الأمر الأساسي الذي جاء وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بسببه إلى إسرائيل، هو التحسب الذي يسود في واشنطن من العودة إلى حالة التأزم والتصادم التي اتسمت بها فترة إدارة الرئيس باراك أوباما، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. فالرئيس جو بايدن، الذي كان شاهداً بقوة على الصراعات بين البيت الأبيض ونتنياهو في تلك الفترة من خلال منصبه نائباً للرئيس، لا يريد تكرار تلك الحالة في عهد رئاسته. وقبل أن يوجّه رسالة الدعوة التقليدية لرئيس الوزراء الإسرائيلي لزيارة واشنطن، طلب إجراء استعداد لها يضمن عبورها بسلام في حقل الألغام الذي أقامته الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة.
وقد كانت هذه زيارة مرسومة بعناية في البيت الأبيض وفي الأروقة الأمنية، وتم ترتيبها بالتنسيق مع زيارات، لا تقل أهمية، بدأت بوفود من مسؤولين كبار لم تحظ بالإعلان الواسع عنها، ثم جاء وفد من أعضاء الكونغرس، ثم مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، ومدير المخابرات المركزية، وليام بيرنز. وفي الخلفية، برز إجراء واحدة من أكبر المناورات الحربية المشتركة للجيشين الأميركي (5500 جندي) والإسرائيلي (1100 جندي)، التي وُضعت لها سيناريوهات متعددة لتنفيذ هجمات إسرائيلية على إيران بمساندة عسكرية قوية من الولايات المتحدة.
نتنياهو، الذي يدرك هموم واشنطن، حاول التهدئة من روع المسؤولين الأميركيين، وأبدى رغبة هو أيضاً في ألا تكون هذه الحقبة متوترة بين الحليفين. وخلال اللقاءات، تبادلا الغمز واللمز، وكذلك الإطراء. لقد أراد نتنياهو وضع قضية إيران في رأس سلم الأفضليات، وكان له ذلك. فالإدارة الأميركية، وإن لم تتخل بعد عن الجهود الدبلوماسية مع طهران، تقترب كثيراً من الموقف الإسرائيلي إزاءها. وبلينكن قال، إن «كل الخيارات ضد إيران مطروحة على الطاولة» و«الولايات المتحدة ملتزمة بألا تسمح لإيران بالتسلح النووي». وفي الخلفية، نشر أن إسرائيل هي التي قصفت مصانع الصواريخ في أصفهان بمعرفة الولايات المتحدة ومباركتها. وقد سمح نتنياهو لنفسه بأن يقترح على الأميركيين «خريطة طريق مشتركة لمعالجة النووي الإيراني»، يكون الخيار العسكري آخر بنودها ويتداول حولها مع بايدن.
وأراد نتنياهو توسيع حلقة اتفاقيات إبراهيم ووافق بلينكن ووضع هذا الأمر هدفاً مشتركاً، ولكنه لمح بأن تغيير الواقع الفلسطيني يساعد جداً على هذا التوسيع.
بيد أن نتنياهو حاول تقليص حجم وأهمية الموضوع الفلسطيني، باعتبار أن «الحلفاء في واشنطن يعرفون بأنه لا مجال مع الحكومة الحالية للتقدم في مفاوضات سلام»، ليس لأنها متطرفة وتضم أحزاباً ترفض قطعياً قيام دولة فلسطينية ولا حتى حكماً ذاتياً ولديها خطط استيطان شرسة وتبييض كل البؤر الاستيطانية ومنحها تراخيص قانونية، إنما لأن «الفلسطينيين يمارسون إرهاباً دبلوماسياً ضد إسرائيل ويحاولون توريطها في محاكمات دولية وفرض عزلة سياسية دولية عليها».
ونتنياهو ورئيس مخابراته وضعا أمام بيرنز وبلينكن ملفاً يبين أن السلطة الفلسطينية لم تعد تكافح العمليات الفلسطينية المسلحة.
وبلينكن بذاته، أعلن إصرار بلاده على حل الدولتين وطالب الطرفين بوقف التوتر، ولكنه لم يقدِم على أي خطوة ضد السياسة الإسرائيلية في هذا الملف. وقام بتأجيل ملاحظاته إلى زيارته في رام الله.
وحسب مسؤولين إسرائيليين التقوا بلينكن، فإنه اهتم بالمعركة الداخلية في إسرائيل على الأسس الديمقراطية ما بين الائتلاف والمعارضة، والهجمة الحكومية على الجهاز القضائي، أكثر من اهتمامه بالقضية الفلسطينية. وسمح لنفسه أن يلمح لها خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نتنياهو؛ إذ أكد على دعم واشنطن «للمبادئ الديمقراطية الأساسية»، وأضاف «بناء توافق على مقترحات جديدة هو الطريقة الأكثر فاعلية لضمان تبنيها واستمرارها»، كما شدد على الحاجة إلى ديمقراطية قوية مع «نظام قضائي يساوي بين الجميع».
ورد عليه نتنياهو بإصرار على المضي قدماً في مشروعه القضائي، بالقول «لا تخف يا عزيزي. إسرائيل ستبقى ديمقراطية قوية ومزدهرة».
وفوق هذا كله، والأهم، أن بلينكن عاد وأكد أهمية العلاقات الثنائية بين إسرائيل والولايات المتحدة، وقال، إنها «علاقات متجذرة ومبنية على المصالح والقيم المشتركة» وإن «التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل أقوى من أي وقت مضى».
الجديد، أن حلفاء نتنياهو في الحكومة، لم يترددوا في مهاجمة بلينكن والإدارة الأميركية على ما اعتبروه «تدخلاً فظاً في الشؤون الإسرائيلية الداخلية»، كما قالت وزيرة شؤون الاستيطان، استر ستروك، والنائبة ليمور سون ميلخ، وكلتاهما من حزب إيتمار بن غفير، وقد هاجمتا الوزير الأميركي على تصريحاته حول الديمقراطية وحول الالتزام الأميركي بالحفاظ على الوضع القائم في المواقع المقدسة في القدس.
واضطر نتنياهو إلى مطالبة رؤساء أحزاب الائتلاف بألا يهاجموا «الرموز الأميركية»، وألا يوقعوا «العلاقات الحساسة في مطبات لا ضرورة لها». فهو يريد أن يمر ما بقي من حكم بايدن بسلام، وإن كان يتمنى أن يعود دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، فإنه يخشى أن يستجيب الناخبون الأميركيون لدعائه فيصبح غضب اليوم عاصفة غداً.