ما الإنسان؟... سؤال الكينونة

رأس إنسان مقطوع إلى نصفين ومحفوظ للدراسة في معرض التشريح السنوي لجامعة مالايا في كوالالمبور بماليزيا 7 يناير 2023 (إ.ب.أ)
رأس إنسان مقطوع إلى نصفين ومحفوظ للدراسة في معرض التشريح السنوي لجامعة مالايا في كوالالمبور بماليزيا 7 يناير 2023 (إ.ب.أ)
TT

ما الإنسان؟... سؤال الكينونة

رأس إنسان مقطوع إلى نصفين ومحفوظ للدراسة في معرض التشريح السنوي لجامعة مالايا في كوالالمبور بماليزيا 7 يناير 2023 (إ.ب.أ)
رأس إنسان مقطوع إلى نصفين ومحفوظ للدراسة في معرض التشريح السنوي لجامعة مالايا في كوالالمبور بماليزيا 7 يناير 2023 (إ.ب.أ)

لعل السؤال عن ماهية الإنسان أحد أصعب الأسئلة وأيسرها، أعقدها وأوضحها في آن. إنه ميسور وواضح لو قنعنا بتعريفه البيولوجي، حيث الإنسان هو ذلك الكائن الضعيف، الذي يولد جنيناً، ويصير رضيعاً يحتاج إلى حضانة شاملة، قبل أن يصبح طفلاً يحتاج إلى تربية طويلة وتعليم شاق، ثم شاباً فرجلاً ذا جسد أقوى قياساً إلى طفولته، لكنه أوهى بالقياس إلى غيره من الحيوانات. فإذا طمحنا إلى تعريف سيكولوجي وأخلاقي أصبح الأمر صعباً، لأن الهشاشة البيولوجية للإنسان يقابلها تعقيد كبير في تكوينه السيكولوجي وحضوره الأخلاقي، يثير التباين حوله والاختلاف عليه. فالبعض ينظرون إليه باعتباره الخليفة الأرضي الذي خصَّه الله بتلقي الوحي وعمارة الأرض. والبعض الآخر يراه ذلك الكائن الوثني الذي طالما عبد الأصنام وأنكر الإله. والبعض الثالث يراه متوحشاً قتل المختلفين عنه ليرضي إحساسه بالقوة، أو حتى وغداً تدفعه الرغبة في التملك إلى خيانة بني وطنه ودينه وربما التخلي عن عائلته. والبعض الرابع يراه ذلك الكائن النبيل، الذي بذل جهوداً مضنية عبر أجيال متوالية في رفع راية العمران والتمدن وحمل مشعل الاستنارة والتقدم. والغريب في الأمر أن الإنسان هو كل ذلك، فهو الملاك والشيطان، وما بينهما من ألوان الطيف.
إنه المخلوق المعقد، الذي ينطوي ليس فقط على مجموعة من الخلايا والأعصاب والرغبات، كما يزعم الماديون، ولا يقتصر سلوكه على ردود الأفعال الشرطية، كما يدعي السلوكيون، ولا يقتصر عقله على مجرد مخ مادي يعكس الواقع بحذافيره كآلة فوتوغرافية، كما يرى التجريبيون، بل إنه يملك وعياً مركباً وخيالاً خلاقاً ذا قدرة توليدية، قادراً على الفهم والتحليل عبر الاستدلال أو التجريب، إذ يُبقي هذا العقل ويستبعد من المعلومات، كما يهمِّش ويرِّكز من الأفكار ما يمكنه من فهم الواقع الطبيعي والاجتماعي عبر ذاته الحافلة بالأشواق والمعاني والذكريات.
وهو الكائن الذي يطمح إلى الفضيلة رغم انطوائه على حس الغريزة، إذ تدفعه المنظومات الأخلاقية والرمزية المحيطة به في كل مكان وزمان إلى الخجل من حسيته، وإلى الرغبة في التسامي عليها، ولو أخفق أحياناً، وذلك في محاولة لا تتوقف ولا تنتهي لتجاوز حس الضرورة القاهر إلى أفق الحرية الشامل. ومن ثم يبقى الفارق شاسعاً بين الإنسان وما عداه من موجودات طبيعية أو كائنات بيولوجية. فالطبيعة لا تملك فكراً أو قصداً، لا تعرف الخير أو الشر، بل تخضع لقوانين حتمية تتحكم في ظواهرها، ومن ثم يجري التحول فيها بطيئاً، وفق نظام صارم ودورات تاريخية طويلة. أما الإنسان فيفكر، ويقصد بفكره تحقيق أهداف وبلوغ غايات. لذا تخضع جميع الظواهر الاجتماعية للتغير السريع والتحول المدهش، وتتمرد على القسر في قوالب مغلقة أو الخضوع لتصورات حتمية.
ومن هنا، برزت الثنائية الوجودية التي عبر عنها ديكارت مفتتحاً الفلسفة الحديثة بالفكر والامتداد، ووضعتها الفلسفات المعاصرة في قالب الذات والموضوع، الإنسان هو الفكر الذي يُمارس من خلال ذات تتأمل العالم الطبيعي الممتد، تفحصه وتُمحِّصه وتنقده، أي تعرفه.
ورغم أن الفارق بين الإنسان والحيوان يظل أضيق منه مع العالم الطبيعي، فإنه يظل فارقاً وجودياً رغم أي تشابه فسيولوجي؛ حيث تفتقد أكثر الحيوانات رقياً إلى ممكنات التسامي الأخلاقي، فلا تستطيع التمييز بين الظلم والعدل، الجميل والقبيح، فيما يحيا الإنسان في فلكها، يدركها ويفهمها حتى لو عجز عن ممارستها. وفيما تعيش أرقى الحيوانات في الحاضر وحده بلا وعي تاريخي، يعيش الإنسان في التاريخ بكل أبعاده، إذ يتجذر في معطيات الحاضر وهو يستعد لخوض المستقبل، بناءً على خبرات الماضي، فيتصرف وفقاً لحكم مأثورة، أو ينفذ خططاً مدروسة، استعداداً لأزمنة قد لا يعيش حتى يراها وإنما يتخيلها. وربما كان الحيوان يخاف كالإنسان، غير أنه ذلك الخوف الغريزي فقط على الطعام خشية الجوع أو على الجسد خشية الافتراس. أما الإنسان فيضيف إلى هذا النوع البدائي من الخوف أشكالاً أرقى: كالخوف الميتافيزيقي من إله يعبده عندما يرتكب إثماً، والخوف الوجودي من فناء يلامسه عندما يدهم المحيطين به. الخوف النبيل على من يواجهون الأخطار والكوارث والمظالم. ورغم أن الحيوانات الأكثر تطوراً ربما تعاني القلق، فإن قلقها مجرد شعور يصاحب الخوف على الحياة أو الطعام، أي على «الراهن»، وليس قلقاً سيكولوجياً على «الآتي» كقلق الإنسان. وقد يميل ذكر الحيوان إلى أنثاه، غير أن ميله يظل انعكاساً لغريزة تلقائية تتوجه نحو أقرب الإناث إليه، التي ينصرف عنها بعد قضاء حاجته مباشرة، أما الحب الإنساني فذو بعد جواني عميق، كما ينزع إلى مشاركة طويلة بين الرجل والمرأة، ومن ثم تأسست قوانين الزواج في جل الحضارات.
ورغم خضوع الإنسان، كجميع الكائنات، لقانون العدم، فميزته الكبرى أنه الأكثر وعياً بذلك القانون، وإدراكاً للمعنى الكامن وراءه، فوحده الإنسان يعرف أنه سيموت، بل يستعد للحظة موته، سواء بثقة وهدوء، أو بهلع وخوف.
أما الحيوان فيلاقي حتفه مرة واحدة فقط، عندما يصادفه، دون انتظار. وربما كان هناك فارق بين موت يأتينا في الشيخوخة، نجلس لننتظره، حتى أن البعض يبني لنفسه قبراً ويجهز الكفن، تطبيقاً لسنة كونية هي أن يموت القديم عندما يشيخ تاركاً المجال للوليد الجديد، حيث الاستمرار والفناء، الوجود والعدم، أمور تقع في صميم الطبيعة الإنسانية، وبين موت طارئ، يداهمنا في ريعان الشباب لمرض قاهر أو حادث عارض، تجسيداً لحكمة إلهية لا يستطيع الإنسان كشف كنهها أو سبر غورها. وفي الحالين، تكشف واقعة الموت، كحد للحياة، عن أبرز مصادر قلق الإنسان، فهو يعيش ويتعلم، يبني ويعمّر، رغم إدراكه أن عمره محدود، وأن غيره سيأتي بعده ليحل محله ويستمتع بعصير جهده. كما تكشف عن أبرز وجوه عظمته، وهي تصالحه مع محدوديته، وإدراكه لحقيقة أن الموت المنتظر أو حتى المفاجئ لا يعني أن مشروع حياته باء بالفشل، على نحو قد يدفعه إلى الشعور بالعدمية، بل ربما كان ناجحاً إلى الحد الذي أتى ثماره سريعاً، فلم يعد لاستمرار معاناته الوجودية سبب جوهري.
يرتبط الموت هنا بجسد هزمه الفناء، أما النجاح فرهن قدرة الإنسان على ترك بصمة روحه فيمن يعيش بعده، إذا ما تمكن من تجسيد المثل العليا للحياة، فليس المهم أن يكون العمر طويلاً بل أن يكون ملهماً، أن يساعد الآخرين على التصالح مع عالمهم أو على تطوير وجودهم. لقد عاش أناس كثيرون طويلاً كالأموات، لا يضيفون إلى الحياة شيئاً، ناهيك عن الأوغاد الذين أخذوا ولا يزالون يأخذون منها إلى درجة تجعلهم عبئاً عليها، إذ لم يرَ معاصروهم سوى شرهم الظاهر، ولم نسمع نحن عنهم إلا ضجيجهم الباطل. أما نبلاء الإنسانية وأبطالها فلهم قيمتهم السامية ولو قصرت أعمارهم، سواء كانوا من أبطال العقل والخيال كالفلاسفة والمفكرين والأدباء والشعراء والفنانين، الذين طالما علمونا، بل أرشدونا إلى حقيقتنا الداخلية، أم من أبطال السياسة والسلاح الذين يبنون الأمم ويدافعون عن الأوطان، بل يمنحونها حقيقتها الخارجية. يموت هؤلاء نعم، يختفون من عالمنا قطعاً، لكنهم يعيشون دوماً، ينشرون أجنحتهم على زماننا والأزمان التي تلينا. بل إن موتهم المبكر غالباً ما يضيف إلى حياتهم، إذ يتمم أسطورتهم، ويمنحهم خلوداً استثنائياً، يعكس الحد الأقصى للحضور الإنساني على الأرض.
* باحث مصري



«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

TT

«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)
يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)

حتى بعد مرور عام على 7 أكتوبر (تشرين الأول)، لم يعرف أحد على وجه الدقة الهدف من الهجوم المباغت لحركة «حماس» الفلسطينية على إسرائيل، الذي يوشك اليوم على تغيير وجه الشرق الأوسط، ويجرّ خلفه 3 حروب، واحدة مدمرة في غزة، وثانية دموية في لبنان، وثالثة صامتة طويلة الأمد في الضفة الغربية، وعدة حروب باردة مع إيران وأذرعها في العراق واليمن وسوريا.

من المبكر الحكم على نتائج الهجوم الذي فاجأ إسرائيل، تحديداً لجهة إقامة دولة فلسطينية. ثمة وجهتا نظر، تفيد الأولى بأن 7 أكتوبر ستنتهي إلى مسار الدولة، ويزعم الثاني أن الباب قد فُتح لإسرائيل، ليس للقضاء على حل الدولتين، بل احتلال أجزاء من دول أخرى في المنطقة.

لكن بالنسبة لـ«حماس» التي بدأت الهجوم وتلقت الردّ عليه، يمكن القول إنها دفعت ثمناً لم تكن تتخيله يوماً. فماذا حدث خلال عام؟ وكيف أصبحت الحركة في ميزان الربح والخسارة؟

قبل الهجوم، كانت «حماس» بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين قوة لا يستهان بها، وليس من الوارد أن تضحي بموقعها ومكاسبها في حرب مدمرة، وكان هذا سر الهجوم، قبل أن يكلفها الكثير لاحقاً.

وإذا كانت الحرب قد بدأت بضربة «حماس» وغارات جوية إسرائيلية لاحقة، فالأكيد أن الحركة لم تكن تتوقع أن الحرب البرية ستكون بهذا الزخم الذي طال جميع مناطق غزة، متراً بمتر، وشبراً بشبر.

اليوم، فقدت «حماس» وجناحها المسلح، الكثير من الأشياء، كما أنها في المقابل كسبت أشياء أخرى.

خسرت «حماس» الكثير في هجوم 7 أكتوبر المباغت لكنها ربحت أشياء أيضاً (أ.ب)

حساب الربح... إحصاء الخسارة

على الأقل، فقدت «حماس» دعماً سياسياً ولو كان خافتاً من قبل دول أوروبية ودولية، ومثله دعم مالي لتمويل مشاريع حكومية ومؤسساتية وخدماتية لسكان غزة، وإلى حد ما تضررت علاقة الحركة بدول إقليمية دعمتها في الصراع ضد إسرائيل، أو ما يتعلق بالمصالحة مع حركة «فتح».

وبعد هجومها الكبير، نّدت دول بـ«حماس»، وبقي هذا الموقف يتصاعد مع مرور الأيام في ظل الحملة الإعلامية الإسرائيلية التي صاحبت هجوم 7 أكتوبر.

وخلال ذلك، ظهرت مؤشرات قوية على خسارة الحركة لكثير من شرعيتها التي اكتسبتها لسنوات بتطوير علاقات كانت صعبة مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية، وعلى وجه الخصوص تضررت إلى حد ما العلاقة مع مصر وقطر، إذ قالت مصادر موثوقة لـ«الشرق الأوسط»، إن «علاقة (حماس) بهاتين الدولتين العربيتين لم تعد كما كانت».

ويفهم قياديون في «حماس»، وفقاً للمصادر، أنه «في لحظة ما قد تطالبهم قطر بالخروج (...) كما أن الوضع مع مصر لم يعد على أحسن حال».

وتطالب مصر اليوم، وتعمل على عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، ويشمل ذلك تسليمها معبر رفح البري، وليس إسرائيل أو «حماس».

مقابل ذلك، زاد دعم «حماس» في «محور المقاومة» المدعوم من إيران، لكن هذا الأخير تعرض لخسائر عدة على أصعد مختلفة بفعل الحرب.

وكسبت الحركة أيضاً تأييداً من دول مثل تركيا وروسيا، وإلى حد ما من الصين، الأمر الذي دفع مراقبين إلى الاعتقاد بأن «حماس» تموضعت في استقطاب إقليمي حاد، في لحظة تقترب فيها المنطقة من شفا حرب مفتوحة.

شعبية «حماس» ونفوذها

أيام قليلة بعد 7 أكتوبر 2023، ارتفعت شعبية «حماس» بشكل كبير في مناطق غزة والضفة الغربية. كان يمكن ملاحظة كيف أن الإعجاب بالهجوم المباغت طغى على كل شيء، ولكن سرعان ما تبدد كل ذلك، خصوصاً في القطاع، مع استمرار الهجمات الإسرائيلية التي كبدت الغزيين خسائر مريرة في الأرواح والأملاك.

وباتت غالبية من سكان غزة يُحمّلون «حماس» مسؤولية ما حلّ بهم، الأمر الذي أدى إلى تراجع تأييد الحركة بشكل كبير، وأفقدها ميزة الدعم الكبير.

رغم كل هذا التراجع، فإن الحركة ما تزال ترى نفسها جزءاً واضحاً من مستقبل غزة والقضية الفلسطينية، وأن لديها القدرة على البقاء سياسياً وعسكرياً ومدنياً وشعبياً حتى حكومياً.

ومع ذلك، فإن الحكم على قدرة «حماس» على البقاء من عدمه سيكون حين تنتهي الحرب، ويتبين شكل الشرق الأوسط في اليوم التالي، لكن الأكيد أن الحركة لم تعد قادرة على حكم القطاع الذي يحتاج إلى دعم دولي واسع لإنقاذ سكانه وإعادة إعماره، وإحياء اقتصاده المنهار.

يرى خبراء عسكريون أن بقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من «صورة المنتصر» (أ.ف.ب)

قيادات «حماس»... مَن بقي؟

فقدت «حماس» أهم قياداتها السياسية والحكومية والعسكرية، وجزءاً لا يستهان به من مسلحيها، إلى جانب ناشطين في المجالات الدعوية والاجتماعية والاقتصادية.

مع بداية الحرب، وصلت إسرائيل إلى زكريا أبو معمر وجواد أبو شمالة من أعضاء المكتب السياسي للحركة، وأيمن نوفل وأحمد الغندور وهما قائدا لواءي الوسط والشمال في «كتائب القسام»، إلى جانب أيمن صيام قائد الوحدة الصاروخية في الكتائب.

وقد دأبت «حماس» على نعي جميع الشخصيات التي فقدتها خلال الحرب وإعلان أسمائهم، قبل أن تغير هذا النهج لتخفي معلومات قادتها والمسلحين الذين يتم قتلهم.

لاحقاً، نجحت إسرائيل باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» في طهران، ونائبه صالح العاروري في الضاحية الجنوبية ببيروت، وكلاهما نعتهما الحركة.

لكن بعيداً عن إعلانات «حماس»، أكدت إسرائيل اغتيال قائد «كتائب القسام» والمطلوب الأول منذ عقود محمد الضيف في ضربة جوية نفّذتها بمنطقة مواصي خان يونس، جنوب غزة، في 13 يوليو (تموز) الماضي، إلى جانب رافع سلامة، قائد لواء خان يونس، وقبلهما أكدت اغتيال مروان عيسى، نائب الضيف، في نفق وسط مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، في 10 مارس (آذار) الماضي.

وكانت مصادر من «حماس» قد أكدت لـ«الشرق الأوسط» اغتيال سلامة وعيسى، لكنها لم تدلِ بأي معلومات حول الضيف.

وكشفت «الشرق الأوسط» في وقت سابق، عن مقتل اثنين من أعضاء المكتب السياسي، هما روحي مشتهى وسامح السراج في ضربة استهدفت نفقاً جنوب مدينة غزة، إلى جانب قيادات عسكرية وازنة في «القسام».

ومن بين الاغتيالات المؤثرة في «القسام»، استهداف أيمن المبحوح أحد أهم قادة الكتائب والمسؤول الأول عن استخبارات الكتائب وأسرارها الأمنية، الذي كان لسنوات مسؤولاً عن الدائرة الأمنية الخاصة بحماية محمد الضيف.

ولم تؤكد «حماس» اغتيال أي من هؤلاء، بل إنها تشدد على أن الضيف ما زال حياً، فيما تصرّ إسرائيل على نجاحها باغتياله.

وفقدت «القسام» مئات من قياداتها الميدانيين، منهم قادة «كتائب» و«سرايا» و«فصائل» و«مجموعات»، وهي مسميات عسكرية بالترتيب وفق تقسيمات معينة ومحددة، ورغم أنها خسائر فادحة فإن المحلل العسكري العقيد المتقاعد منير حمد من غزة يميل إلى الاعتقاد بأنها «لا تعني القضاء تماماً على الكتائب».

وقال حمد، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» استطاعت حتى الآن الحفاظ على حياة قائدها يحيى السنوار، خاصة بعد اغتيال هنية في طهران، ما يعني «توفق الحركة استخبارياً، على الأقل حتى الآن».

ورأى حمد أن «إبقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من صورة النصر التي تحاول الحصول عليها منذ أشهر».

ويُحسب لحركة «حماس» أنها وضعت قضية اغتيال قياداتها وعناصرها رهن التكهنات، سواء بالنسبة لإسرائيل أو غيرها، ما يؤشر على صعوبات أمنية واجهتها وما زالت تواجهها المخابرات الإسرائيلية في الوصول لقيادات «حماس» و«القسام»، على عكس ما يجري حالياً على الجبهة اللبنانية مع «حزب الله».

ولا تكتفي إسرائيل بملاحقة السنوار، بل إنها تبحث عن شقيقه محمد، أحد أبرز قادة «القسام» والرجل الثاني بعد الضيف، كما تبحث عن قائد لواء رفح محمد شبانة، وعن قائد لواء غزة عز الدين الحداد الذي تلقبه بـ«الشبح»، وعن قيادات أخرى من المجلس العسكري مثل رائد سعد، وأبو عمر السوري، اللذين نجيا من عمليتي اغتيال في غزة.

وتدفع هذه المعطيات العقيد المتقاعد منير حمد إلى الجزم بأن «حماس» قادرة على النهوض مجدداً، خاصة أن عدداً من قياداتها المؤثرة ما زال على قيد الحياة.

ويؤكد مراقبون أنه في حال تم التوصل لاتفاق تهدئة، يمكن لـ«حماس» أن تعيد بناء نفسها وقوتها مجدداً، خاصة مع وجود العامل البشري الذي يمكن أن تستغله، كما أن هناك قيادات بارزة قادرة على قيادة الحركة من جديد، بمن فيهم شخصيات تنشط في الخارج لم تتأثر بالضربات الإسرائيلية.

ويتفق حمد مع مراقبين على أن «حماس» نجحت حتى الآن في الاحتفاظ بعشرات الإسرائيليين المحتجزين كأسرى في غزة، بعد عام من حرب مدمرة طالت كل شبر من القطاع، وهو ما يمنحها مكاسب أكبر لفرض شروطها في التفاوض الذي يسير ببطء شديد في ظروف معقدة.

الحرب الأخيرة في غزة أظهرت خطأ التقدير الإسرائيلي لحجم شبكة الأنفاق في غزة (أ.ف.ب)

أنفاق «حماس»

فقدت «حماس» كثيراً من قوتها خلال عام من الحرب. وبعد ضربات متتالية، شملت الخدمة العامة، والمرافق التنظيمية والعسكرية والاقتصادية، تكاد الخسائر تكون شاملة على نحو واسع.

لكن فقدان معظم أنفاق «حماس» قد يكون الخسارة الأبرز لجهة أنها «سلاح استراتيجي» كان بيد الحركة.

واستخدمت «حماس» تلك الأنفاق في التحكم السيطرة، ولحماية قياداتها، وكذلك لإخفاء الإسرائيليين، ومن ثم في إدارة المعركة لتنفيذ هجمات، مباشرة أو صاروخية.

وبحسب مصادر «الشرق الأوسط»، فقد «نجحت إسرائيل في تدمير كثير من أنفاق الحركة». وقالت إن «الجيش الإسرائيلي عثر على كثير من الأنفاق الاستراتيجية الهجومية والدفاعية».

واستخدمت «حماس» الأنفاق في مناسبات مختلفة كمخابئ لبعض قادتها الذين تمت ملاحقتهم فوق وتحت الأرض، وهو الأمر الذي جرى مع عضو المكتب السياسي للحركة روحي مشتهى وقيادات أخرى، ما أدى لمقتلهم في أحد تلك الأنفاق.

تقدر مصادر مطلعة لـ«لشرق الأوسط» أن «حماس» تمتلك في كل منطقة داخل غزة (شمال القطاع مثلاً) ما لا يقل عن 700 نفق بأحجام ومهمات مختلفة، لكن ذلك يرتبط بجغرافيا وطبيعة التربة التي يمكن من خلالها حفر عدد أكبر أو أقل من الأنفاق.

وتقول المصادر: «في خان يونس جنوب القطاع، يختلف عدد الأنفاق كلياً، وربما هو الأكبر على مستوى القطاع، وخاصة في المناطق الشرقية منها باعتبارها مناطق زراعية وسهلة الحفر، ويمكن فيها العثور على أكثر من مسار للنفق الواحد بتفرعات مختلفة وبتوزيعات جغرافية مختلفة من مكان إلى آخر، ويقدر عددها بنحو ألف نفق».

وقدرت إسرائيل سابقاً أن تكون «حماس» حفرت أكثر من 500 كيلومتر من الأنفاق، لكن الحرب الحالية أظهرت أن تقديراتها خاطئة، وكانت أكبر بكثير.

وتفسر هذه المعطيات كيف نجحت «حماس» حتى اللحظة في تسهيل حركة قياداتها ومقاتليها بين مواقع، فوق الأرض وتحتها، إذ الواقع الفعلي لشبكة الأنفاق يتيح لهم المناورة مع إسرائيل.

«حماس» أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ (أ.ف.ب)

ترسانة الصواريخ

مثّلت الصواريخ سلاحاً فارقاً لدى «حماس»، وشكّلت في مرحلة ما أحد أهم وسائل الردع، بعدما كانت الحركة قادرة على ضرب المدن والمستوطنات الإسرائيلية وقتما تشاء، خاصة تلك التي كانت تصل إلى تل أبيب والقدس.

تقول مصادر موثوقة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» فقدت غالبية مخزونها من الصواريخ. ومع ذلك يعتقد مراقبون أن الحركة تخفي عدداً منها، وسوف تستخدمها في وقت ما.

وتزعم مصادر ميدانية من «حماس» أن جناحها المسلح كان يمتلك قبيل الحرب ما يزيد على 60 ألف صاروخ، ما بين صواريخ بعيدة المدى وأخرى متوسطة وقصيرة.

وكانت «حماس» قد أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر، ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ، غالبيتها متوسطة وقصيرة المدى تزامناً مع بدء الهجوم العسكري.

ومع ذلك، يصعب معرفة العدد الدقيق للصواريخ التي تمتلكها «حماس» قبل الحرب، وما تبقى خلال عام بعد اندلاعها.

وتزعم إسرائيل أنها نجحت في تدمير كثير من الصواريخ، إلى جانب ضرب أماكن تصنيعها وتخزينها، ومنصات إطلاقها.

خسرت حماس الكثير من قياداتها لكن وجود عدد منهم خارج غزة يمنحها القدرة على المناورة (غيتي)

بنك المال والمعلومات السرية

لم تتوقع «حماس» أن القوات البرية الإسرائيلية ستتعمق داخل غزة، كل هذا الوقت وبهذا العمق والسعة، ما منعها من نقل أو إتلاف ملفات بالغة السرية، من بينها ملفات اجتماعات مغلقة، وملفات أمنية ومالية، نجحت إسرائيل في السيطرة عليها، كما الفيديو الذي ظهر فيه قائد «كتائب القسام»، محمد الضيف، الذي كان يوصف بأنه رجل الظل الذي لا تعرف صورته.

وأكدت مصادر في الحركة، لـ«الشرق الأوسط»، أن «الوقت لم يسعف عناصر (حماس) لتدمير ما لديها من ملفات، وإلا كان تم زرع عبوات ناسفة لتفخيخ المواقع التي تحوي مثل هذه الملفات على الأقل».

على الصعيد الحكومي، يمكن الجزم أن «حماس» خسرت جميع مقراتها، كما فقدت قيادات حكومية بارزة كانت تقود عملها الخدمي وغيره، إلى جانب كثير من أركان هيئة الطوارئ التي شكّلتها لإدارة العمل الحكومي للسكان خلال الحرب، وليس آخرهم على الأغلب المهندس ماجد صالح، المدير في وزارة الأشغال، الذي كان هدفاً لإسرائيل مرات عدة خلال هذه الحرب، وقد فقد زوجته وعدداً من أبنائه.

ترافق ذلك مع خسارة «حماس» كثيراً من مواردها المالية التي كانت تعتمد عليها، فهي إلى جانب الدعم الخارجي والدخل الحكومي، ثمة مصانع ومحال وعقارات وغيرها كانت تدرّ على الحركة شهرياً مبالغ طائلة.

وخلال الحرب تعمدت إسرائيل استهداف جميع مصادر تمويل «حماس»، وقصفت بنكاً تابعاً للحركة، وغرفاً محددة كان تخزن أموالاً، وهاجمت مركبات نقل أموال، واستولت على ملايين «الشواقل» من أماكن داهمتها، الأمر الذي أفقد «حماس» في كثير من الفترات قدرتها على صرف رواتب موظفيها وعناصرها، سواء الحكوميون أو المنضمون لجناحها العسكري وغيرهم.

في نهاية المطاف، طال الدمار كل شيء، كل شارع وحي، وجميع العائلات التي رزحت تحت نار الحرب طوال عام. لكن حسابات الربح والخسارة بالنسبة لـ«حماس» أمر بلاغ التعقيد، ولا يمكن الجزم به. ففي اليوم التالي للحرب، ستكون المعطيات حاسمة لمعرفة أن الحركة انتهت بالفعل، أم أنها طبقاً للظروف قادرة على العودة والنهوض مجدداً.