محمد مكية.. تمازج مبدع بين الروحي والبيئي

بغداد تودع عاشقها ومهندس عمارتها

جامع الخلفاء ..من أشهر تصاميمه
جامع الخلفاء ..من أشهر تصاميمه
TT

محمد مكية.. تمازج مبدع بين الروحي والبيئي

جامع الخلفاء ..من أشهر تصاميمه
جامع الخلفاء ..من أشهر تصاميمه

نعت أوساط ثقافية وفنية وسياسية عراقية رحيل عميد المعماريين العراقيين، واحد رموزها الفنية العظيمة عاشق الهندسة المعمارية البغدادي محمد صالح مكية عن عمر ناهر المائة عام وذلك يوم الأحد الماضي في مستشفى كوليج بلندن، ووصفت رحيله بالخسارة الكبيرة للبلاد، بعد أن ترك مسيرة حافلة بالإنجازات الكبيرة في مجالات العمارة والفن والثقافة التي تغنت ببغداد، وارتبط اسمه باسم أول مدرسة معمارية في العراق، مؤسسا وعميدًا لها.
مسيرة مكية حفلت بالكثير من الإنجازات التي امتدت من ستينات وحتى التسعينات من القرن العشرين٬ صمم فيها عشرات الجوامع والدواوين والقصور الأميرية ومباني الوزارات والمنظمات الحكومية والبنوك والمتاحف والجامعات والمكتبات في العراق والبلدان العربية والإسلامية وغير الإسلامية٬ وكانت تصاميمه تفوز دائما بجوائز لجان التحكيم الدولية، من أهمها تصميم جامع الخلفاء، والكوفة وبوابة مدينة عيسى في البحرين والمسجد الكبير في الكويت وجامع إسلام آباد في باكستان وجامع تكساس في الولايات المتحدة الأميركية وجامع روما في إيطاليا وغيرها من التصاميم.
معماريون عراقيون أكدوا أن أبرز ما يتميز أسلوب مكية الهندسي أنه لم يتأثر بالتقنيات الغربية الحديثة في العمارة٬ ولم يكن أسير الخصائص والمفردات العربية التقليدية٬ وإنما زاوج بين التوجهين٬ وكان من نتيجة ذلك ولادة عمارة عراقية معاصرة وفية لبيئتها، وكانت إنجازاته تعبر عن فلسفته الإنسانية العميقة٬ التي تراعي العمق الروحي والعمق البيئي في آن٬ وانطلاقًا من هذه الفلسفة هو يوجه نقدًا شديدًا لعمران المدينة العربية الحديثة التي تعادي الإنسان ومزاجه وجمالياته ولا تتقاطع مع تراثه.
المعماري والأكاديمي الدكتور خالد السلطاني، كتب رسالة وداع طويلة لأستاذه المعماري محمد مكية، وتحدث عن سيرته الحافلة بالعطاء ومآثره وإنجازاته، واستهلها بالقول: «وداعًا فخرنا المعماري والثقافي والوطني! وداعا لأبرز المعماريين العرب».
وأضاف: «أكمل محمد مكية تعليمه المعماري في إنجلترا، في ليفربول، حيث درس معظم المعماريين العراقيين الرواد، الذين تأهل أكثريتهم في مدرستها المعمارية وحصلوا منها على شهادات التخرج المهنية، أمثال أحمد مختار إبراهيم، وحازم نامق، وجعفر علاوي، وعبد الله إحسان كامل، ومدحت على مظلوم وغيرهم؛ وأغنى محمد مكية على امتداد نشاطه الإبداعي الطويل، البيئة المحلية والإقليمية بشواهد مبنية، تعد الآن صروحًا معمارية، و(أيقونات) بصرية لتلك المدن التي تقع فيها تلك الشواهد».
وأضاف: «تعد عمارة مكية، الآن، ملكًا للناس وللثقافة التي أنتجتها، وللمجتمع الذي صمّمت له تلك العمارة. عبّر مكية عن حسه المهني للمكان، وتأثير هذا المكان وثقافته على مجمل التصاميم التي أنجزها مثل (مسجد الخلفاء) (1963)، وكلية التربية في باب المعظم (1966)، ومكتبة ديوان الأوقاف (1967) ببغداد، ومبنى مصرف الرافدين في الكوفة (1968)، وفي كربلاء (1968)، ومسجد الشيخ حمد (1974) في البحرين؛ ومسجد الكويت الكبير (1982)، ومسجد الصديق (1978)، وأعد تصاميم لمسجد الدولة الكبير في بغداد (1982)، وجامعة الرشيد (1981) في ضواحي بغداد، ومشروع الجامعة العربية في تونس (1983) وغيرها من المشاريع ذات اللغة التصميمية الميزة التي أكسبت تلك العمارة أهميتها، ومنحتها فرادتها.
لقد شكلت عمارة محمد مكية، (والحديث ما زال لخالد السلطاني) بمقاربتها المميزة، أحد أهم تجليات المنجز المعماري العراقي المرموق، واحتلت موقعا مؤثرا في الخطاب المعماري الإقليمي. لقد ارتبطت تلك المقاربة بالاهتمام والتأكيد على خصوصية المكان، وثقافته، و(روحه)؛ كمفردة أساسية في عملية الخلق التكويني المؤسسة لعمارة جديدة، كان من ضمن مقوماتها تأويل وإعادة قراءة المنجز المعماري المحلي، ذلك المنجز، الذي تشكل عبر أزمنة طويلة، وإضافات مبدعة، تعاقب معماريون وبناة مبدعون على إثرائه وديمومته. إن فعالية التأويل، التي تبنتها تلك المقاربة الخلاقة، وإعادة القراءة للموروث المعماري وسمت نشاط محمد مكيه التصميمي».
ولفت السلطاني إلى أن «أحد أهم إنجازات مكية التصميمية هو مسجد الخلفاء ببغداد (1963)، وأحد أهم المآثر المعمارية العربية في فترة الستينات، لجهة نوعية حلولها التصميمية ولناحية مقاربتها المعمارية، وهي إضافة مميزة في منتج العمارة الإقليمية، كما كان لمكية دور فعال في تأسيس مدرسة بغداد المعمارية الأولى - قسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة بغداد، فقد شغل المعمار منصب أول رئيس للقسم عند تأسيسه عام 1959 ولحين خروجه القسري من العراق في نهاية الستينات».
الجدير بالذكر أن أمانة بغداد، وبمناسبة مئويته التي صادفت في عام 2014، احتفلت به بمشاركة الأوساط المهنية والاجتماعية في بلده العراق، عبر منهاج حافل، وبتنظيم ندوة خاصة بهذه المناسبة تحدثت عن المكانة التي يمتلكها مكية وخرجت بتوصيات محددة، نعتقد أنه آن الأوان لتحقيقها وتفعيلها.
وفي تلك الاحتفالية، قرأ أحد تلامذته، وصية مكية الشهيرة التي نالت اهتمام الحاضرين وقتها وقد بدأها بكلمة أوصيكم ببغداد، جاء فيها: «إنه لشرف لي أن أخاطبكم.. وكم وددت لو أن هذه الأعوام المائة تعينني للوصول إليكم والاجتماع بكم والاستئناس بوجوهكم وكلماتكم.. بغداد أيها الأحبةُ جوهرة من جواهر العصر.. قد تمرض.. تتعب.. تئن.. لكنها لا تشيخ.. فزمن المدن العظيمة مغاير لتفسيرنا للزمن».
وأضاف: «بغداد عزيزة وغالية.. عندما غادرناها مضطرين قبل عشرات من السنوات عرفنا أن شيئا من ذواتنا علق هناك على ضفاف دجلة.. في الأزقة.. والمقاهي.. والشناشيل.. والساحات.
عرفنا أن شيئا من بغداد كان معنا.. نما معنا كأبنائنا. كبرنا.. وشخنا.. وهذه المائة تمضي.. لكن ذلك الشيء، ذلك الجزء من بغداد لا يكبر.. لا يشيخ.. يتوحد بأحلامنا.. بلهجاتنا.. بطريقة تفكيرنا.. يتسلق جدران منازلنا.. يتحول إلى شمس عراقية حانية ودافئة في أيام الشتاء القاسية.. وإلى نسمة من دجلة في أيام الصيف».
وتأسف مكية لما وصلت إليه بغداد، وهو يقول: «من المؤسف أن بغداد تتعرض إلى تشويه لذاتها وصفاتها منذ عقود.. من المؤسف أن العمارة لم تكن دائمًا تنتمي إلى تلك العلاقة الأصيلة مع النهر والضفة والروح الساكنة بينهما». وختم رسالته بالقول: «أوصيكم ببغداد.. استمعوا إليها.. أصغوا إلى صوتها كثيرا.. ستكتشفونه في حركة الشجر والنخيل.. في دفق ماء النهر.. في الضحكات الصافية.. تأملوا لونها.. تجدونه في الطابوق.. في الخشب.. في زرقة الماء.. في سمرة الأهل. ولأن (ديوان الكوفة) ينتمي إلى بغداد.. بكل إرثه وتراثه والتاريخ الذي سجل فيه على امتداد عقود.. أطالب بعودة ديوان الكوفة إلى مكانه الطبيعي في بغداد.. ولأن السنوات المائة لا تسعفني للقيام بهذه المهمة بنفسي، كلفت ولدي العزيز كنعان مكيّة بالعمل معكم على هذا الأمر».
بدورها، نعت وزارة الثقافة العراقية، المعماري الكبير محمد مكية في بيان رسمي صدر عنها جاء فيه: «تلقينا ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة رمز من رموز العراق الشامخة، أعطى كل ما لديه من إنجازات كبيرة في مجالات العمارة والفن والثقافة، مبينة أنّ العراق يزخر بمبدعين قدموا عصارات فكرهم في كل المجالات وأثبتوا انتماءهم الوطني ومنهم المهندس والمعماري الكبير محمد مكية، الذي يعد رحيله خسارة كبيرة للبلاد».
ما يذكر أن أهم إنجازات مكية جامع قابوس الكبير في عمان وجامع تكساس في الولايات المتحدة الأميركية، وجامع روما في إيطاليا. وبيت الدكتور فاضل الجمالي رئيس وزراء العراق الأسبق، ودار الأميرات في المنصور. ومبنى الكلية التكنولوجية في بغداد (1966) ومكتبة ديوان الأوقاف العامة (1967) ومبنى مصرف الرافدين في الكوفة (1968) ومسجد الصديق في الدوحة (1978) وتصميم الجامعة العربية في تونس (1983).
وصدر كتابان عنه، أولها كتاب للدكتور خالد السلطاني بعنوان «محمد مكية مائة عام من العمارة والحياة» صادر عن دار الأديب البغدادية يوثق بالتحليل والصور المشاريع والتصاميم التي أنجزها مكية الذي بلغ من العمر 100 عام.
كما صدر عنه كتاب للدكتور علي ثويني عن دار ميزوبوتاميا في بغداد بعنوان «المعماري محمد صالح مكية..تحليل للسيرة والفكر والمنجز»، وهو سفر موسوعي يتطرق إلى شجون العمارة والفكر والتاريخ والمجتمع والنفس المرافقة لسيرة الدكتور مكية.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟