علي بن مخلوف: الفلسفة العربية جزء أساسي من الإرث الثقافي للبشرية

يبذل جهوداً كبيرة لإعادة الاعتبار إليها في الغرب

علي بن مخلوف
علي بن مخلوف
TT

علي بن مخلوف: الفلسفة العربية جزء أساسي من الإرث الثقافي للبشرية

علي بن مخلوف
علي بن مخلوف

يعد علي بن مخلوف أحد الاختصاصيين الكبار في الفلسفة العربية: أي فلسفة الفارابي وابن سينا وابن رشد وسواهم. ولكنه أيضاً أحد الاختصاصيين المهمين في الفلسفة الغربية وبخاصة الفلسفة التحليلية أو الوضعية المنطقية على طريقة برتراند رسل وغوتليب فريج وفتغنشتاين، إلخ. وهي من أصعب الفلسفات وأكثرها تعقيداً. وبالتالي فقد جمع المجد الفلسفي من طرفيه العربي والأوروبي. لقد أصبح جسراً بين حضارتين أو ضفتين. وبصفته تلك فقد أسهم في إقامة مؤتمرات كبرى بين مؤسستين كبيرتين هما: مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية في الدار البيضاء، والمعهد الدولي للفلسفة في باريس. وعن هذه المؤتمرات التي شارك فيها المثقفون العرب والمثقفون الفرنسيون والأوروبيون عموماً نتجت خمسة مجلدات تحتوي على المداخلات. هذه المجلدات هي التالية: أولاً «العقل ومسألة التخوم أو الحدود التي ينبغي أن يتوقف عندها». ثانياً «دروب الفلسفة العالمية ومتاهاتها». ثالثاً «تنقلات أو رحلات النظريات الفلسفية من عالم إلى آخر». رابعاً «هل حقاً أن كل شيء نسبي يا ترى؟». خامساً «القانون والمشاركة السياسية».
هذا من جهة، وأما من جهة أخرى فيبذل علي بن مخلوف جهوداً كبيرة لإعادة الاعتبار إلى الفلسفة العربية والفلاسفة العرب الكبار في الغرب. نقصد الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن الطفيل، وابن رشد، وابن باجة، إلخ. فهؤلاء ذهبوا ضحية التقسيم التعسفي لتاريخ الفكر. فالكتب الغربية تنطّ مباشرةً من دراسة أرسطو وأفلاطون وبقية فلاسفة الإغريق قبل 2500 سنة إلى دراسة ديكارت. وهي بذلك تقفز على مرحلة العصور الوسطى كلها: أي على ألف سنة من عمر الحضارة البشرية. والمشكلة هي أن العصور الوسطى الأوروبية ليست عصوراً وسطى إسلامية أو عربية، وإنما هي العصر الذهبي للعرب! هنا يقع الإشكال. ولكن ينبغي الاعتراف بأن هذا التحقيب الأوروبي لتاريخ الفكر لا يظلم فقط الفلسفة العربية وإنما أيضاً الفلسفة المسيحية واليهودية التي سادت القرون الوسطى: أي فلسفة القديس توما الأكويني وموسى بن ميمون الذي كتب رائعته «دلالة الحائرين» باللغة العربية ثم تُرجمت لاحقاً إلى العبرية.

هذا الكلام لا يعني أنه لا يوجد فرق بين فلسفة القرون الوسطى وفلسفة القرون الحديثة. فالواقع أنه يوجد فرق أساسي. نضرب على ذلك مثلاً لذلك الانقسام الثنائي الكائن بين الإيمان والعقل، أو بين الدين والفلسفة. فهذا الانقسام حديث يعود إلى عهد ديكارت ولم يكن معروفاً في القرون الوسطى. بالنسبة إلى فلاسفة القرون الوسطى الإسلاميين، كما المسيحيين واليهود، فإن العقل هو الله أو قُلْ هو صادر عن الله مباشرةً وليس مستقلاً بذاته. أما بالنسبة إلى ديكارت ومَن تلاه فالعقل منبثق عن الذات البشرية ومستقل بذاته. من هنا نتج الشعار الشهير أو الكوجيتو: «أنا أفكر، فأنا موجود». وهذا يعني أن الفلسفة كانت في القرون الوسطى مجرد خادمة للدين أو لعلم اللاهوت، ولكنها تحررت من هذا الخضوع والتبعية في العصور الحديثة، وأصبحت مستقلة بذاتها. هنا يكمن الفرق بين العصور الوسطى والعصور الحديثة.
ولكن الشيء المدهش الذي يثير الإعجاب لدى فلاسفة العرب هو أنهم كانوا يحترمون الحقيقة من أي جهة جاءت أو أينما وجدوها. وكانوا يعتقدون أنه ينبغي أن نستفيد من المعرفة ولو جاءت من جهة شعوب أجنبية غريبة عنّا؛ بل حتى غير مسلمة. «علينا أن نأخذ الحقيقة من أي كان، سواء كان مشاركاً لنا في الملّة أم لا»، كما قال الكندي حرفياً. وضمن هذا المنظور الواسع نلاحظ أن «كتاب الملة» للفارابي أي «كتاب الدين» لا يتضمن أي هجاء أو شتم أو تكفير للأديان الأخرى كما يفعل الأصوليون عادةً. أبداً، أبداً. إنه خالٍ تماماً من الروح الطائفية التي كانت ملازمة لتفكير القرون الوسطى. وبالتالي فهو يتحدث عن الدين أو عن الأديان كلها من وجهة نظر فلسفية محضة، ويضعها على قدم المساواة. وموقف الفارابي هذا مدهش جداً وسابق لأوانه بكثير. وقُل الأمر ذاته عن أبي العلاء المعرّي، نابغة الزمان.
والآن نطرح هذا السؤال: كيف برّر الفلاسفة العرب أخذ العلم عن فلاسفة اليونان؟ عن هذا السؤال يجيب علي بن مخلوف قائلاً ما معناه: لقد انتشرت الفلسفة في العالم العربي الإسلامي بصفتها حكمة لا فلسفة. وذلك لأن كلمة الحكمة ليست غريبة على الأذن العربية. بل هي عربية قُحّة. نقول ذلك ونحن نعلم أن كلمة «حكيم» هي أحد أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين. وبالتالي فلا اعتراض عليها. بل هي محترَمة ومقبولة تماماً في مجتمع مسلم مجبول جبلاً بالنص القرآني المقدس. لقد فكّر الفلاسفة المسلمون على النحو التالي: إذا ما قدمنا للجمهور المسلم فكرنا على أساس أنه فلسفة فسوف يجفل فوراً ويبتعد عنّا بل يشكّ فينا وفي إيماننا وصحة عقيدتنا. ولكن إذا ما قدمناه على أساس أنه حكمة، فسوف يقبل بنا ويُقبل علينا بلا أي مشكلة. وهذا ما فعله ابن رشد في كتابه الشهير: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». فلم يضع كلمة «فلسفة»، الغريبة الشاذة الأجنبية، على العنوان. لقد تحاشاها بشكل تكتيكي ذكي. ولكنه منذ الفقرة الأولى من الكتاب عاد إلى استخدام كلمة فلسفة! وهذا يعني أنه اتَّبع حيلة معيّنة ماكرة لكيلا يصدم الجمهور المسلم. وهذا ما فعله الفارابي أيضاً قبله في كتابه الشهير: «الجمع بين رأيي الحكيمين أرسطو وأفلاطون». فلم يقل «الجمع بين رأيي الفيلسوفين». ولكن على أي حال فإن كلمة فلسفة في اللغة اليونانية تعني حب الحكمة. وبالتالي فالكلمة العربية مطابقة للكلمة اليونانية من حيث المعنى. لقد حاول الفلاسفة العرب إقامة التوفيق أو المصالحة بين النصوص المقدسة من جهة، والفلسفة الوثنية لأفلاطون وأرسطو من جهة أخرى. ولكنهم ما كانوا يقولون عنهم إنهم فلاسفة وثنيون وإنما يستخدمون كلمة «المتقدمين» أو القدماء: أي أرسطو وأفلاطون وسواهما من فلاسفة اليونان. وذلك لأنهم لو قالوا إنهم وثنيون لانفضّ عنهم الجمهور المسلم فوراً؛ بل لكفَّرهم أيضاً؛ إذ كيف يمكن أن تتأثروا بفلاسفة وثنيين أو تقيموا لكلامهم وزناً؟ معاذ الله، أعوذ بالله.
على أي حال، ربما لهذا السبب كان وجود الفلسفة في العالم الإسلامي دائماً مهدداً ومحفوفاً بالمخاطر. بل حتى في عصرنا الحاضر، فإن الأصوليين المحافظين يتهمون الفلسفة بأنها تُبعد عن الدين بل بأنها عدوّة للدين. وفي كل الأحوال فقد استطاع الفقهاء الكبار القضاء عليها بسرعة في نهاية المطاف، بدءاً من الإمام الغزالي وانتهاءً بابن خلدون، مروراً بابن تيمية وعشرات آخرين. «مَن تمنطق فقد تزندق». أعوذ بالله من الكفر والكفار. ولم تقم لها قائمة في أرض الإسلام منذ موت ابن رشد عام 1198 وحتى القرن التاسع عشر، حيث ابتدأت بشائر عصر النهضة.
لقد ماتت الفلسفة عندنا طيلة سبعة قرون متواصلة. وفي هذه القرون السبعة الانحطاطية التي نمنا فيها على التاريخ، تحققت أكبر الفتوحات العلمية والفلسفية في أوروبا. في هذه القرون ظهر كوبرنيكوس، وغاليليو، وديكارت، وسبينوزا، وكانط، وهيغل، وماركس، وفرويد، وعشرات غيرهم من النجوم والأعلام. ثم يستغرب بعضهم متسائلين: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ ولكن إذا ما عُرف السبب بطل العجب.
ينبغي ألا ننسى أن البروفسور علي بن مخلوف من مواليد مدينة فاس العريقة التي لطالما أنجبت العلماء والمفكرين على مدار العصور. نذكر من بين أشهر كتبه: «الفارابي: التفلسف في بغداد إبان القرن العاشر الميلادي». وهنا يقول لنا المؤلف إن المعلّم الثاني بعد أرسطو، أي الفارابي، هو الذي دشَّن المدرسة المنطقية والفلسفية العربية في عاصمة العباسيين وفي عهد البويهيين. وعندئذ تشكل تيار فكري كوني كوسموبوليتي تتناغم فيه المصادر الإغريقية مع التفاسير القرآنية مع كتب البلاغة والشعرية العربية. وكانوا يقرأون كتب الدين وكتب أفلاطون وأرسطو معاً بكل حرية.
ولا ننسى كتابه التالي: «لماذا نقرأ فلاسفة العرب؟ الإرث المنسيّ». هذا الكتاب يقول لنا ما معناه: الفلسفة العربية كما تجسدت في التاريخ بين القرنين الثامن والخامس عشر تشكّل جزءاً لا يتجزأ من الإرث الثقافي للبشرية. وهذا سبب كافٍ لكي نهتم بها وندرسها.
أخيراً عندما سألوا علي بن مخلوف: كيف يمكن تقليص ظاهرة التطرف الديني في العالم الإسلامي؟ أجاب بما معناه: الحل الوحيد هو في التربية والتعليم والتنوير. ونضيف من عندنا: ما دام كلام الشيوخ المتزمتين هو السائد وليس التعليم الفلسفي النقدي للدين، فلا حل ولا خلاص. المسألة فكرية قبل أن تكون سياسية. ولن تُحل سياسياً ما لم تُحل فكرياً ومعرفياً في العمق. ينبغي أن يظهر تعليم جديد للدين الإسلامي في العالم العربي. المقصود تعليم مستنير بضوء العقل ونور الفلسفة. هذا الشيء أصبح حاجة ماسة. وينبغي أن ينتشر هذا التعليم الجديد المستنير لتراثنا العربي الإسلامي الكبير في المدارس والجامعات والفضائيات لكي يواجه التعليم التقليدي، وأكاد أقول: الظلامي المسيطر كلياً تقريباً. فالفلسفة، أي الفكر النقدي المضيء، هي وحدها القادرة على تحجيم العقلية الدوغمائية المتحجرة التي تفرّخ المتطرفين والإرهابيين. نقول ذلك ونحن نعلم أن تراثنا الديني العظيم يحتمل قراءتين: الأولى منفتحة والأخرى منغلقة، الأولى متسامحة والأخرى متعصبة، الأولى تنويرية والأخرى تكفيرية. ولكم الخيار!


مقالات ذات صلة

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب «الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

رشا أحمد (القاهرة)
يوميات الشرق من ندوة حوارية بعنوان «دور الجمعيات المهنية في تنمية الصناعة الثقافية» (جدة للكتاب)

الجمعيات المهنية ترسم ملامح صناعة ثقافية منظَّمة بالسعودية

كيف تتحوَّل الثقافة من نشاط قائم على الموهبة والاجتهاد الشخصي إلى صناعة منظَّمة؟

أسماء الغابري (جدة)
ثقافة وفنون «البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026

«الشرق الأوسط» (عمان)

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟
TT

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي. كانت الأولى مدفوعة بحماس نهاية العالم الذي رافق الصحوة الكبرى الثانية، فيما استُمدّت الرؤية الثانية من التفاؤل الجامح للمؤسسين أمثال توماس جيفرسون. وَعَدَت الأولى بأن الصالحين سيرتقون، فيما أقسمت الثانية بأن بإمكان الجميع فعل ذلك.

لكن اليوم، تبدو أسس الصعود غير ذات صلة. كل شيء أصبح أغلى ثمناً -رعاية الأطفال، والإيجار، والرهون العقارية، والتأمين الصحي، وفواتير الخدمات، والبقالة، والمطاعم، والأدوات المنزلية، وخدمات البث، وتذاكر الحفلات الموسيقية، وتذاكر الطيران، ومواقف السيارات، ناهيك بهدايا الأعياد... الرواتب ثابتة، وقوة العمال متحجرة، ومعركة مكافحة التضخم مستمرة للعام الخامس.

كيف ومتى أصبح الارتقاء الاجتماعي بعيد المنال كما يبدو؟ تتناول الكتب المعروضة هنا، هذا السؤال مباشرةً؛ إذ يتعمق بعض المؤلفين في كيفية تشكل الثغرات في طريق الحياة الأفضل؛ بينما يحدد آخرون مواطن الضغط الحالية. وتُظهر هذه الكتب مجتمعةً أن الأميركيين كافحوا لإصلاح اقتصادهم منذ تأسيس الولايات المتحدة، وأن جهود جيلٍ ما غالباً ما تؤتي ثمارها في الجيل الذي يليه.

كتاب «ثمن الديمقراطية» لفانيسا ويليامسون

من الضرائب المفروضة خلال حفلة شاي في بوسطن إلى التعريفات الجمركية في العصر الذهبي، قلّما نجد ما يُحدد التاريخ الأميركي مثل الضرائب. في هذا السرد التحليلي الدقيق للضرائب في الولايات المتحدة، تُجادل ويليامسون، الباحثة في معهد بروكينغز، بأن السياسة الضريبية تتجاوز مجرد تمويل الحكومة، فهي آلية لتوزيع السلطة والحفاظ عليها، فلطالما دعمت الضرائب أثرياء البلاد على حساب بقية الشعب. وتكتب ويليامسون أنه بعد الثورة، كانت أبيجيل آدامز من بين النخب التي اشترت سندات الحرب الحكومية متراجعة القيمة بأبخس الأثمان، ثم شاهدت قيمتها ترتفع مع رفع ماساتشوستس الضرائب لسدادها، على حساب المزارعين البسطاء في الغالب.

وعلى الرغم من هذه التفاوتات، فإن أطروحة ويليامسون المفاجئة هي أن الضرائب، عند تطبيقها بشكل صحيح، تُفيد الديمقراطية. فقد أسهم فرض ضريبة الدخل في ستينات القرن التاسع عشر في دعم المجهود الحربي للاتحاد، مما ضمن عدم تحميل الفقراء وحدهم عبء التكاليف.

وبعد الحرب، فرضت حكومة إعادة الإعمار في كارولاينا الجنوبية ضرائب على الأراضي، مما زاد عدد الأطفال الذين يمكنهم الحصول على التعليم العام بأكثر من أربعة أضعاف، حتى في ظل تفشي التهرب الضريبي.

وتجادل ويليامسون بأن معارضة الضرائب لطالما تستّرت وراء دعوات العدالة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في غياب الشعور بالانتماء. وتكتب أنه في نهاية المطاف، عندما يسهم الناس في تمويل حكومة فعّالة، يصبحون أكثر ميلاً للمطالبة بحقهم في إبداء رأيهم فيما تفعله، ويتوقعون منها الاستجابة.

«حرية رجل واحد» لنيكولاس بوكولا

بين مقاطعة حافلات مونتغمري في خمسينات القرن الماضي وانتخابات عام 1964، طرح زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ والمرشح الرئاسي الجمهوري باري غولد ووتر، أفكاراً مؤثرة حول معنى «الحرية» في أميركا. في هذه الصورة المزدوجة المُلهمة، يُعيد بوكولا بناء كيفية تصادم حركتيهما، إذ قدّم كلا الرجلين مفهوماً مختلفاً للحرية، مُرسّخاً فهماً مُغايراً للنظام الاقتصادي الأمثل: اقتصر مفهوم كينغ عن الحرية على المساواة في الوصول إلى السلع والخدمات العامة، فيما استندت رؤية غولد ووتر للحرية إلى حقوق الملكية الشخصية.

يتتبع بوكولا، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة «كليرمونت ماكينا»، كيف أصبحت رؤاهما المتنافستان، اللتان عَبّرا عنهما في خطاباتهما ومواعظهما ومناقشات مجلس الشيوخ، المنطق الأخلاقي المزدوج لأميركا الحديثة: أحدهما يُقدّس السوق، والآخر يُطالب بإصلاحها. حذّر غولد ووتر من أن «الحكومة الكبيرة» -بضرائبها وشبكات الأمان الاجتماعي- و«العمالة الكبيرة» -بضغطها التصاعدي على الأجور- تُهدّدان «نمط الحياة الاقتصادي الأميركي». وردّ كينغ بأن الحقوق السياسية دون فرص اقتصادية هي حقوق جوفاء. ويرى بوكولا أن تحالف الحقوق المدنية الذي قاده كينغ أسهم في إفشال حملة غولد ووتر، لكن أفكار غولد ووتر انتشرت في أوساط السياسة الأميركية، مُشكّلةً ثورة ريغان وعولمة السوق الحرة في عهد كلينتون.

«أمراء التمويل» للياقت أحمد

في كتابه التاريخي الحائز جائزة «بوليتزر» عام 2009، يتتبع أحمد مسيرة أربعة رجال سيطروا على البنوك المركزية الكبرى في العالم في السنوات التي سبقت الكساد الكبير، وهم: مونتاجو نورمان (بنك إنجلترا)، وبنيامين سترونغ (بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك)، وإميل مورو (بنك فرنسا)، وهيالمار شاخت (بنك الرايخ).

يتناول هذا الكتاب التاريخ العالمي، ولكنه يُعدّ جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الأميركي، إذ لطالما امتدت آثار الاقتصاد الأميركي عبر الحدود الوطنية. وبينما كانت الاقتصادات الأوروبية تعاني من الركود بعد الحرب العالمية الأولى تحت وطأة التعويضات والديون، استخدم سترونغ خطوط الائتمان الأميركية للمساعدة في إنعاش البنوك الأوروبية.

«الصندوق الراديكالي» لجون فابيان ويت

لم يعتمد الأميركيون دائماً على الحكومة لتحسين أوضاعهم المعيشية. فقد شهدت عشرينات القرن الماضي ازدهاراً في الأسواق وتفاقماً في عدم المساواة. وكان رأس المال الخاص في كثير من الأحيان شريان الحياة الوحيد لمن يكافحون الفقر والفصل العنصري المتجذر والاعتداء واسع النطاق على الحريات المدنية.

في عام 1922، رفض تشارلز غارلاند، وريث وول ستريت، المصرفي البالغ من العمر 23 عاماً من ولاية ماساتشوستس، التربح من نظام رآه ظالماً، وتبرع بكامل ميراثه البالغ مليون دولار؛ لتأسيس الصندوق الأميركي للخدمة العامة. وكما يُبين ويت في كتابه التاريخي الشيق عن الصندوق الفيدرالي، فقد أصبح هذا التنازل محركاً مالياً دعم الأفراد والمؤسسات التي ستُشكل لاحقاً برنامج الصفقة الجديدة، وحركة الحقوق المدنية.

تحت قيادة روجر بالدوين، من الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، دعم الصندوق مشاريع عالم الاجتماع الأسود دبليو إي بي دو بويز. دو بويز، ونورمان توماس، حامل لواء الحزب الاشتراكي، وماري وايت أوفينغتون، المؤسِّسة المشاركة للجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين. وأشعلت نضالاتهم شرارة تحالفات عمالية واسعة النطاق، مثل مؤتمر المنظمات الصناعية، والحملات القانونية التي بلغت ذروتها في قضية براون ضد مجلس التعليم.

«بابيت» لسنكلير لويس

يسأل جورج ف. بابيت، رجل العقارات المولع بالأجهزة، وسائق سيارة بويك، والمنتمي إلى نادٍ ريفي، والذي يُمثّل محور رواية لويس الساخرة التي صدرت عام 1922، عن الرضا الذاتي للطبقة الوسطى: «بصراحة، هل تعتقدين أن الناس سيظنونني ليبرالياً أكثر من اللازم لو قلتُ إن المضربين كانوا محترمين؟». تدور أحداث هذه الرواية وسط احتجاجات عاملات بدالة الهاتف في مدينة زينيث الخيالية في الغرب الأوسط الأميركي.

تجيبه زوجته: «لا تقلق يا عزيزي، أعرف أنك لا تعني كلمة مما تقول». ومع ذلك، فإن مساعدة المضربين هي أول ما سيفعله ذلك الشاب الجامعي -الذي كان يحلم بالدفاع عن الفقراء. يعترف لابنه لاحقاً قائلاً: «لم أفعل في حياتي شيئاً أردته حقاً!». ثم يمر بأزمة منتصف العمر قصيرة الأمد. ينخرط في الأوساط البوهيمية، ويقيم علاقة غرامية مع أرملة، ويثير ضجة في ناديه الرياضي. لكن عندما يُقابل بتجاهل مجتمعه، ومرض زوجته، ينهار بابيت.

حققت الرواية مبيعات هائلة، ودخل عنوانها إلى اللغة الدارجة: أصبح «بابيت» اختصاراً للشخص المتوافق مع التيار السائد، العالق في عالم ضيق الأفق. لقد أدرك لويس، أول أميركي يفوز بجائزة نوبل في الأدب، ما يغيب غالباً عن الاقتصاديين: الحلم الذي انتقده ليس طموحاً، بل هو إجباري. الانسحاب يعني النفي، لذا يبقى معظم الناس في الداخل، مبتسمين في الفراغ.

* تكتب أليكسس كو عموداً عن التاريخ الأميركي في ملحق الكتب بصحيفة «التايمز». وهي زميلة بارزة في مؤسسة «نيو أميركا»، ومؤلفة كتاب «لن تنسى أبداً بدايتك: سيرة جورج واشنطن».

خدمة «نيويورك تايمز».


هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية
TT

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، الصادر عن «دار بيسان للنشر والتوزيع» (الطبعة الأولى، نوفمبر «تشرين الثاني» 2025)، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان، لتقدِّم عملاً أدبياً يستند إلى الذاكرة الشخصية والجماعية، ويعيد صياغة تجربة الحرب الأهلية بلغة وجدانية وتأملية بعيدة عن المباشرة والتقرير.

الكتاب ليس سرداً زمنياً للحرب، ولا توثيقاً صحافياً بالمعنى التقليدي؛ بل هو مجموعة نصوص مفتوحة تتداخل فيها السيرة الذاتية مع المشهد العام، ويتحوَّل فيها المكان إلى كائن حي، والمدينة إلى وتر مشدود على الألم والفقد والصمود.

تستعيد هدى سويد نصوصاً كُتبت في قلب الحدث أو على مقربة منه، وتعيد جمعها بعد سنوات طويلة، في محاولة لمواجهة الذاكرة؛ لا للهروب منها، ولتحويل ما تبقَّى من الرماد إلى كتابة. تتنقَّل نصوص الكتاب بين الوجداني والسردي، بين اليومي والرمزي، حاملة آثار القصف، والرحيل، والخوف، وأسماء الأمكنة التي تغيَّرت أو اختفت، وأصوات البشر الذين مرُّوا في الحياة ثم غابوا. وفي خلفية هذه النصوص، تبرز تجربة الكاتبة الصحافية التي عملت في الصحافة الاستقصائية والتحقيقات الميدانية والمقابلات الثقافية والسياسية، ما يضفي على اللغة حسّاً واقعياً لا يلغي بُعدها الشعري.

في مقدمة الكتاب، تكشف هدى سويد عن الصعوبة التقنية والنفسية التي رافقت جمع هذه النصوص، بدءاً من استعادتها من أرشيف صحافي قديم، وصولاً إلى الغوص مجدداً في زمن الحرب. تعترف بأن العودة إلى تلك المرحلة أعادتها إلى ليالي القصف ونهارات الخوف، إلى صور الموت والتهجير وسيارات الإسعاف، وأنها كثيراً ما توقفت أمام النصوص باكية، مثقلة بثقل الذاكرة. من هنا، يأتي الكتاب بوصفه فعل مواجهة، لا حنيناً، ومحاولة لفهم الماضي لا لتجميله.

تضم المجموعة عناوين تشكِّل معاً لوحة فسيفسائية لمدينة مجروحة، مثل: «حين يصغر المكان»، و«أضغاث وقت»، و«طريق الصحراء»، و«لكَ المدينة»، و«عزف رحيل على أوتار مدينة». وهي نصوص لا تَعِد القارئ بالفرح، ولكنها تفتح له باب التأمل فيما جرى، وفي أثره المستمر على الحاضر؛ خصوصاً لجيل لم يعش الحرب؛ لكنه يرث ظلالها.

شهادات نقدية

في مقدمة الكتاب، يرى الناقد والشاعر محمد فرحات أن هدى سويد تلتقط من الحرب «قبساً؛ لا المحرقة كاملة»، وتحوِّل التجربة إلى لغة تصف الواقع وتعيد نحته في آن. ويشير إلى أن الكتابة هنا ليست تحقيقاً صحافياً؛ بل هي أدب يعيد رسم الأمكنة والبشر في زمن الزلزال؛ حيث تتخذ اللغة شكلاً مفتوحاً، مرناً، قادراً على احتواء الفوضى الإنسانية للحرب الأهلية. أما الكاتب والصحافي أحمد أصفهاني، فيتوقف عند فعل «الانتقاء» الذي قامت به الكاتبة لنصوصها القديمة، معتبراً أن هذا الفعل يشبه نفض غبار العمر عن لحظات ولادة قاسية. ويؤكد أن سويد لم تفصل ذاتها عن الحدث؛ بل أخذت القارئ معها في رحلة إلى أمكنة وأزمنة ما زالت محفورة في الذاكرة؛ حيث تتقاطع المهنية الصحافية مع الحس الإنساني العميق.

من جهته، يرى الشاعر والناقد أنطوان أبو زيد أن «عزف على أوتار مدينة» يندرج ضمن أدب الذكرى والتأمل في الزمن المُر، ويشير إلى أن القارئ يواجه نوعين من النصوص: وجدانيات مشبعة بالخوف والفقد والوحشة، ونصوص تخييلية جميلة تنفتح على التحليل والتأمل. ويعتبر أن قوة الكتاب تكمن في قدرته على تحويل الألم إلى مادة أدبية، لا لتثبيته؛ بل لإعادة التفكير فيه.


«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة
TT

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

في كتابه «الخروج من الظل - قراءة في القصة النسائية القصيرة في مصر» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يركز الناقد الراحل دكتور محمد سيد إسماعيل على نموذج الأنثى المتمردة، كما رسمت ملامحها عدد من الكاتبات اللواتي يمثلن تجارب ومنطلقات مختلفة مثل رضوى عاشور وهالة البدري وسلوى بكر، مشيراً إلى أن هذا التمرد غالباً ما يتجه إلى سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها تحت مبررات واهية.

عشق يصدم المجتمع

في قصة «رأيت النخل» لرضوى عاشور، تبدو الشخصية الرئيسية في مواجهة مجموعة من «التقاليد» المجتمعية الراسخة التي تقرر للمرأة بعض الأعمال وتستهجن قيامها بأعمال أخرى. لكن (فوزية) لا تقر هذا ولا تلتزم به وتؤكد «تمردها» الدائم عليه. هي مغرمة بالنبات، غراماً يجعلها تراه في أحلامها وتستحضر دائماً ما كان يرويه أبوها عن النخل الذي يشبه الإنسان في استقامة القد والجمال، وخلقه من ذكر وأنثى وكيف أن «جُماره» في رأسه كعقل الإنسان في رأسه إن أصابها سوء هلك؛ ولهذا فقد كانت تركض خلف نواه وتخبئه في جيبها العميق، وعندما ترجع إلى البيت تضعه في قطنة مبللة حتى يلين وينتفخ ثم تدفنه في الطين وتغمره بالماء.

تقول فوزية: «في عملي لا يفهمونني، وفي الحي أيضاً. سمعتهم بأذني يقولون فوزية المجنونة التي تلقي بنفسها على نوى تمر كأنه جنيهات الذهب». إن الاعتراض على هذا العمل يرجع في الأساس إلى النظر إليه بوصفه من أعمال الرجل؛ وأن الأنثى التي تمارسه إنما تخرج بذلك عن طبيعتها؛ وهي نظرة لا ترى في المرأة إلا كائناً ضعيفاً أو ينبغي أن يتصف بالرقة والجمال الحسي إلى آخر هذه المواصفات التقليدية الشائعة.

يظهر ذلك بوضوح في اعتراض إحدى زميلات (فوزية) على سلوكها: «في العمل أيضاً يتهامسون وراء ظهري. في مرة قالت لي زميلتي:

- انظري يا فوزية إلى يديك.

ففهمت أنها تشير إلى الخطوط السوداء تحت الأظافر فقلت

- هذه ليست وساخة، إنه طين متخلف من الزرع الذي أزرعه.

قالت وهي تربت على كتفي: «لا يليق لا يليق أبداً وأنت موظفة!».

تضفي المؤلفة بعض الصفات الضرورية على شخصية «فوزية» ومنها صفة «الإصرار» التي تظهر في أول مشاهد القصة حين تخرج بحثاً عن بعض أنواع «البراعم» في الشتاء القارس: «طال الشتاء فلم أعد قادرة على الانتظار، لبست معطفي القديم وربطت رأسي بمنديلي الصوفي ونزلت إلى الشوارع أقطعها وأتوقف عند الشجر، أنظر وأتحقق. وعندما تفشل عيناي في رؤية شيء على الفروع الجافة أمد يدي أحس وأتحسس».

ويبدو أن تمرد هذه الشخصية وإصرارها استطاعا «خلخلة» هذه التقاليد المجتمعية المضادة على نحو ما يظهر في نهاية القصة، حين تقول (فوزية): «اليوم جاءتني امرأة تسكن في نفس الشارع وقالت رأيت أصص الزرع في الشرفة، قالت إنها جميلة وسألتني على استحياء أن أعلمها فأريتها كيف، أهديتها عود نعناع كنت قد زرعته ثم جلسنا وتحدثنا».

صرخة زوجة

وإذا كانت رضوى عاشور قدمت نموذج الشخصية المتمردة على التقاليد المجتمعية المستقرة، فإن هالة البدري في قصة «مرآة» تتمرد من خلال شخصية الساردة على وضعية «أسرية» خاطئة، لأنها تقوم على العطاء من جانب أو طرف واحد، وهو الزوجة التي ترعى زوجها وأبناءها دون مقابل معنوي، الأمر الذي جعلها تطرح تساؤلاً مريراً: «هل هناك ما يستحق أن أقتلع سنوات عمري لأصفّها أحجاراً لأساس أعلم أن نزوة ريح قادمة لا ريب لكي تدحرج كل منها في اتجاه».

ومن ثنايا هذا السؤال الاستنكاري يبدأ تمردها الذي ظل يتصاعد من مستوى إلى آخر، يبدأ المستوى الأول بكشف زيف الزوج: «الآن أستطيع أن أبتسم له وأنا في قمة يأسي من عدم فهمه لأي شيء» أو قولها تصويراً لسلبيته وأنانيته: «الآن عرفت أنك لا تسمع شيئاً، أنت تتلقى فحسب، كيف غاب عني هذا لسنوات، من المسئول؟ أنا بأوهامي عن أعبائك أم أنت».

وتصور عزوفه عن الحياة بأنه ليس زهداً «بل تركيب مرآه تعكس فحسب، ولا تشع».

يتصاعد هذا التمرد متحققاً على مستوى الأداء «الأسلوبي» فيتحول من أسلوب «التصوير» الفني القائم على عنصري «الاستعارة» و«التشبيه» إلى الأسلوب المباشر المتسم بالحدة والوضوح على نحو ما يظهر من وصفها الباتر لهذا الزوج: «أنت مخلوق هلامي لا يشعر، لا يتأوه».

ويصل التمرد إلى ذروته حين تكشف الزوجة عن تناقض رؤيتها للحياة مع رؤية زوجها قائلة: «أنت زاهد فيها وأنا أريدها بكل ما فيها من ألم ويأس وسعادة ونجاح، قمة التحقق أن تدمينا وتبكينا وتأخذ منا وتهبنا ونختطف منها ما نشاء، أن ننتشي بالحب والموت والميلاد، وأن نطمح للقمم والروابي، أن نطير فنمسك بالسحب، أن نسقط معها مطراً، أن تتمزق أجسادنا أشلاء فوق صخورها، وأن ندفن فننمو زهوراً يانعة من جديد».

تساؤلات طفلة

تبدو فكرة «الرجولة» أو مفهومها الحقيقي أحد الدلالات الأساسية في قصة «ابتسامة السكر» لسلوى بكر، واللافت حقاً أن طرح هذا «المفهوم» يتم من منظور طفلة تتخذ موقع الراوي الداخلي المشارك في الأحداث. تقوم الأم بتلقينها وصايا ومفاهيم حول الرجولة، كما أن المؤلفة لم تفرض على الطفلة وعياً يعلو على طبيعة إدراكها في مثل هذه السن المبكرة، كما لم تفرض عليها لغة لا تتناسب مع المفردات المتداولة في مثل تلك المرحلة.

ومن خلال تأمل الراوية الطفلة لأوصاف أبيها الراحل التي ترد على لسان الأم، تطرح مفهومها الخاص للرجولة والذي يتمرد على المفهوم السائد، فهي ترفض بداية أن يكون «طويلاً عريضاً يسد الأبواب» وكأننا أمام ترميز خفي يقوم على رفض الرجولة التي تقف حائلاً أمام رغبات الآخرين كما يبدو من سؤال الطفلة البريء: «لو كان هناك أي شخص يرغب في المرور، هل من الأدب أن يسد أبي الباب ويمنعه من ذلك؟».

وهكذا، تجد أنفسنا أمام تفكيك لمفهوم الرجولة ينزع عنها فكرة الاحتكام إلى «الهيئة» أو «المظهر»، فحين تقارن هذه الطفلة بين شقيقها الذي ينهرها دائماً وأختها (أسماء)، تقول: «أسماء أكبر منه وأطيب منه، تساعد أمي في الطبخ وغسل الصحون، ولا تجعلها تعد لها الشاي أثناء المذاكرة كما يفعل هو، لكن أمي لا تقول عنها إنها سوف تكون رجل البيت».