الحرب الأهلية في الغرب و«نبوءة القرن»

مدينة نيوم حاضنة مشروع عملاق شمال غربي السعودية ينبني بأدوات المستقبل (الشرق الأوسط)
مدينة نيوم حاضنة مشروع عملاق شمال غربي السعودية ينبني بأدوات المستقبل (الشرق الأوسط)
TT

الحرب الأهلية في الغرب و«نبوءة القرن»

مدينة نيوم حاضنة مشروع عملاق شمال غربي السعودية ينبني بأدوات المستقبل (الشرق الأوسط)
مدينة نيوم حاضنة مشروع عملاق شمال غربي السعودية ينبني بأدوات المستقبل (الشرق الأوسط)

قراءة الأحداث الكبرى باعتبارها «بداية» أو «منعطفاً تاريخياً جديداً»، من الأخطاء المنهجية الشائعة في التفكير، فقد نبهنا مؤرخ الأفكار الهولندي يوهان هويزنغا في كتابه «اضمحلال القرون الوسطى» إلى أن الثورات والحروب وانهيار الأنظمة الفكرية والسياسية، قد تكون (نهاية) مرحلة تاريخية كاملة (تغرب شمسها)، وليست بالضرورة (بداية) فجر عصر جديد.
هذه الفكرة اللامعة لا تنطبق اليوم – في تصوري - قدر انطباقها على الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي نشبت قبل عام، ووصفها عالم النفس الكندي جوردان بيترسون بـ«الحرب الأهلية في الغرب»!
اللافت في مفهوم «النهاية»، أنه يلقى قبولاً متزايداً بين الباحثين في الشرق والغرب على السواء، وهناك نغمة جديدة يتردد صداها، وهي أن حدة الاتهامات المتبادلة قد تخفي رغبة دولية شبه جماعية، في إنهاء النظام العالمي (أو اللانظام) في صورته الراهنة.

(1)
على مدار عام 2022 تفجرت كل الأسئلة - تقريباً - التي طرحت للنقاش العالمي ما بين 1989 و2021، حول النظام العالمي الجديد، ونهاية التاريخ وصدام الحضارات، والعولمة، التي نالت نصيب الأسد من النقد، حيث أدت العولمة إلى الترابط الاقتصادي وإحلال السلم لفترة بين القوى الكبرى. لكن منذ الأزمة المالية عام 2008، وحتى الركود الاقتصادي الجاري تغيرت الأحوال، وثبت أن الترابط الاقتصادي لا يضمن الاستقرار العالمي، وأن القضايا السياسية والتاريخية ما زالت مصدراً للتوتر.
ناهيك من أن تبادل الأفكار والبشر والسلع لم يولد بالضرورة وعياً عالمياً، وإن شئت الدقة فقد ثبت أن «العولمة» و«العالمية» ليستا شيئاً واحداً.
وصاغ الكاتب المخضرم توماس فريدمان – منذ سنوات – في كتابه «العالم مستوٍ... موجز تاريخ القرن الحادي والعشرين»، هذا الاختلال بين العولمة والعالمية، وأبدى قلقه على دور أميركا ومستقبلها بسبب العولمة التي تسوي العالم، فلا يبقى فيه كبير إلا بقدر ما يملك من معرفة تسهم في الإنتاج وتقديم الخدمات. فأميركا تخرج إلى العالم حتى لا تفقد دورها فيه، والعالم يتغلغل في مسام أميركا لأن لديه ما يقدمه.
كلام فريدمان يعني في العمق: أن العولمة أصبحت ضد أميركا، لأنها منحت ثمارها لما سمي «الدول والاقتصادات الناهضة»، وبالتالي لم تعد «العولمة» تفيد أميركا، بالقدر نفسه الذي استفادت منه الصين وقارة آسيا ودول الجنوب العالمي.
وهذا يفسر إلى حد كبير، لماذا أعلن الرئيس السابق أوباما أن المستقبل في آسيا وفي الاتجاه شرقاً، ووثقت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وقتئذ، هذا المعنى في مقالها الشهير، بعنوان «أميركا في قرن المحيط الهادي»، مجلة «شؤون خارجية» منتصف أكتوبر عام 2011.
اللافت هنا أنه - بعد عقد تقريباً (سبتمبر «أيلول» 2022) – ردد الرئيس الروسي بوتين المفردات نفسها وبالنبرة نفسها: إن المستقبل في آسيا، مضيفاً أن الغرب في طريقه إلى الفشل. ولم يخرج الرئيس الفرنسي ماكرون عن المعنى نفسه، وحذر في مناسبات مختلفة من «اختفاء أوروبا جيوسياسياً» وسط تنافس صيني – أميركي متصاعد.

(2)
إذا صح مفهوم هويزنغا عن النهاية، فإننا نكون أمام مفارقة كبرى في تفسير ما يحدث، وهي: هل القوى الكبرى تستثمر «أزمة أوكرانيا» و«الأزمة الاقتصادية العالمية» - أميركا وروسيا والصين – من أجل تغيير النظام العالمي الراهن، وإعادة نمذجته بما يتوافق مع مصالح كل منها وطموحها في المستقبل، سواء أكان صياغة جديدة لهذا النظام أحادي القطب (أميركا) أو الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب (الصين وروسيا ودول الجنوب العالمي)؟
وفقاً لهذا السؤال – السيناريو: يكون الرئيس الروسي بوتين قد قام بإنهاء مرحلة كاملة تمتد بين معاهدة هلسنكي عام 1975 وحتى قضم القرم عام 2014 بما في ذلك الجيوب الانفصالية في مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك، ثم الحرب في أوكرانيا عام 2022 التي لم تنتهِ بعد، مروراً بتمزيق إعلان باريس عام 1991 الذي يحدد شروط سلام ما بعد الحرب الباردة.
ولا توجد مفاجأة في ذلك، فما حدث كان على مرأى ومسمع من دول العالم؛ لا سيما الدول الغربية، واعترفت مجلة «شؤون دولية» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 بهذا الوضع الجديد في ثلاث كلمات: «روسيا كسرت القواعد».
هدف بوتين المعلن هو عالم متعدد الأقطاب، ذلك أن روسيا اليوم (ثاني أكبر ترسانة نووية في العالم، وأكبر احتياطي من النفط والغاز، إضافة إلى موقع جغرافي استراتيجي وسط كتلة اليابسة الأوراسية)، تريد أن تفتح قناة اتصال للحليف الصيني على البحر المتوسط عبر أراضٍ سورية، وتمنع أميركا في الوقت نفسه من التوسع والوصول إلى الشرق، لذا فإن روسيا هدف واضح لأميركا بوصفها شرطاً أساسياً لمجابهة التحدي الذي تمثله الصين. وبالتالي سيكون عدم حسم الحرب في أوكرانيا لصالح الغرب يعني أن النظام العالمي الجيوسياسي قد تغير.
وهذا قد يضعف الموقف الاستراتيجي للغرب أمام الحلفاء والخصوم، فما الذي يضمن التزام الدول الأخرى بنظام دولي مستقر قائم على سيادة القانون، خاصة وأن هذه السيادة انتهكت أمام الجميع وباتت محسومة للأقوى؟!
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا خرجت روسيا ضعيفة من الصراع، فإن الرابح الأكبر لن يكون الغرب وحده، وإنما آسيا والصين بالمثل، لأن روسيا في هذه الحالة ستزيد من اعتمادها على الصين ودول آسيا.

(3)
الوجه الآخر في فكرة هويزنغا عن «النهاية»، يجعلنا أيضاً نتعمق في حالة الاختمار والجيشان داخل المهاد التاريخي للمرحلة الراهنة، وهي فترة (ما بين) النهاية والبداية، التي قد تسودها الفوضى وعدم الاستقرار على الصعد كافة، والحروب المحدودة بأشكال مختلفة بين ثنائيات غير متكافئة، أو العكس، فقد تسيطر على تلك الفترة المخاوف المتبادلة والتوجس والحذر في أقصى درجاته.
هل نحن على أعتاب مرحلة جديدة تنهي (اتفاقية فرساي 1919) ولا تأبه فيها الدول الكبرى بوجود «مجلس الأمن» أصلاً، وبالتالي العودة من جديد إلى عالم القرون الوسطى، حيث يحق لأي قوة عسكرية عظمى أن تستعرض عضلاتها، ولا تعترف بالقانون الدولي؟
هل نحن على موعد مع حروب الثلاثين عاماً (1618 -1648)، ولكن بأشكال وذرائع متعددة؟
هل سنشهد حرباً طويلة الأمد، لها ائتلاف دولي متغير ومتعدد، ومستويات تضامنية مختلفة؟
أو أننا أقرب لتحقيق نظرية المفكر الأسترالي هيدلي بول (1932 – 1985)، التي ضمنها في كتابه المعنون: «المجتمع الفوضوي: دراسة النظام في السياسة العالمية»؟
يقول بول: السلطة في المجتمع الدولي سوف تنتقل نحو الأعلى، وأحياناً نحو الأسفل، فضلاً عن أنها ستصبح أفقية وليست فقط رأسية، مع ظهور عدة مستويات من الولاء العابر للقوميات والحدود، وهو ما يشير إلى تشكل «قرون وسطى جديدة، كبديل عصري للنظام السياسي الشامل الذي كان سائداً في القرون الوسطى، أو ما يعرف اليوم بمرحلة (ما بعد ويستفاليا) عام 1648.
يتألف هذا النظام السياسي الجديد - كما يقول - من مجموعة من الولايات الحاكمة المتداخلة وسلطات مجزأة وولاءات متعددة‏، وبالتالي تنتهي فكرة وجود سلطة سيادية مركزية واحدة تقيم في (مكان ما) من النظام الدولي. وهذه الفكرة تتحدى اليوم نظرية الدولة في شكلها التقليدي واتفاقية «فرساي» ومجلس الأمن (الأمم المتحدة)، وكل ما هو قائم من مؤسسات دولية حتى كتابة هذه السطور.‏

(4)
كلمة السر فيما يحدث – لم تعد سراً - هي: صعود دول (غير غربية) سوف تصبح بحلول عام 2050 أكثر تأثيراً على الساحة العالمية. ورغم أن هذا الصعود لن يلغي دور الغرب المهم في تشكيل العالم الجديد، فإنه سيحد من الهيمنة الأحادية لأي قوة مهما كان اسمها.
وبعبارة أخرى، فإن مفهوم «العالمية» الجديد الذي تسعى مجموعة القوى الصاعدة (غير الغربية) لبلورته اليوم، لن يتناقض بالضرورة مع القيم والمؤسسات الغربية (كمنجز إنساني حضاري) ولكنه سيتيح للمؤسسات والتقاليد والمعايير الثقافية الأخرى فرصاً واعتبارات متساوية.
ويظهر ذلك في التحالف غير المسبوق، بين آسيا ودول الجنوب العالمي، الذي قد يرفض – في المستقبل القريب - الاختيار بين أميركا والصين وروسيا، لأكثر من سبب موضوعي:
أولاً: أن هذه القوى الصاعدة ستكون قد تطورت واستقلت بقرارها بما يكفي، خارج التنافس العالمي (الصفري).
ثانياً: أن ارتباط القوى الصاعدة باتفاقيات وشركات مع القوى الكبرى سوف يجعل من الصعب المفاضلة بينها، حيث ستحكم خياراتها المتوازنة (مصالحها أولاً). وهو تحول استراتيجي مهم، قد يلعب الدور الرئيسي في حسم ملامح نظام عالمي جديد في صورته التوافقية، ربما أقرب إلى نظرية هيدلي بول.
ثالثاً: أن انتقال مركز الثقل العالمي إلى آسيا والمحيط الهندي – الهادي والجنوب العالمي، في سبيله إلي تغيير مفهوم الجغرافيا – السياسة أيضاً، وقد يجعل من مناطق تشاركية عالمية في آسيا، لا سيما «نيوم»، أحد أهم المراكز الفاعلة في النظام العالمي الجديد، ومن الشرق الأوسط الراهن (أوروبا الجديدة)، كما أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في نبوءة جيوسياسية لافتة عام 2018، (وقبل الحرب الروسية – الأوكرانية) بأربعة أعوام!
لذلك كله من الأفضل – الآن وليس غداً - أن يفتتح الفاعلون الصاعدون في آسيا والشرق الأوسط ودول الجنوب العالمي نقاشاً فكرياً عالمياً، حول «نبوءة القرن»:
- كيف يتحول عالمنا؟ وما ملامح الجغرافيا الجديدة؟
- ما الذي علينا الاستعداد للقيام به أو العكس؟
- ما طبيعة التحديات والآفاق (ما قبل) النظام العالمي الجديد؟
* باحث مصري



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!