز (الشرق الأوسط)

فيروز ألهمته فرحل وهو يردد «إيماني ساطع»

علاقة وطيدة كانت تربط بين بسام برَّاك والسيدة فيروز. وكان يردد بأنه عشق العربية من خلالها. كان صوتها يلهمه للبحث في هذه اللغة، وكذلك إتقان مخارج الحروف وعملية تحريك النص. آخر مشوار للقائها، قام به بمناسبة تقديم التعازي لفيروز بوفاة نجلها زياد الرحباني، رافقه فيه زميله وصديقه الإعلامي جورج صليبي. وتشير زوجته دنيز إلى أنه كان على علاقة وثيقة بـ«سفيرتنا إلى النجوم». «كانا يتبادلان الهدايا في المناسبات، ومن بينها ربطة عنق أوصاني بأن يرتديها عندما يرحل. وكان يزورها بين وقت وآخر. أما أغنيتها (إيماني ساطع) فقد بقي يسمعها حتى لحظاته الأخيرة». وتتابع: «صوت فيروز كان يرافقنا دائماً، في البيت كما في السيارة، وفي أي مناسبة أخرى. فلا يتعب ولا يملّ من سماعه وكأنه خبزه اليومي».

ولكن من ترشّح زوجته ليكمل طريق بسام في العربية؟ تجاوب: «في الحقيقة لا أعرف من يمكن أن يحمل هذا الإرث. بسام كان يبدي إعجابه بكثيرين يجيدون العربية الفصحى قراءة ولفظاً، ومن بينهم زملاء كالإعلاميين يزبك وهبي وماجد بو هدير وجورج صليبي ومنير الحافي والمؤرّخ الدكتور إلياس القطار وغيرهم، وجميعهم ضليعون بالعربية ويحبونها».

أصدر بسّام برَّاك كتاباً واحداً من تأليفه بعنوان «توالي الحبر»، وتضمن صوراً أدبية كثيرة، وضعها تحت عنوان الحبر، ومن بينها «حبر الحب» و«حبر الوطن» و«حبر فيروز». كما كتب مؤلفاً بعنوان «أسطورة المال والأعمال»، يحكي فيه سيرة عدنان القصار كرجل أعمال وسياسي. والجدير ذكره أن الإعلامي الراحل تأثر كثيراً بأستاذه الراحل عمر الزين. فهو من وضعه على سكة الفصحى المتقنة خلال عمله الإذاعي عبر أثير «صوت لبنان». وعندما رحل الزين أوصى بمنح برَّاك مكتبته المؤلفة من مجلدات ومؤلفات عربية، وكذلك من مدونات، وقصاصات، ورقية وخواطر. واليوم يترك بسام خلفه، إرثين، أحدهما يخصه، والآخر ورثه عن عمر الزين.

صداقة وزمالة وذكريات مع بسام برَّاك

كل من عرف الراحل بسام برَّاك عن قرب من زملاء وأصدقاء، يحدثك عنه بحماس. فالإعلامي يزبك وهبي يعتبره نابغة في مجاله، وكذلك زافين قيومجيان الذي قال عند رحيله إن اللغة العربية أصبحت يتيمة، بينما وصفه الرئيس اللبناني العماد جوزيف عون بأنه كان «الصحّ دوماً».

حبّه للعربية الفصحى كان يسري في دمه، فأبحر في مجالها الواسع وغاص في معانيها حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته

من جهته، يقول زميله جورج صليبي الذي بقي على اتصال به حتى لحظاته الأخيرة، بأنه الزميل الصديق والوفي. كانت تربطه به علاقة مميزة، عمرها 33 سنة، منذ عملهما سوياً في إحدى الإذاعات اللبنانية في أوائل التسعينات. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «بالنسبة لجيلنا كان الراحل برَّاك مرجعنا الوحيد للعربية. نتصل به ونستفهم منه حول كيفية تحريك عبارة ما. وحتى عن معنى كلمة تصادفنا لأول مرة. كان موسوعة متنقلة للغة العربية. وأعتبره مقاتلاً شرساً في سبيلها».

ويستطرد صليبي: «كان يبالغ أحياناً في اعتماده الفصحى في أي زمان ومكان. وأذكر مرة عندما أهداني ربطة عنق، اتصلت به لأشكره، قال لي: لا نسميها كرافات أو ربطة عنق، بل (الإربة). فلا أحد يضاهيه في ثقافته وغوصه في هذه اللغة».

ترافق صليبي وبرَّاك في حبّهما لفيروز. الاثنان مولعان بها ويحبان أغنياتها ويحضران حفلاتها، فيلحقان بها أينما كانت حتى خلال تقديمها تراتيل كنائسية. «أول حفلة حضرناها معاً لفيروز، كانت في 17 سبتمبر (أيلول) من عام 1994 وسط بيروت. وبقينا نتذكر هذا التاريخ في موعده من كل عام. فيروز كانت تمثّل له العالم الذي يعشقه تماماً، كما اللغة العربية. وحتى عندما كنا نزورها سوياً، كان يخرج من عندها مفعماً بالفرح والإعجاب».

التقاه صليبي قبل 36 ساعة من وفاته: «حزن كثيراً لمصابه، فمرضه العضال أفقده القدرة على النطق. وهو ما كان يعدّه النقطة الأساسية في مهنته. فكان يحزّ في قلبه كثيراً هذا السكوت الذي ابتلي به وفُرض عليه. المرض أفقده صوته وشغفه بالإلقاء. وكان يعبّر عن هذا الأمر بلوم وعتب. وفي آخر لقاء معه كان شبه فاقد لوعيه، ولا أعرف إذا ما كان يسمعني، أخبرته عن ذكرياتي معه، وعن فيروز وأمور أخرى يحبها».

أما عن إرث بسام برَّاك اللغوي والأدبي، فيعلّق صليبي: «أرشيف غني وضخم، كان يملكه زميلي الراحل بسام. وهو تضاعف بعدما أوصى عمر الزين بتحويل مكتبته الأدبية له بعد رحيله. هذان الإرثان يجب أن يتم الاهتمام بهما من قبل مؤسسة جامعية أو ثقافية، لأن الحفاظ عليهما يفوق قدرة الفرد الواحد».