«الصخرة»... عمل يستنطق التاريخ ويحوله إلى مادة حية

كنعان مكية خلق فيها عالماً من السرديات والمرويات

«الصخرة»... عمل يستنطق التاريخ ويحوله إلى مادة حية
TT

«الصخرة»... عمل يستنطق التاريخ ويحوله إلى مادة حية

«الصخرة»... عمل يستنطق التاريخ ويحوله إلى مادة حية

كيف يمكن أن تتحول مفردة صغيرة، وهي جزء من الطبيعة، إلى حدث مرتبط بالروح والعقيدة والتاريخ؟ تلك هي «الصخرة» رواية الكاتب كنعان مكية، الذي استطاع أن يصنع من هذه الصخرة عالماً كاملاً من السرديات والمرويات والمشاعر. «الصخرة» رواية كتبها كنعان مكية قبل أكثر من عشرين عاماً باللغة الإنجليزية وترجمها سليم سوزه وطبعت مترجمة عن «دار الجمل» في 2022، تناول فيها سرديات الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وكيف شكلت تلك الصخرة جزءاً من عقائد وروحانيات تلك الأديان.
العمل حسب ما أرى أكبر من الرواية. إنه التاريخ والدين مصاغان بسردية محبوكة بخيوط روائية وبتقنيات سردية عالية التأثير فنياً وعاطفياً. وحين أقول إنها أكبر من الرواية فذلك له مبرراته، لأن الروائي لم يكتب حكاية سمع بها أو عاشها، إنما غاص في بطون التاريخ كأي باحث عليم بمادته، فجمع كل ما يتعلق بتلك الصخرة القابعة في بيت المقدس من كل كتب الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية، وهذا لا شك جهد كبير يشكل عبئاً ومغامرة لأي روائي يستنطق التاريخ ويحوله إلى مادة حية تتحرك بيننا، وكأننا جزء من حركة ذلك التاريخ وهمومه.
بطل الرواية هي الصخرة نفسها، بقدسيتها وبتنازع الديانات عليها. وبدأت تحاك سرديات عجيبة وحكايات يختلط فيها السحر بالخرافة، والأسطورة بالميثولوجيا. تدور أحداث الرواية على لسان ابن كعب الأحبار، الذي اسمه إسحاق، وبمدة زمنية تقترب من الستين عاماً ما بين ثلاثين إلى تسعين للهجرة، حيث تدور أحداثها في تلك المدة من تأسيس الدولة الإسلامية.
إسحاق ابن كعب الأحبار كان الراوي العليم في هذا العمل، يروي الأحداث كاملة من أول لحظة فُتح فيها بيت المقدس على يد الخليفة عمر بن الخطاب، حتى بناء قبة الصخرة على يد عبد الملك بن مروان، والحوار الذي تشبعت به الرواية هو حوار حقيقي، موجود معظمه في بطون الكتب التاريخية والكتب المقدسة، وهنا تكمن المعضلة في صياغة التاريخ الموجود أصلاً كمرويات وسرديات إلى حبك هذه المأثورات التاريخية وتحويلها إلى حوار وشخصيات وزمان ومكان وحزن وفرح.
ويصرح مكية بذلك في نهاية العمل، حيث يقول: «لم أعط لنفسي الحرية في تغيير ما هو موجود في المصادر الأصلية التي استقيت منها معلوماتي، باستثناء بعض الحالات الملحة التي تتعلق باللغة والاستمرارية، وتعديل بعض التفصيلات للتخلص من أي تكرار أو تشويش» (الرواية 377).
الفكرة الأهم من استحضار التاريخ والمقدس بعمل سردي ممتع هو ما يقبع خلف هذه الرواية، التي ترسل رسائل بأن الأديان لا تختلف كثيراً فيما بينها، وأن وحدة الأديان فكرة متحققة من خلال هذا العمل الذي استنطق التاريخ. الرواية التاريخية ليست عملاً جديداً على الفن الروائي ومناخه المعتاد، إنما هناك تجارب متعددة وكثيرة استحضرت التاريخ بمروياته وجذاذاته المتناثرة في الكتب، فكانت بعض أعمال نجيب محفوظ تدور في هذا الأفق، وكذلك طه حسين في عمله الشهير «الفتنة الكبرى»، وهو أيضاً جزء من هذه الفكرة إذا ما حسبناها عملاً سردياً، وبين مدة وأخرى نجد روائيين يصوغون رواياتهم من خلال التاريخ، سواء المرتبك بأحداث معينة مثل «حرب الرحماء» لإبراهيم عيسى، أو المرتبط بشخصية تاريخية مثل «موت صغير» لمحمد حسن علوان، الذي أخذ شخصية ابن عربي بطلاً لروايته، وتتبع كل أخباره وأسفاره، وصاغ روايته على هذه الطريقة.
يأتي عمل كنعان مكية الذي كتب مبكراً مقارنة ببعض الأعمال الواقعة في هذا الأفق الذي يهيم في التاريخ، والذي يرى أن التاريخ هو سبب أساس ورئيس في بناء شخصياتنا وفكرنا، ولكن الفكرة التي اشتغل عليها كنعان مكية هي أوسع من معظم المرويات التاريخية، بسبب حساسية الموضوع الذي يتعلق بالصخرة.
الرواية محتشدة بالشخصيات المؤثرة والفاعلة في تاريخنا الديني والإنساني، والروائي لم يلتزم بخط واحد في عمله فهو يستثمر فكرة الصخرة، ولكنه يغوص في بطن التاريخ ليطل على الصراعات التي دارت في زمن الخليفتين الثالث والرابع، وانتقال الصراع، ومن ثم انتقال عاصمة الدولة الإسلامية من المدينة إلى الكوفة، ومن ثم إلى دمشق، وقرب دمشق من الصخرة مكانياً. لا يمكن تجنيس العمل على أنه عمل روائي فحسب، حيث تختلط الأشياء جميعاً في وصفة سحرية من المتعة والمعلومة التاريخية والنص المقدس، ثم يفاجأ القارئ في نهاية العمل بأن كنعان مكية يفرد ما يقارب المائة صفحة معلومات كاملة عن هذه السردية، وكأن القارئ إزاء بحث علمي رصين ودقيق في معلوماته، ولكن مكية خدع القارئ طيلة صفحات العمل الذي نسجه من خيوط المتعة والمعرفة والسحر، حتى أمانته العلمية تدعوه لأن يذكر شطر بيت أخذه من امرئ القيس، حيث يذكر في «ص 53»: «استيقظت تلك الصدور المضطربة عنده، وطفت على السطح فجأة، أرخت كموج البحر سدولها عليه نقية من الأعماق كما أرادها الله»، حيث يعيدها إلى بيت امرئ القيس الشهير: وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأمواج الهموم ليبتلي، ثم يفكك سرديته وكأنه يعيد المواد التي صنع منها السردية إلى أهلها بكل أمانة، حيث يعيد الآيات المقدسة لأصولها، والحوارات لبطون التاريخ، والأماكن لروادها، فمثلاً قصة الخلق استوحاها من كتاب الطبري «تاريخ الرسل والملوك»، فيما قصة النبي آدم من مصادر موسوعة الإسلام، أما الإشارة إلى لباس النور الملتهب فهي مأخوذة من كتاب «الزوهار» اليهودي، وهو كتاب صوفي معني بشرح الدلالات الباطنية لأسفار موسى الخمسة، وهكذا بقية العمل مأخوذ بهذه الطريقة المُعالَجة فنياً بحوارات عالية، تدعمها بين صفحة وأخرى جرعة عالية من الأسطر المكثفة، والجمرات التاريخية التي التقطها مكية بمهارة صائد اللؤلؤ: «الأمل دواء يحتاج إلى تعاطٍ مستمرٍ، أن الله يقبض بحكمته المطلقة صدورنا حين نتنفس، ثم يبسطها ويملؤها بالهواء بعد أن يرفع عنا ذلك القبض» (الرواية 46)، أو ينقل حديث داود مع الصخرة حين أراد أن يرفعها فقالت له:
لا يمكنك رفعي
لم لا؟ سأل داود
لأنني هنا لسد مياه الأعماق
- منذ متى؟
منذ الساعة التي سمع فيها صوت الله يردد قائلاً: أنا الرب إلهك، حينها رجفت الأرض وانشقت بعيداً، وطفقت تسقط إلى الهاوية لقد وُضعتُ هنا لأسندها (الرواية ص62)
وكأن هذا المقطع قصيدة نثر لأدونيس أو أنسي الحاج أو سركون بولص. العمل موثق أيضاً بصور فوتوغرافية مهمة ومأخوذة من أماكن مهمة وبأذونات مرخص باستخدامها. أما مسألة الترجمة فهي عمل آخر موازٍ لعمل المؤلف، فلم نشعر للحظة واحدة بأن هذا العمل مترجم من اللغة الإنجليزية، ذلك أن قدرة المترجم على نقل الحوارات وصياغتها قريبة من لغة القرن الهجري الأول تفصح عن قدرة هائلة للمترجم سليم سوزه، في أن تكون ترجمته صافية إلى هذا الحد من الجمال والبهاء، ولكن السؤال الذي حيرني، والذي أوجهه إلى الكاتب كنعان مكية، هو لماذا لجأ إلى كتابة عمل تدور أحداثه في القرن الأول الهجري وشخوصه من عمر بن الخطاب إلى عبد الملك بن مروان مروراً بالخلفاء والشخصيات الإسلامية والعربية، وحديثهم كله درر مصطادة من بحار الكتب والتاريخ، أقول لماذا كتب العمل بغير لغته؟ ما اضطره لترجمته إلى العربية بعد عشرين عاماً من طباعته باللغة الإنجليزية، إذا كان السياق الطبيعي كما أظن هو أن يكتب باللغة العربية ومن ثم يترجم إلى اللغات الأخرى، وعموماً فإن هذا الكلمات مفاتيح سريعة لأبواب رسمها كنعان مكية في هذا العمل. قطعاً هذه القراءة لا تكفي، لأنني متيقن أن هناك أشياء أخرى أكثر أهمية من هذا الذي كتبته يحتاج إلى قراءة ثانية وثالثة، لأن «الصخرة» عمل فيه طبقات متعددة، وما هذه القراءة سوى طبقتها الأولى.


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية
TT

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

صدر حديثاً عن «محترف أوكسجين للنشر» في أونتاريو كتابٌ جديد بعنوان: «العودة إلى متوشالح - معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» للكاتب المسرحي الآيرلندي جورج برنارد شو، وقد نقله إلى العربية المترجم السوري أسامة منزلجي. ويأتي الكتاب ضمن سلسلة «أوكلاسيك»، (أوكسجين + كلاسيك = أوكلاسيك) التي يسعى من خلالها المحترف إلى «تقديم الكلاسيكيات بنهج جديد ومغاير عماده الاكتشاف وإعادة الاكتشاف»، وجاء الكتاب في 352 صفحة.

من التقديم:

«نحن هنا أمام كتابٍ يتخذ فيه برنارد شو من المسرحية والحوار والنقد السياسي طريقاً نحو البشرية وهي تعيش إحدى لحظاتها التاريخية الأكثر دماراً، ولنَكُن بعد قراءة الاستهلال حيالَ نظرياتٍ فلسفية وسياسية وأدبية تدفعنا للتفكير في طريقة تفاعلنا مع العالم وقد أمسى نموذج الحضارة على المحك، اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، فلا محيد عن الكوارث التي يُلحقها الإنسان بنفسه وبالطبيعة. فما الذي يحتاج إليه ليصبح أكثر نضجاً وحكمةً؟ يفترض شو أن ثلاثة قرون أو أكثر من عمر الإنسان كفيلة بأن تجعله يبلغ كماله العقلي في مسار تطوّرهِ وتحقيقه غايات وجوده السامية، فهل الامتداد الأفقي للزمن يحقق ذلك؟ من أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ هذا ما يقدمه لنا كتاب (العودة إلى متوشالح) كونه كتاباً يتحدّى الفناء! منطلقُه الأزل ومنتهاه الأبد. يبدأ من آدم وحواء في جنة عدن، وينتهي في عام 31920 ميلادي وقد أمسى بمقدور الإنسان العيش لما يتجاوز الثلاثمائة عام، وصولاً إلى ولادته من بيضة! إنه كتاب عصيٌّ على التصنيف، له أن يجسد تماماً ماهية (الخيال العلمي)، بوصف الخيال مع جورج برنارد شو (1856 - 1950)، يستدعي العلم والفلسفة والفكر بحق، مقدّماً هجائية كبرى لداروين والانتقاء الظرفي، مفضلاً تسميته الانتقاء التصادفي، فإذا استطعنا أن نُثبت أنَّ الكون بأكمله خُلِقَ عبر ذلك الانتقاء، فلن يطيق عيش الحياة إلّا الأغبياء والأوغاد.

يتخذ الكتاب معبره إلى الخيال من حقيقة أن البشر لا يعيشون مدةً كافية، وعندما يموتون يكونون مجرد أطفال، واجداً في لامارك والنشوء الخلّاق سنده، لنكون حيال عملٍ خالدٍ، لا هو مسرحية ولا رواية، بل مزيج بينهما، مسرحية تُقرأ ولا تُجسّد، ورواية يتسيّدها الحوار...

حملت المسرحيات الخمس العناوين التالية: (في البدء)، و(مزمور الأخوان بارناباس)، و(الأمر يحدث)، و(مأساة رجل عجوز)، و(أقصى حدود الفكرة)، وعبر حوارات عميقة حول مكانة العلم والتطور والفن والإبداع يسافر بنا برنارد شو عبر الأزمنة ليناقش الأفكار التي يطرحها أبطاله منذ آدم وحواء مروراً بالزمن الحاضر، ومضيّاً نحو المستقبل البعيد وقد وصلت البشرية إلى ذروتها، وتخلَّص الناس من الحب والجنس والعاطفة، وأصبحوا كائنات منطقية خالصة! لكن عبقرية برنارد شو في هذا الكتاب تكمن في تعامله مع فكرة الخلود، بحيوية وسخرية، مستكشفاً العواقب النفسية لطبيعة العقل البشري الذي يحتاج إليه الإنسان ليعيش ألف عام ويحكم نفسه بنفسه، ويتخلّص من الصراع والحروب والآفات التي تبدأ به وتنتهي بإفنائه»

جورج برنارد شو، كم هو معروف، كاتب مسرحي وروائي ومفكّر وناشط سياسي آيرلندي، وُلد في دبلن عام 1856 وتوفي عام 1950. عُرف بآرائه الساخرة المثيرة للجدل، ونزوعه التقدمي والرؤيوي، واشتراكيته الفابية. ألّف 5 روايات، و60 مسرحية، ضمّنها أفكاره ومقارباته السياسية والتاريخية والفلسفية، عدا عن مئات المقالات والمقدمات الفكرية لأعماله. من مسرحياته: «السلاح والإنسان»، 1894، و«الإنسان والسوبرمان»، 1903، و«بجماليون»، 1913. حين فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1925 رفضها، قائلاً: «أستطيع أن أسامح نوبل على اختراعه الديناميت، لكنْ وحده شيطان بهيئة إنسان من كان بمقدوره اختراع جائزة نوبل»، لكنه عاد وقبل الجائزة بشرط ألا يتلقى قيمتها المالية.

أما أسامة منزلجي فهو مترجم سوري له كثير من الترجمات مثل رواية «ربيع أسود»، 1980، و«مدار السرطان» و«مدار الجدي» وثلاثية «الصلب الوردي»، لهنري ميللر، و«أهالي دبلن» لجيمس جويس، و«غاتسبي العظيم» و«الليل رقيق» و«هذا الجانب من الجنة» لسكوت فيتزجيرالد، ومسرحيات وروايات لتينسي وليامز وبول أوستر وفيليب روث وتيري إيغلتون وآلي سميث وإريكا يونغ.