كيف نقرأ التاريخ ونفهم الحدث الحالي؟!

لا ينبغي اختزاله في الحدث السياسي فخلفه محددات أهم تصوغ السياسة وتوجهها

فرناند بروديل
فرناند بروديل
TT
20

كيف نقرأ التاريخ ونفهم الحدث الحالي؟!

فرناند بروديل
فرناند بروديل

في سياق تجاوز نقدي للمدرستين الوضعية والماركسية، أسس مارك بلوك Marc Bloch ولوسيان فيفر Lucien Febvre في أواخر العشرينات من القرن الماضي في فرنسا، مجلة «حوليات التاريخ والاقتصاد والاجتماع»، التي تحولت إلى مدرسة خاصة لها رؤيتها إلى التاريخ وطرائق اشتغال المؤرخ، سميت بمدرسة الحوليات.
ومن المميزات المنهجية لرؤية هذه المدرسة، أنها أولت اهتماما خاصا بدراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية في مسار زمني طويل. لاعتقادها أن معنى الأحداث التاريخية الرئيسة لا يمكن أن تفهم في لحظتها الآنية، بل لا بد من التعمق في ماضيها، وفق مقطع زمني طويل يدرس بعناية وعمق.
ثم تطورت نحو بحث التاريخ من زاوية حضارية، بالتركيز على التمثلات الثقافية والاجتماعية.
ويعد فرناند بروديل Fernand Braudel، وجاك لوكوف Jacques Le Goff، وفيليب أرييس Philippe Ariès، من أهم رموز هذا التيار الذي أعاد تأسيس المنهج التاريخي في منتصف القرن العشرين.
وعندما نذكر فترة أواخر عشرينات القرن العشرين كلحظة تأسيس فإننا نذكر بالتالي، شرطا مجتمعيا مشتركا بين مختلف البلدان الغربية، وهو اشتداد الأزمة التي سميت بـ«الأزمة الاقتصادية العالمية»، مما كان مناسبة لتعميق الاهتمام بالجانب الاقتصادي عند دراسة التاريخ.
وقد انتقد رواد مدرسة الحوليات المدرسة الوضعية وأخذوا عليها ما يلي:
- اقتصار اهتمامها على الوثائق المكتوبة وإهمالها للآثار والوثائق غير المكتوبة.
- تركيزها على الحدث السياسي والعسكري، وإغفالها للأبعاد المجتمعية الأخرى وخصوصا البعد الاقتصادي والثقافي.
- افتقارها إلى القدرة التأويلية التأليفية.
وبديلا لهذا المنظور المنهجي الذي ساد زمن شيوع المدرسة الوضعية، أولت مدرسة الحوليات اهتماما بالغا بالتاريخ الاقتصادي، وأنماط التنظيم الاجتماعي، والتمثلات الثقافية، بالإضافة إلى ما يسمى بالتاريخ الوقائعي، مع رفضها لهيمنة العامل السياسي.
من هنا نفهم لماذا طالبت مدرسة الحوليات بتنويع المداخل المنهجية للمؤرخ وتعددها، في سياق ما يسمى بتساند مناهج العلوم الإنسانية، وتوكيدها على أهمية العمل بمنهجية الفريق البحثي؛ لتأسيس ما سماه فيفر بـ«التاريخ الكلي».
ولبيان الملامح النظرية لهذه المدرسة في مستواها الإجرائي، أقدم في هذه المقالة، تحليلا لمنهج الحوليات في دراسة التاريخ، كما طبقه فرنان بروديل (1902 - 1985) أحد أهم مؤسسي الحوليات.
يعد فرنان بروديل من ذلك الصنف النادر من الكتاب، الذين يستهجنون الكتابة العجولة، ويفنون العقود من أعمارهم في سبيل البحث والتوثيق، وجمع المادة العلمية ليكتب ويؤلف. إنه يختلف عن ذلك النوع من الكتاب ممن يتظاهر بالتعالم والإحاطة المعرفية، بينما يكتب ما يريد في بضع صفحات، ويحدد خلاصاته ونتائجه، ويصوغ أحكامه النهائية، ثم يذهب ليستجمع بضع أقوال ونصوص، يوزعها بين سطور مقاله أو بحثه، حتى يظهر وكأنه قد استوفى موضوعه بحثا واطلاعا، وأسس أحكامه على سابق معرفة واستقصاء واطلاع.
بروديل كان يحب أن يصف نفسه قائلا: «أنا مؤرخ من أصل فلاحي»! وهو وصف يعكس لنا بعضا من شخصيته. إذ من طبع الفلاح الصبر وعدم استعجال الثمار والنتائج، والتمهيد لها بجهد وحرث واعتناء. وكذلك كان نهج بروديل في قراءة التاريخ ودراسته. فكتابه «البحر المتوسط والعالم المتوسط في عصر فيليب الثاني»، جاء حصيلة جهد واستقصاء فريد. فقد عكف بروديل على جمع المادة التاريخية، حتى وصل إلى تسجيل عشرة آلاف «بطاقة»، أودعها معطيات ونصوصا وأقوالا وملاحظات حول موضوع بحثه. لكن قيام الحرب العالمية الثانية، ومشاركته فيها، أديا به إلى الوقوع في الأسر. وداخل معسكر الاعتقال الألماني، وجد بروديل نفسه تجاه موضوعه الذي شغل عقله ووجدانه، لكنه كان مجردا من تلك التلال من البطاقات التي استنفد جهدا جبارا في تهيئتها! وأمام هذا التحدي، أخذ يكتب من الذاكرة طيلة سنوات الاعتقال الأربع (1940 - 1944). وجاء كتابه في ألف ومائتي صفحة، يكشف عن ذاكرة قوية، وعن عقل متوقد. وصار يعد اليوم، أحد أهم الكتب التاريخية على الإطلاق.
وبمجرد ظهور الكتاب سنة 1949، صار حديث المنتديات العلمية في فرنسا وخارجها أيضا. وأصبح اسم فرنان بروديل، الذي كان نكرة قبل ذلك، علما تتناقله الألسن، ومرجعا في تاريخ البحر المتوسط لا يمكن تجاهله.
نهج بروديل
إذا كان توماس كارلايل يعتبر الكائن الإنساني صانع التاريخ، فإن بروديل يرى عكس ذلك، يرى أن التاريخ يصنع الإنسان. وقد يرجع تأثير هذا الاستبعاد لدور الإنسان، إلى تأثر بروديل بالفكر الماركسي. ولكن الحق يقال: إن تأثره هذا لم يسقطه في فجاجة المنهج الماركسي الذي يختزل أسباب الظاهرة التاريخية في أدوات الإنتاج الاقتصادي. كما أن استبعاد بروديل للدور الإنساني، ليس استبعادا مطلقا، إنما القصد الحقيقي منه هو تجاوز تلك القراءات التاريخية التي تختصر تفسير حوادث التاريخ وإيقاعات تطوره، وعوامل تحولاته، بالعبقرية والبطولة، مستبعدة عوامل أخرى كثيرة، ومتناسية أن الأبطال والعباقرة هم، بمعنى ما، كائنات تشكلت داخل سياق ثقافي ومجتمعي لا ينبغي إغفاله.
يسعى بروديل إلى تجاوز ذلك النهج الشائع في بحث التاريخ، الذي يركز على الأمراء والأبطال والشخوص، وينادي، بدلا من ذلك، بضرورة استحضار العوامل المجتمعية في تعددها وتنوعها. يقول بروديل: «نحن ضد ذلك القول الأرعن: الرجال يصنعون التاريخ. لا، إن التاريخ هو أيضا يصنع الرجال».
لكن من الواضح أن استحضار المؤرخ لكل هذه العوامل، يتطلب ثقافة واسعة، وأدوات منهجية، ومعطيات معرفية من حقول معرفية متعددة: جغرافيا، جيولوجيا، أنثروبولوجيا، سيسيولوجيا، ولغات وغيرها. كل هذا لتتحقق للمؤرخ إمكانية «الرؤية الكلية» للظاهرة وللحدث التاريخي التي هي المطلب الأساسي في «فلسفة» بروديل ومنهجه في التاريخ.
يقوم منهج بروديل على أولوية التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، على العكس من المناهج التقليدية التي احتل فيها التاريخ السياسي أولوية مطلقة. فلا تكاد تعرف عن تاريخ الإنسانية في كتب التاريخ التقليدية، إلا تاريخ الأمراء وقادة العساكر. وفي هذا السياق، ينبه بروديل إلى أنه «لا ينبغي أن نظن أن الممثلين الذين يثيرون أكبر ضجة هم الأكثر أهمية وأصالة».
وهذا ما لا يظنه ولا يعتقده أحد عندما يتفرج على عرض مسرحي، فهو لا يحدد قيمة الشخوص المسرحية، بمقدار الضجيج الذي تثيره. لكن هذا الاعتقاد سائد في قراءة مسرح التاريخ. ولهذا يدعو بروديل إلى تجاوز الأحداث السياسية التي من طبيعتها، أنها كثيرة الضجيج، وهو يدعونا، بدلا من ذلك، إلى الإنصات إلى تاريخ خافض الصوت أو شبه صامت، ولكنه على قدر كبير من الأهمية، أي التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وعلى الرغم من أن ما كان لمدرسة الحوليات من حظوة خلال القرن العشرين، لم يعد لها اليوم، إلا ثمة درس منهجي مهما يمكن أن يستفاد منها، وهو أن الحدث التاريخي لا ينبغي اختزاله في الحدث السياسي، بل خلف هذا الحدث الظاهر ثمة محددات أهم هي التي تصوغ السياسة وتوجهها، أعني بها المحدد الثقافي والشروط الاقتصادية والاجتماعية. ولعل هذا اللحاظ المنهجي لا يصلح فقط لقراءة التاريخ المتواري في القدم، بل يصلح أيضا لفهم الحدث الحالي في الحاضر أيضا.



جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT
20

جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي

لم يأتِ رحيل المبدع العراقي جمعة اللامي في السابع عشر من هذا الشهر مفاجئاً لمعارفه ومحبيه. إذ لم تحمل السنوات الأخيرة الراحة له: فقد سكنه المرض، وتلبدت الذاكرة بضغوطه، فضاع كثير من الوهج الذي تميزت به كتاباته. وتجربة جمعة اللامي فريدة؛ لأنه لم يكن يألف الكتابة قبل أن يقضي سنواتٍ عدة سجيناً في عصور مضت. لكنه خرج من هذه أديباً، وصحافياً متميزاً.

ربما لا يعرف القراء أنه شغل مدير تحرير لصحف ومجلات، وكان حريصاً على أن يحرر الصحافة من «تقريرية» الكتابة التي يراها تأملاً بديعاً في التواصل بين الذهن واللغة. خرج من تلك السنوات وهو يكتب الرواية والقصة. وكانت روايته «من قتل حكمت الشامي» فناً في الرواية التي يتآلف فيها المؤلف مع القتيل والقاتل. ومثل هذه المغامرة الروائية المبكرة قادت إلى التندر. فكان الناقد الراحل الدكتور علي عباس علوان يجيب عن تساؤل عنوان الرواية: من قتل حكمت الشامي؟ جمعة اللامي. لكن الرواية كانت خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ماورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية). وسكنته روح المغامرة مبكراً. وكان أن كتب مسرحية بعنوان «انهض أيها القرمطي: فهذا يومك»، التي قادته أيضاً إلى محنة أخرى، لولا تدخل بعض معارفه من الأدباء والمفكرين. وجاء إلى القصة القصيرة بطاقة مختلفة جزئياً عن جيله. إذ كان جيل ما بعد الستينات مبتكراً مجدداً باستمرار. وكان أن ظهرت أسماء أدبية أصبحت معروفة بعد حين وهي تبني على ما قدمه جيلان من الكتاب: جيل ذو النون أيوب، وما اختطه من واقعية مبكرة انتعشت كثيراً بكتابات غائب طعمة فرمان، وعيسى مهدي الصقر وشاكر خصباك، وجيل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، والذين بنوا عليه وافترقوا عنه كمحمد خضير، وموسى كريدي، وأحمد خلف، وعبد الستار ناصر، وعدد آخر. وكان جمعة اللامي ينتمي إلى هذا الجيل، لكنه استعان بهندسة القصة لتكون بنية أولاً تتلمس فيها الكلمات مساحات ضيقة تنوء تحت وقع أي ثقل لغوي. ولهذا جاءت قصصه القصيرة بمزاوجة غريبة ما بين الألفة والتوحش، يتصادم فيها الاثنان، ويلتقيان في الأثر العام الذي هو مآل القص.

وعندما قرر اللامي التغرب وسكن المنفى، كان يدرك أنه لن يجد راحة البال والجسد. لكنه وجد في الإمارات ورعاية الشيخ زايد حاكم الدولة، وبعده عناية الشيخ الدكتور سلطان القاسمي ما يتيح له أن يستأنف الكتابة في الإبداع الأدبي وكذلك في العمود الصحافي. ولمرحلة ليست قصيرة كان «عموده» الصحافي مثيراً لأنه خروج على المألوف، ومزاوجة ما بين العام والشخصي، اليقظة والحلم، المادية والروحانية. وعندما ينظر المرء إلى مسيرة طويلة من الكد الذهني والجسدي فيها الدراية والعطاء، يقول إن الراحل حقق ذكراً لا تقل عنه شدة انتمائه لمجايليه وأساتذته وصحبه الذين لم يغيبوا لحظة عن خاطره وذهنه، كما لم يغب بلده الذي قيَّده بحب عميق يدركه من ألِفَ المنافي وسكن الغربة.

سيبقى ذكر جمعة اللامي علامة بارزة في أرشيف الذاكرة العراقية والعربية الحيّة.

 كانت روايته «مَن قتل حكمة الشامي؟» خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ما ورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية)