الحرب الأهلية في الغرب و«نبوءة القرن»

مدينة نيوم حاضنة مشروع عملاق شمال غربي السعودية ينبني بأدوات المستقبل (الشرق الأوسط)
مدينة نيوم حاضنة مشروع عملاق شمال غربي السعودية ينبني بأدوات المستقبل (الشرق الأوسط)
TT

الحرب الأهلية في الغرب و«نبوءة القرن»

مدينة نيوم حاضنة مشروع عملاق شمال غربي السعودية ينبني بأدوات المستقبل (الشرق الأوسط)
مدينة نيوم حاضنة مشروع عملاق شمال غربي السعودية ينبني بأدوات المستقبل (الشرق الأوسط)

قراءة الأحداث الكبرى باعتبارها «بداية» أو «منعطفاً تاريخياً جديداً»، من الأخطاء المنهجية الشائعة في التفكير، فقد نبهنا مؤرخ الأفكار الهولندي يوهان هويزنغا في كتابه «اضمحلال القرون الوسطى» إلى أن الثورات والحروب وانهيار الأنظمة الفكرية والسياسية، قد تكون (نهاية) مرحلة تاريخية كاملة (تغرب شمسها)، وليست بالضرورة (بداية) فجر عصر جديد.
هذه الفكرة اللامعة لا تنطبق اليوم – في تصوري - قدر انطباقها على الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي نشبت قبل عام، ووصفها عالم النفس الكندي جوردان بيترسون بـ«الحرب الأهلية في الغرب»!
اللافت في مفهوم «النهاية»، أنه يلقى قبولاً متزايداً بين الباحثين في الشرق والغرب على السواء، وهناك نغمة جديدة يتردد صداها، وهي أن حدة الاتهامات المتبادلة قد تخفي رغبة دولية شبه جماعية، في إنهاء النظام العالمي (أو اللانظام) في صورته الراهنة.

(1)
على مدار عام 2022 تفجرت كل الأسئلة - تقريباً - التي طرحت للنقاش العالمي ما بين 1989 و2021، حول النظام العالمي الجديد، ونهاية التاريخ وصدام الحضارات، والعولمة، التي نالت نصيب الأسد من النقد، حيث أدت العولمة إلى الترابط الاقتصادي وإحلال السلم لفترة بين القوى الكبرى. لكن منذ الأزمة المالية عام 2008، وحتى الركود الاقتصادي الجاري تغيرت الأحوال، وثبت أن الترابط الاقتصادي لا يضمن الاستقرار العالمي، وأن القضايا السياسية والتاريخية ما زالت مصدراً للتوتر.
ناهيك من أن تبادل الأفكار والبشر والسلع لم يولد بالضرورة وعياً عالمياً، وإن شئت الدقة فقد ثبت أن «العولمة» و«العالمية» ليستا شيئاً واحداً.
وصاغ الكاتب المخضرم توماس فريدمان – منذ سنوات – في كتابه «العالم مستوٍ... موجز تاريخ القرن الحادي والعشرين»، هذا الاختلال بين العولمة والعالمية، وأبدى قلقه على دور أميركا ومستقبلها بسبب العولمة التي تسوي العالم، فلا يبقى فيه كبير إلا بقدر ما يملك من معرفة تسهم في الإنتاج وتقديم الخدمات. فأميركا تخرج إلى العالم حتى لا تفقد دورها فيه، والعالم يتغلغل في مسام أميركا لأن لديه ما يقدمه.
كلام فريدمان يعني في العمق: أن العولمة أصبحت ضد أميركا، لأنها منحت ثمارها لما سمي «الدول والاقتصادات الناهضة»، وبالتالي لم تعد «العولمة» تفيد أميركا، بالقدر نفسه الذي استفادت منه الصين وقارة آسيا ودول الجنوب العالمي.
وهذا يفسر إلى حد كبير، لماذا أعلن الرئيس السابق أوباما أن المستقبل في آسيا وفي الاتجاه شرقاً، ووثقت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وقتئذ، هذا المعنى في مقالها الشهير، بعنوان «أميركا في قرن المحيط الهادي»، مجلة «شؤون خارجية» منتصف أكتوبر عام 2011.
اللافت هنا أنه - بعد عقد تقريباً (سبتمبر «أيلول» 2022) – ردد الرئيس الروسي بوتين المفردات نفسها وبالنبرة نفسها: إن المستقبل في آسيا، مضيفاً أن الغرب في طريقه إلى الفشل. ولم يخرج الرئيس الفرنسي ماكرون عن المعنى نفسه، وحذر في مناسبات مختلفة من «اختفاء أوروبا جيوسياسياً» وسط تنافس صيني – أميركي متصاعد.

(2)
إذا صح مفهوم هويزنغا عن النهاية، فإننا نكون أمام مفارقة كبرى في تفسير ما يحدث، وهي: هل القوى الكبرى تستثمر «أزمة أوكرانيا» و«الأزمة الاقتصادية العالمية» - أميركا وروسيا والصين – من أجل تغيير النظام العالمي الراهن، وإعادة نمذجته بما يتوافق مع مصالح كل منها وطموحها في المستقبل، سواء أكان صياغة جديدة لهذا النظام أحادي القطب (أميركا) أو الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب (الصين وروسيا ودول الجنوب العالمي)؟
وفقاً لهذا السؤال – السيناريو: يكون الرئيس الروسي بوتين قد قام بإنهاء مرحلة كاملة تمتد بين معاهدة هلسنكي عام 1975 وحتى قضم القرم عام 2014 بما في ذلك الجيوب الانفصالية في مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك، ثم الحرب في أوكرانيا عام 2022 التي لم تنتهِ بعد، مروراً بتمزيق إعلان باريس عام 1991 الذي يحدد شروط سلام ما بعد الحرب الباردة.
ولا توجد مفاجأة في ذلك، فما حدث كان على مرأى ومسمع من دول العالم؛ لا سيما الدول الغربية، واعترفت مجلة «شؤون دولية» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 بهذا الوضع الجديد في ثلاث كلمات: «روسيا كسرت القواعد».
هدف بوتين المعلن هو عالم متعدد الأقطاب، ذلك أن روسيا اليوم (ثاني أكبر ترسانة نووية في العالم، وأكبر احتياطي من النفط والغاز، إضافة إلى موقع جغرافي استراتيجي وسط كتلة اليابسة الأوراسية)، تريد أن تفتح قناة اتصال للحليف الصيني على البحر المتوسط عبر أراضٍ سورية، وتمنع أميركا في الوقت نفسه من التوسع والوصول إلى الشرق، لذا فإن روسيا هدف واضح لأميركا بوصفها شرطاً أساسياً لمجابهة التحدي الذي تمثله الصين. وبالتالي سيكون عدم حسم الحرب في أوكرانيا لصالح الغرب يعني أن النظام العالمي الجيوسياسي قد تغير.
وهذا قد يضعف الموقف الاستراتيجي للغرب أمام الحلفاء والخصوم، فما الذي يضمن التزام الدول الأخرى بنظام دولي مستقر قائم على سيادة القانون، خاصة وأن هذه السيادة انتهكت أمام الجميع وباتت محسومة للأقوى؟!
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا خرجت روسيا ضعيفة من الصراع، فإن الرابح الأكبر لن يكون الغرب وحده، وإنما آسيا والصين بالمثل، لأن روسيا في هذه الحالة ستزيد من اعتمادها على الصين ودول آسيا.

(3)
الوجه الآخر في فكرة هويزنغا عن «النهاية»، يجعلنا أيضاً نتعمق في حالة الاختمار والجيشان داخل المهاد التاريخي للمرحلة الراهنة، وهي فترة (ما بين) النهاية والبداية، التي قد تسودها الفوضى وعدم الاستقرار على الصعد كافة، والحروب المحدودة بأشكال مختلفة بين ثنائيات غير متكافئة، أو العكس، فقد تسيطر على تلك الفترة المخاوف المتبادلة والتوجس والحذر في أقصى درجاته.
هل نحن على أعتاب مرحلة جديدة تنهي (اتفاقية فرساي 1919) ولا تأبه فيها الدول الكبرى بوجود «مجلس الأمن» أصلاً، وبالتالي العودة من جديد إلى عالم القرون الوسطى، حيث يحق لأي قوة عسكرية عظمى أن تستعرض عضلاتها، ولا تعترف بالقانون الدولي؟
هل نحن على موعد مع حروب الثلاثين عاماً (1618 -1648)، ولكن بأشكال وذرائع متعددة؟
هل سنشهد حرباً طويلة الأمد، لها ائتلاف دولي متغير ومتعدد، ومستويات تضامنية مختلفة؟
أو أننا أقرب لتحقيق نظرية المفكر الأسترالي هيدلي بول (1932 – 1985)، التي ضمنها في كتابه المعنون: «المجتمع الفوضوي: دراسة النظام في السياسة العالمية»؟
يقول بول: السلطة في المجتمع الدولي سوف تنتقل نحو الأعلى، وأحياناً نحو الأسفل، فضلاً عن أنها ستصبح أفقية وليست فقط رأسية، مع ظهور عدة مستويات من الولاء العابر للقوميات والحدود، وهو ما يشير إلى تشكل «قرون وسطى جديدة، كبديل عصري للنظام السياسي الشامل الذي كان سائداً في القرون الوسطى، أو ما يعرف اليوم بمرحلة (ما بعد ويستفاليا) عام 1648.
يتألف هذا النظام السياسي الجديد - كما يقول - من مجموعة من الولايات الحاكمة المتداخلة وسلطات مجزأة وولاءات متعددة‏، وبالتالي تنتهي فكرة وجود سلطة سيادية مركزية واحدة تقيم في (مكان ما) من النظام الدولي. وهذه الفكرة تتحدى اليوم نظرية الدولة في شكلها التقليدي واتفاقية «فرساي» ومجلس الأمن (الأمم المتحدة)، وكل ما هو قائم من مؤسسات دولية حتى كتابة هذه السطور.‏

(4)
كلمة السر فيما يحدث – لم تعد سراً - هي: صعود دول (غير غربية) سوف تصبح بحلول عام 2050 أكثر تأثيراً على الساحة العالمية. ورغم أن هذا الصعود لن يلغي دور الغرب المهم في تشكيل العالم الجديد، فإنه سيحد من الهيمنة الأحادية لأي قوة مهما كان اسمها.
وبعبارة أخرى، فإن مفهوم «العالمية» الجديد الذي تسعى مجموعة القوى الصاعدة (غير الغربية) لبلورته اليوم، لن يتناقض بالضرورة مع القيم والمؤسسات الغربية (كمنجز إنساني حضاري) ولكنه سيتيح للمؤسسات والتقاليد والمعايير الثقافية الأخرى فرصاً واعتبارات متساوية.
ويظهر ذلك في التحالف غير المسبوق، بين آسيا ودول الجنوب العالمي، الذي قد يرفض – في المستقبل القريب - الاختيار بين أميركا والصين وروسيا، لأكثر من سبب موضوعي:
أولاً: أن هذه القوى الصاعدة ستكون قد تطورت واستقلت بقرارها بما يكفي، خارج التنافس العالمي (الصفري).
ثانياً: أن ارتباط القوى الصاعدة باتفاقيات وشركات مع القوى الكبرى سوف يجعل من الصعب المفاضلة بينها، حيث ستحكم خياراتها المتوازنة (مصالحها أولاً). وهو تحول استراتيجي مهم، قد يلعب الدور الرئيسي في حسم ملامح نظام عالمي جديد في صورته التوافقية، ربما أقرب إلى نظرية هيدلي بول.
ثالثاً: أن انتقال مركز الثقل العالمي إلى آسيا والمحيط الهندي – الهادي والجنوب العالمي، في سبيله إلي تغيير مفهوم الجغرافيا – السياسة أيضاً، وقد يجعل من مناطق تشاركية عالمية في آسيا، لا سيما «نيوم»، أحد أهم المراكز الفاعلة في النظام العالمي الجديد، ومن الشرق الأوسط الراهن (أوروبا الجديدة)، كما أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في نبوءة جيوسياسية لافتة عام 2018، (وقبل الحرب الروسية – الأوكرانية) بأربعة أعوام!
لذلك كله من الأفضل – الآن وليس غداً - أن يفتتح الفاعلون الصاعدون في آسيا والشرق الأوسط ودول الجنوب العالمي نقاشاً فكرياً عالمياً، حول «نبوءة القرن»:
- كيف يتحول عالمنا؟ وما ملامح الجغرافيا الجديدة؟
- ما الذي علينا الاستعداد للقيام به أو العكس؟
- ما طبيعة التحديات والآفاق (ما قبل) النظام العالمي الجديد؟
* باحث مصري



أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» أشد من «طوفان الأقصى»

TT

أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» أشد من «طوفان الأقصى»

مستشفى ميداني إسرائيلي تم تجهيزه في مرآب للسيارات في الطابق الثالث تحت الأرض في مدينة حيفا تحسباً لحرب مع "حزب الله" (غيتي)
مستشفى ميداني إسرائيلي تم تجهيزه في مرآب للسيارات في الطابق الثالث تحت الأرض في مدينة حيفا تحسباً لحرب مع "حزب الله" (غيتي)

في الحروب يحرص عادة كل طرف على نصب الكمائن للطرف الآخر. أما اليوم، في الحرب الدائرة بين إسرائيل و«حزب الله»، فيبدو أن كل طرف يوقع نفسه في الكمائن. فعلى رغم أن كلا الطرفين يؤكد أنه غير معني بتوسيع نطاق الحرب، فإنهما يندفعان بشكل جارف إلى توسعتها. وعلى الجانب الإسرائيلي، تجري تدريبات حربية متواصلة على كيفية توسيعها، في حين تشير الاستطلاعات إلى أن الجمهور يؤيد هذه التوسعة. قبل شهرين فقط كان 64 في المائة من المستطلعين الإسرائيليين يؤيدون حرباً مع «حزب الله» حتى لو كان الثمن حرباً إقليمية واسعة. وفي الشهر الأخير هبطت هذه النسبة إلى 46 في المائة وهي لا تزال نسبة مرتفعة إلى حد بعيد. هذا التأييد أفزع القيادات العسكرية في تل أبيب، وجعلها تشعر بأن الجمهور لا يدرك تماماً ما قد تعنيه هذه الحرب.

أيال حولتا، المستشار الأسبق للأمن القومي في الحكومة الإسرائيلية، يقول إن حرباً كهذه ستؤدي إلى تدمير مناطق شاسعة من لبنان، ولكنها أيضاً ستلحق أضراراً كبيرة في إسرائيل، وقد توقع نحو 15 ألف قتيل فيها.

فتاة تعبر قرب دكان مغلق كتب عليه "لقد مات 4 من رفاقي. منطقة حرب" في تل أبيب (رويترز)

معهد أبحاث الإرهاب في جامعة رايخمان، أجرى دراسة حول سيناريوهات حرب مع «حزب الله» بمشاركة 100 خبير عسكري وأكاديمي، خرجوا فيها باستنتاجات مفزعة؛ إذ قالوا إن من شأن حرب كهذه أن تتسع فوراً لتصبح متعددة الجبهات، بمشاركة ميليشيات إيران في سوريا والعراق واليمن وقد تنضم إليها حركتا «حماس» و«الجهاد» في الضفة الغربية.

ورجّحت الدراسة أن يطلق «حزب الله» طيلة 21 يوماً كمية هائلة من الصواريخ بمعدل 2500 إلى 3000 صاروخ في اليوم ويركز هجومه على إحدى القواعد العسكرية أو المدن في منطقة تل أبيب، وكذلك على مناطق حساسة أخرى، مثل محطات توليد الكهرباء وآبار الغاز ومفاعل تحلية المياه والمطارات ومخازن الأسلحة. وبالإضافة إلى الدمار الذي سيحدثه هذا القصف، ستنفجر فوضى لدى الجمهور الإسرائيلي.

كذلك، سيحاول «حزب الله» الدفع بخطته القديمة، في إرسال فرق «الرضوان» لتخترق الحدود الإسرائيلية وتحتل بلدات عدة، كما فعلت «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) وأكثر.

تدمير على نسق غزة

هذا السيناريو المخيف، جاء أولاً وبالأساس لكي يصبّ بعض الماء البارد على الرؤوس الحامية التي راحت تمارس ضغوطاً على الجيش لكي يجتاح الأراضي اللبنانية. والجيش، إذ يدرك بأن القيادات السياسية اليمينية الحاكمة تحرّض عليه وتظهره متردداً وخائفاً من الحرب، ينشر في المقابل خططاً تظهر أنه جاد في الإعداد للحرب. وبحسب التدريبات والتسريبات التي يمررها، يتضح أنه يعدّ لاجتياح بري واسع يحتل فيه الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني، وربما حتى نهر الزهراني أيضاً. وهو يقول إنه في حال رفض «حزب الله» اتفاقاً سياسياً يبعده عن الحدود، فإن الجيش سيسعى لفرض هذا الابتعاد بالقوة.

ويوضح أنه سيبدأ توسيع الحرب بقصف جوي ساحق يدمر عدداً من البلدات اللبنانية على طريقة غزة، وبعدها يأتي الاجتياح. وبحسب مصادر عسكرية، فإن إسرائيل استعادت الأسلحة المتأخرة من الولايات المتحدة، بما فيها القنابل الذكية، وستستخدمها في قصف الضاحية الجنوبية في بيروت ومنطقة البقاع على الأقل.

طائرة إطفاء إسرائيلية تلقي مواد لإخماد النيران المشتعلة في الجليل الأعلى جراء صواريخ أطلقها «حزب الله» (أ.ف.ب)

ويبعد نهر الليطاني عن الحدود 4 كيلومترات في أقرب نقطة و29 كيلومتراً في أبعد نقطة، ليشكل شريطاً مساحته 1020 كيلومتراً مربعاً يشمل ثلاث مدن كبيرة، صور (175 ألف نسمة) وبنت جبيل ومرجعيون. ويعيش في تلك المنطقة نصف مليون نسمة، تم تهجير أكثر من 100 ألف منهم، حتى الآن. لذا؛ فإن الحديث عن احتلال هذه المنطقة كلها لن يكون سهلاً. فـ«حزب الله» أقوى بكثير من «حماس» ولديه أنفاق أكبر وأكثر تشعباً من أنفاق غزة، كما أنه يملك أسلحة أفضل وأحدث وأكثر فتكاً، وهو مستعد لهذه الحرب منذ فترة طويلة. وإذا كانت إسرائيل تخطط لحرب قصيرة من 21 يوماً، فإن أحداً لن يضمن لها ذلك وقد تغرق في الوحل اللبناني مرة أخرى.

جدوى الحرب ومستوطنات الشمال

بدأ الجيش الإسرائيلي في إعداد الجبهة الداخلية لمواجهة حرب طويلة، فجرى إنعاش أوامر الاحتياط الأمني في أوقات الطوارئ في المستشفيات والمصانع والمؤسسات الحكومية والرسمية والملاجئ. وهو يضع في الحسبان احتمال أن يستطيع «حزب الله» إطلاق آلاف الصواريخ والمسيّرات وضرب البنى التحتية من محطات توليد كهرباء وتحلية مياه وآبار غاز. وفي التدريبات التي جرت في الشهرين الماضيين، وضع في الحسبان أيضاً احتمال أن تتدخل إيران مباشرة. عندها ستتفاقم فوضى الملاحة في البحر الأحمر وقد يتم ضرب قبرص. وهذا يعني أن الأراضي الإسرائيلية، كلها، ستتحول إلى جبهة مشتعلة.

ويقول معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب في دراسته: «حتى الآن أطلق (حزب الله) أكثر من 5000 ذخيرة مختلفة، معظمها من لبنان، على أهداف مدنية وعسكرية في إسرائيل؛ ما أدى إلى مقتل 33 مدنياً وعسكرياً، وإحداث أضرار جسيمة. فهناك شعور قوي بعدم جدوى الحرب بالنسبة لمستقبل المنطقة الشمالية، والمستوطنات الـ28 التي تم إخلاؤها ومدينة كريات شمونة وسكانها، الذين يتساءلون متى وتحت أي ظروف سيتمكنون من العودة إلى بيوتهم».

يهود متدينون يؤدون صلاة الصباح عند هضبة في الضفة الغربية بعد وعود حكومية بضمن مزيد من الاراضي الفلسطينية (أ ب)

ترسانة «حزب الله»

بحسب التقارير ومنذ حرب لبنان الثانية، يشكّل «حزب الله» التهديد العسكري الرئيسي لإسرائيل؛ نظراً لضخامة قواته المدعومة إيرانياً وبصفته «رأس الحربة في محور المقاومة». وتتكون الترسانة الرئيسية للحزب مما لا يقل عن 150 ألف صاروخ وقذيفة وأسلحة إحصائية أخرى، بالإضافة إلى مئات الصواريخ الدقيقة الموجهة، والمتوسطة والطويلة المدى، التي تغطي المنطقة المأهولة بالسكان في إسرائيل. يكمن الضرر الرئيسي المحتمل لهذا المخزون في الصواريخ الدقيقة، والتي تشمل صواريخ كروز، والصواريخ الباليستية، والصواريخ الدقيقة القصيرة المدى المضادة للدبابات، والصواريخ الساحلية المتقدمة وآلاف الطائرات والمروحيات المُسيّرة. وفي حرب 2006، عندما خاض الجانبان حرباً استمرت 34 يوماً، كان لدى «حزب الله» نحو 15 ألف صاروخ وقذيفة، غالبيتها العظمى لم تكن موجهة ومداها أقل من 20 كيلومتراً؛ مما يعني أنها لم تكن قادرة على الوصول لمدينة حيفا شمالي إسرائيل. وقد أطلق الحزب نحو 120 صاروخاً يومياً في تلك الحرب؛ ما أسفر عن مقتل 53 إسرائيلياً وإصابة 250 وإلحاق أضرار مادية جسيمة.

أما اليوم، فإلى جانب ما ذُكر، هناك أيضاً المنظومات السيبرانية المتقدمة، القادرة على التسبب بأعمال قتل جماعي وأضرار مدمرة للأهداف المدنية والعسكرية، بما في ذلك البنية التحتية الوطنية الحيوية. الموارد العسكرية التي يملكها «حزب الله» كبيرة كمّاً ونوعاً، بما يضاهي عشرات أضعاف القدرات العسكرية لـ«حماس» قبل اندلاع الحرب. والأهمية الاستراتيجية هي أن «حزب الله» يمتلك البنية التحتية والقدرات العسكرية اللازمة لشنّ حرب طويلة، ربما لأشهر عدة، وإلحاق أضرار جسيمة بإسرائيل.

عناصر من «حزب الله» يشيعون في بيروت القيادي في الحزب محمد نعمة ناصر الذي قتل في غارة إسرائيلية (د.ب.أ)

ويضيف التقرير أنه «في حرب واسعة النطاق ضد (حزب الله)، سيتعين على أنظمة الدفاع الجوي التابعة للجيش الإسرائيلي أن تتعامل، مع مرور الوقت - وخاصة في الأسابيع الأولى من الحرب - مع وابل من الأسلحة يصل إلى آلاف يومياً، ولن يكون من الممكن اعتراضها كلها. هذه الهجمات، بما في ذلك من جبهات أخرى، مثل إيران والعراق وسوريا واليمن، يمكن أن تسبب التشبع لطبقات الدفاع الجوي الإسرائيلية، بل وربما نقصاً في وسائل الاعتراض. وهذا تهديد عسكري ومدني لم تعش مثله إسرائيل. في مثل هذا السيناريو، سيكون مطلوباً من الجيش الإسرائيلي تحديد الأولويات، سواء بين ساحات القتال المختلفة أو فيما يتعلق بتوزيع الموارد للدفاع الفعال عن الجبهة الداخلية. من المتوقع أن تعمل القوات الجوية كأولوية أولى لحماية الأصول العسكرية الأساسية، وكأولوية ثانية لحماية البنى التحتية الأساسية، وكأولوية ثالثة فقط لحماية الأهداف المدنية، التي سيكون لسلوك الجمهور فيها، أهمية كبيرة في مواجهة تحذيرات الجبهة الداخلية والحماية السلبية بمختلف أنواع الملاجئ، والتي تعدّ قليلة».

آثار صدمة 7 أكتوبر

ويحذر الدكتور العميد (احتياط) أريئيل هايمان من أن «إسرائيل، في معظمها، لا تزال تعاني صدمة جماعية مستمرة، من جراء هجوم (حماس) في 7 أكتوبر، تضر بشدة بقدرتها على الصمود. ويتجلى هذا الوضع في تقلص مؤشرات الصمود، كما تظهرها استطلاعات الرأي العام التي أجراها معهد دراسات الأمن القومي. فهناك تراجع كبير في الصمود الوطني للمجتمع الإسرائيلي، مقارنة بالأشهر الأولى للحرب. ويتجلى ذلك في انخفاض واضح في مستوى التضامن والثقة في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش الإسرائيلي، وفي مستوى التفاؤل والأمل لدى غالبية الجمهور. كل هذا، أيضاً في مواجهة ما يُعدّ «تباطؤاً» في الحرب على غزة، والتي كان ينظر إليها في البداية، على أنها حرب مبررة، وأدت في البداية إلى «التقارب حول العلم الوطني». من المشكوك الآن، إلى أي مدى سيكون المجتمع الإسرائيلي مستعداً ذهنياً لحرب صعبة وطويلة الأمد في الشمال أيضاً».

جندي إسرائيلي يتفقد الأضرار في منزل أُصيب بصاروخ أطلقه «حزب الله» على كريات شمونة (أ.ف.ب)

ويقول البروفسور بوعز منور، رئيس جامعة رايخمان، الذي ترأس البحث حول الحرب مع لبنان: «لا تخافوا، إسرائيل لن تُهزم في حرب كهذه. لكن 7 أكتوبر سيبدو صغيراً أمام ما سيحل بنا في حرب مع لبنان. سيحصل ضرر استراتيجي كبير. لكن لن يكون هناك خطر وجودي علينا. وأنا لا أريد أن أخفف وطأة هذه الحرب إلا أنني أضع الأمور في نصابها. والحقيقة أننا لا نحتاج إلى حرب كهذه؛ إذ إنه في حال التوصل إلى اتفاق في غزة سينسحب الأمر على الشمال».

وحذّر البروفسور شيكي ليفي، الباحث في اتخاذ القرارات ورئيس دائرة التمويل في الجامعة العبرية، من حرب لبنان ثالثة عالية، مؤكداً أن «الجميع يتفق على أن مثل هذه الحرب، إذا ما نشبت، ستكون حرباً وجودية، مع إصابات في الأرواح وفي الممتلكات على نطاق لم تشهده دولة إسرائيل أيضاً. هذه حرب ستضع مجرد وجود الدولة في خطر حقيقي». ويضيف، في مقال نشرته «معاريف» أخيراً أن «انعدام ثقة أغلبية الجمهور في إسرائيل بالقيادة السياسية غير مسبوق، كما ينعكس في استطلاع إثر استطلاع. الجيش متآكل حتى الرمق الأخير من الحرب المتواصلة منذ 7 أكتوبر. يوجد حد لما يمكن أن نطلبه من رجال الاحتياط الذين انفصلوا عن عائلاتهم، جمّدوا حياتهم المهنية والتعليمية ويقاتلون منذ أشهر طويلة في غزة وفي الشمال».

على رغم كل ذلك، هناك احتمال كبير في أن تختار إسرائيل فتح هذه الحرب، أو الانجرار إليها على طريق الكمائن الذاتية. فهي تواصل سياسة الاغتيالات لقادة «حزب الله»، مع علمها اليقين بأن مع كل اغتيال يأتي رد تصعيدي. في الوقت الحاضر، يحافظ «حزب الله» على السقف الذي حددته الولايات المتحدة وإيران في بداية الحرب، بمنع الانفجار الأوسع، ملتزماً بسياسة الرد وعدم المبادرة إلى عمليات كبيرة. لكن استمرار هذا الانضباط ليس مضموناً. فيكفي أن يقع أحد الأطراف في خطأ ما حتى تنفجر الأمور وتخرج عن السيطرة. وعندها لا يبقى من كلام سوى ذلك المثل القائل: «مجنون ألقى حجراً في البئر».