حسين حبري.. «سنوات الجحيم»

بعد ربع قرن على مجازره.. سيف العدالة يطارد الرئيس التشادي السابق

حسين حبري.. «سنوات الجحيم»
TT

حسين حبري.. «سنوات الجحيم»

حسين حبري.. «سنوات الجحيم»

رفع قبضته.. هز سبحته.. هتف من على أكتاف مرافقيه العسكريين بسقوط المحكمة التي تريد أن تنبش ماضيه بعد ربع قرن من الزمن، هكذا ظهر الرئيس التشادي السابق حسين حبري في الجلسة الأولى من محاكمته بالعاصمة السنغالية دكار، يُجر بالقوة للمثول أمام قضاة أفارقة وهو من أفرط في استخدام القوة لقمع من تشم فيه رائحة معارضة حكمه في الفترة ما بين 1982 و1990؛ سنوات الجحيم بالنسبة للتشاديين.

لم يكن ذلك الرجل النحيف وطويل القامة بزيه الأفريقي الأبيض ونظرته الحادة والغامضة المقبلة من خلف لثام صحراوي، ليوحي للوهلة الأولى بأنه متهم بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وجرائم تعذيب»، وأن ضحاياه يزيد عددهم على 40 ألف نسمة وفق تقديرات منظمة العفو الدولية.
دارت الأيام وتقلبت بشكل لا يصدق في سيرة حياة الرئيس التشادي السابق، فمن طالب في كليات الحقوق الفرنسية إلى متمرد لفت الأنظار بخطف رعايا فرنسيين في سبعينات القرن الماضي، ثم أصبح بعد ذلك الرجل القوي الذي تراهن عليه القوى العالمية للوقوف في وجه طموحات العقيد الليبي معمر القذافي، قبل أن ينتهي به المطاف مطاردًا في العاصمة السنغالية من طرف جيش من المحامين والمنظمات الحقوقية انتهت في الأخير بجره أمام المحكمة، كل هذا مر على الرجل وهو يمارس هوياته المفضلة: الصمت ثم الصمت، فلا شيء بالنسبة له يستحق الثرثرة وفتح ملفات الماضي.
ينحدر حسين حبري من شمال تشاد، حيث ولد عام 1942 لينشأ ويترعرع في بيئة صحراوية قاسية مع عائلة بدوية تمارس رعي المواشي، وبالكاد عرف الاستقرار في طفولته المضطربة، على الرغم من كل ذلك أظهر الفتى حبري قدرة كبيرة على التأقلم والصبر والتحمل، وأبان في وقت مبكر قدرة كبيرة على المناورة في الصحراء. استطاع المراهق حبري أن يشغل منصب نائب رئيس الإدارة المحلية، قبل أن ينتقل إلى فرنسا عام 1963، حيث تابع تعليمه في معهد الدراسات العليا لما وراء البحار، وبعد ذلك درس الحقوق في باريس، والتحق بمعهد العلوم السياسية، وأصبح يطالع كتب فرانتز فانون وارنستو «تشي» غيفارا وريمون ارون، غير أن الغريب في الرجل أنه لم يظهر طيلة مسيرته غريبة الأطوار هذه أي نوع من الانتماء الفكري الصريح.
عاد حبري من فرنسا عام 1971، وهو يحمل شهادة في الحقوق ترشحه ليكون سياسيًا مخضرمًا في بلده، غير أن خلفيته البدوية المتمردة وطبيعته الصحراوية القاسية لم تكن لتتركه يجلس خلف مكتب مريح لينتظر التعيين، فالتحق بجبهة التحرير الوطني لتشاد التي تولى قيادتها قبل أن يؤسس مع شمالي آخر، هو جوكوني عويدي مجلس القوات المسلحة للشمال، بدأ حبري يلفت الأنظار إليه في الخارج منذ عام 1974 عندما اختطف عالمة الإثنيات الفرنسية فرنسواز كلوستر، واحتجزها لثلاث سنوات أجبر خلالها فرنسا على التفاوض مع المتمردين.
ظل حبري يتدرج في المناصب حتى شغل منصب رئيس الحكومة في عهد الرئيس فيليكس مالوم غير أن حبال الود بين الرجلين لم تلبث أن انقطعت، عاد حبري إلى المناصب وزيرًا للدفاع في عهد رفيق دربه وصديقه غوكوني عويدي، رئيس حكومة الوحدة الوطنية التي شكلت عام 1979، لم يتأخر الصدام بين الرفيقين حبري وعويدي، فالأخير كان مؤيدًا للعقيد معمر القذافي الصاعد بقوة في الجارة الشمالية ليبيا، فيما كان حبري لا يخفي عداءه للقذافي الذي يمثل بالنسبة له خطرًا واضحًا على بلده.
تطور الخلاف بين عويدي وحبري إلى حرب أهلية عنيفة في أنجامينا، تعرض فيها حبري لخسائر أجبرته على الانسحاب من المدينة عام 1980، غير أنه تمكن من جمع صفوف مقاتليه في مناطق الغابات بشرق تشاد، ليبدأ رحلة من الكفاح المسلح ضد نظام عويدي المدعوم من طرف القذافي، غير أن ذلك لم يمنع حبري من دخول أنجامينا عام 1982، حيث بدأ يتضح أن قوى كبيرة تقف وراءه.
بعد أن هزم عويدي وأزاح الموالين للقذافي من أنجامينا، التفت حبري إلى الشمال، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من حياة حسين حبري أصبح خلالها العدو الأول لنظام القذافي الذي يحتل جيشه مناطق واسعة من شمال تشاد، فنجح حبري في طرد الجيش الليبي من الأراضي التشادية عام 1987، خاض حبري معركته ضد القذافي وهو يسند ظهره إلى المخابرات الأميركية والفرنسية، وقد استقبل من طرف الرئيس الأميركي رونالد ريغان والفرنسي فرنسوا ميتران، اللذين قدماه للعالم على أنه «بطل تحرير»، وإحدى الركائز التي لا بد منها لتحقيق السلام في منطقة الصحراء الكبرى، وهكذا أصبح حبري الرجل الذي اختاره الغرب ليقف في وجه القذافي، غير أنه في الوقت الذي كان يحقق النجاحات على الصعيد الخارجي كانت قبضته الحديدية تخنق التشاديين.
في هذا السياق يقول الصحافي النيجري صديق آبا في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إن «كل ما كان يجري من فظائع في ظل حكم الرئيس حسين حبري كان بمباركة من فرنسا والولايات المتحدة، فالوثائق تشير إلى أن عناصر من الشرطة السرية لحبري تلقوا تدريبات خاصة في الولايات المتحدة وفرنسا، وأن وحدات خاصة فرنسية وأميركية كانت تنشط في تشاد، بعض هذه الوحدات كان يوجد في مقرات قريبة جدًا من أماكن احتجاز وتعذيب السجناء»، من جهة أخرى يقول هنري ثولييز، وهو باحث في منظمة العفو الدولية، إن «حبري ارتكب جرائم الاغتيال، الاختفاء والتعذيب.. وفرنسا لم تكن تجهل جميع هذه الجرائم التي قام بها حسين حبري وشرطته السرية».
لم تلبث أن اهتزت القبضة الحديدية للرجل أمام الصعود القوي لعسكري آخر قاد تمردًا من داخل الأراضي السودانية، إنه الرئيس الحالي إدريس ديبي إيتنو، الذي نجح في هز أركان حكم حبري وأرغمه على الفرار مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 1990، إلى الكاميرون ومنها إلى السنغال.
حرص حبري على الابتعاد قدر الإمكان عن الأضواء طيلة 25 عامًا عاشها في السنغال، مستفيدًا من ثروة كبيرة جمعها قبل مغادرته لتشاد، قدرتها جهات حقوقية بأكثر من 128 مليون دولار أميركي، فكان يقطن في بيت متوسط الحال في أحد الأحياء الشعبية العادية في دكار، غير أنه يملك قصرًا كبيرًا في واحد من أرقى الأحياء السكنية في دكار، يقول جيرانه السنغاليون إنه قليل الكلام ولا يميل إلى مخالطة الجيران، غير أنه يحرص في الوقت نفسه على حضور جميع المناسبات الدينية، ويؤدي الصلوات الخمس في المسجد المحاذي لبيته. منذ وصوله إلى السنغال استطاع حبري أن يربط صلات قوية مع نقاط النفوذ في المجتمع السنغالي، فالمصادر تتحدث عن أموال وزعها على بعض الأحزاب السياسية وأسر دينية تتمتع بنفوذ كبير، ونجح بفضل ذلك في خلق رأي عام سنغالي متعاطف معه.
كل ذلك لم يمنع الملاحقة القضائية للرجل في معركة استمرت لأكثر من 15 عامًا، حيث بدأ الحديث عام 1999 عن «الجرائم» التي ارتكبها جهاز الشرطة السرية التابع لنظامه بعد أن قام رجل يدعى سليمان غوينغوينغ، بالكشف عن مئات الملفات التي دفنها في حديقة بيته تسرد تفاصيل الرجال والنساء الذين تعرضوا للتعذيب والقتل بأيدي رجال إدارة التوثيق والأمن المروعة في سجون النظام السرية، لتبدأ المعركة من طرف منظمات حقوقية تشادية قبل أن تدخل على الخط منظمة «هيومان رايتس ووتش» التي لعبت دورًا كبيرًا في تحريك الملف، وزارت تشاد بشكل سري في مناسبتين سجلت خلالهما ووثقت ملفات 12321 ضحية من ضمنها 1208 حالات وفاة خلال التعذيب والاعتقال.
في غضون ذلك، يشير تقرير صادر عن هذه المنظمات الحقوقية إلى أن «حبري قضى في السلطة 8 أعوام ملطخة بالدماء، شابها إعدام 40 ألف شخص بإجراءات موجزة، وعمليات إخفاء قسري. كما عانى من التعذيب ما يقرب من 200 ألف شخص، بأيدي الشرطة السرية المخيفة، أو إدارة التوثيق والأمن».
نجحت هذه المنظمات في نقل المعركة القضائية للمرة الأولى إلى السنغال عندما تم الاستماع في جلسات مغلقة إلى بعض الضحايا، وأصدر حكم بالإقامة الجبرية في حق حبري، غير أن المحكمة العليا نقضت الحكم، وأمام الضغط الدولي لوح الرئيس السنغالي السابق عبد الله واد إلى إمكانية ترحيل حسين حبري إلى تشاد، ومنحه فرصة شهر ليغادر السنغال، رغم مذكرة التوقيف الدولية التي أصدرها القاضي البلجيكي في حقه، اعتمادا على وجود 3 مواطنين بلجيكيين بين الضحايا، رفعوا دعواهم أمام المحاكم البلجيكية.
ارتفع مستوى الضغط الدولي على السنغال، عندما دعا الاتحاد الأفريقي إلى محاكمة بـ«اسم أفريقيا» في المحاكم السنغالية، وهو الأمر الذي ظلت السلطات السنغالية تتلكأ فيه حتى وصول الرئيس الحالي ماكي صال، الذي أعلن نيته الوفاء بالتعهد للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما تم عبر تعديل القوانين السنغالية لتشكيل الغرف الأفريقية غير العادية، التي أقيمت في السنغال بدعم من الاتحاد الأفريقي، في فبراير (شباط) عام 2013.
بدأت محاكمة حسين حبري أمام قضاة أفارقة وعلى أراضٍ أفريقية، وهي محاكمة وإن كانت تمثل انتصارًا بالنسبة لضحايا نظامه، فإنها في الوقت نفسه تمثل بالنسبة للأفارقة نهاية للعهد الذي يحاكم فيه الرؤساء الأفارقة أمام محكمة الجنايات الدولية، فيما يعدها آخرون خطوة أولى في مشوار طويل وشاق نحو بناء عدالة أفريقية صلبة.. أما حسين حبري فوصفها بالمسرحية، فيما جلست زوجته في وسائل الإعلام السنغالية لتتحدث عن «محاكمة صورية لآخر رجل مخلص لقضايا القارة الأفريقية».



أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
TT

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)

يحاول الأردن تحييد أجوائه وأراضيه بعيداً عن التصعيد الإسرائيلي - الإيراني، الممتد عبر جبهتي جنوب لبنان وشمال غزة، ليضاعف مستويات القلق الأمني مراقبة خطر الضربات المتبادلة و«المُتفق على موعدها وأهدافها» بين طهران وتل أبيب، ولتعود مخاطر عمليات تهريب المخدرات والسلاح على الواجهتين الشمالية والشرقية، وتدخل الجبهة الغربية على الحدود مع دولة الاحتلال على خطوط التهريب، لتعويض الفاقد من المواد المخدّرة في أسواق المنطقة.

سارع الأردن لتأمين سلامة أرضه، ومنع اختراق أجوائه، وممارسته لسيادته بعد ليلتين متباعدتين سعت طهران من خلالها إلى «حفظ ماء الوجه بتوجيه صواريخ لم تنجح في الوصول إلى أهدافها داخل إسرائيل». وبالنتيجة، أسقطت الدفاعات الجوية الأردنية صواريخ إيرانية في الصحراء الشرقية وعلى الحدود الشمالية مع سوريا.

وفي حين اعتبرت بعض الجهات أن «الدفاعات الجوية الأردنية انطلقت حماية لإسرائيل»، أكدت عمّان على لسان مصادر مطلعة أن «الضرورة تتطلب اعتراض أي صواريخ عابرة لسماء المملكة، بعيداً عن المواقع الآهلة بالسكان، ومخاطر تسبّبها بخسائر بشرية، أو أضرار مادية». وبالتالي، جاء القرار العسكري محصّناً بأولوية حماية أرواح الأردنيين. وأردفت المصادر من ثم أن «مَن يريد ضرب إسرائيل فأمامه حدود لبنان الجنوبية أو الحدود السورية مع الجولان المحتل»؛ لأن من هناك تكون الصواريخ الإيرانية أقرب لتحقيق أهدافها، بدلاً من إطالة المسافة بمرورها عبر سماء المملكة، واحتمالات سقوطها في مواقع حيوية على الحدود الغربية مع دولة الاحتلال.

في الواقع، تابع المواطنون الأردنيون ليلة الثالث عشر من أبريل (نيسان) وأيضاً في أكتوبر (تشرين الأول)، عرضاً ليلياً بإضاءات الدفاعات الجوية وإسقاطها صواريخ إيرانية عبرت فضاءات الأردن على وقع الكلام عن دعم طهران لغزة ضد العدوان الإسرائيلي، والانتقام لاغتيال إسماعيل هنية، رئيس حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، أثناء زيارته الرسمية للمباركة بفوز الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في انتخابات الرئاسة، وكذلك الانتقام من تصفية قيادات الصفوف المتقدمة في «حزب الله» اللبناني، وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي.

وفي المقابل، أمام التقدير العسكري الأردني في أولوية إسقاط الصواريخ الإيرانية أثناء عبورها سماء المملكة ومنع سقوطها بالقرب من مناطق سكنية، أكّدت عمّان، عبر قنوات اتصال أمنية مع إسرائيل، ورسائل أردنية إلى الإدارة الأميركية، تصدّيها لأي هجوم إسرائيلي على طهران قد يستخدم سماءها بذريعة الردّ على ضربات إيرانية محدودة في الداخل الإسرائيلي.

توضيح الموقف الأردني

هنا استعاد جنرالات أردنيون تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» ذاكرة المفاوضات مع إسرائيل قبل صياغة «قانون معاهدة السلام» المتعارف على تسميته «اتفاق وادي عربة من عام 1994»، ومنها تمسّكهم - آنذاك - بتحديد تل أبيب مدىً جغرافياً للرد على أي هجوم مُحتمل «على أن يضمن ذلك عدم انتهاك الأجواء الأردنية وإسقاط أي أجسام متفجرة داخل حدود المملكة الغربية». ومما سمعناه أن «نبوءة» المفاوضين الأردنيين من قيادات القوات المسلحة، كانت تقرأ مستقبل التطورات في منطقة متخمة باحتمالات الحرب، وموقع الأردن بين «فكي كماشة» بضم «محور الممانعة» من جهة وإسرائيل من الجهة المقابلة. وبناءً عليه؛ اضطر الجيش إلى التعامل مع الصواريخ الإيرانية العابرة التي قد تُسقط داخل الأراضي الأردنية. ومن المعلوم بأن الحدود الغربية مأهولة بالسكان؛ وبذا تبادر دفاعات الجيش الأردني الجوية بالرد على تلك الصواريخ دفعاً لسقوطها في الصحراء الشرقية بعيداً عن السكان، غير أن بعض حطام تلك الصواريخ وقع حقاً في مناطق من العاصمة ومحافظات الوسط، ولقد وثقتها كاميرات الهواتف الذكية فيديوهات، وجرى نشرها على منصات التواصل الاجتماعي.

إيمن الصفدي (رويترز)

نشاط عمّان الدبلوماسي ترك انطباعاً بأن انفتاح الحراك

على «محور الممانعة» يأتي من زاوية السعي

لحماية المصالح الأردنية

عبر الأجواء السورية

من ناحية ثانية، وجّهت إسرائيل قبل أسبوع ضربة صاروخية على مواقع عسكرية إيرانية. وأفادت معلومات مؤكدة بأن مسار الرد الإسرائيلي كان عبر الأجواء السورية، بعد نجاح الاختراق الإسرائيلي من ضرب رادارات متقدّمة للدفاعات السورية. ولقد أعادت تل أبيب في هذا المشهد التأكيد على انتهاكاتها المستمرة بحق «دول الجوار»، وأمام صمت دولي ومباركة أميركية بعد توافر معلومات عن مواقع حددتها إسرائيل، ورأى مراقبون أن الرد جاء في سياق «معادلة ميزان القوى» في المنطقة ضمن حدود الحرب المنتظرة أو سياسة صناعة التوتر في المنطقة عبر «حرب استنزاف»، تسبّبت في سقوط آلاف القتلى والجرحى والمفقودين ومئات آلاف النازحين في غزة ومن جنوب لبنان.

زوايا حرجة في العلاقة مع إيران

توازياً مع ما سبق، وفي زيارة مفاجئة حمل وزير الخارجية أيمن الصفدي في الثامن من أغسطس (آب) الماضي رسالة من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إلى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، أكد خلالها الصفدي أن الزيارة جاءت «بتكليف من الملك عبد الله الثاني لتلبية الدعوة إلى طهران»، مضيفاً أن هدف الزيارة هو «الدخول في حديث أخوي واضح وصريح حول تجاوز الخلافات ما بين البلدين بصراحة وشفافية، والمضي نحو بناء علاقات طيبة وأخوية قائمة على احترام الآخر، وعدم التدخل في شؤونه، والإسهام في بناء منطقة يعمّها الأمن والسلام».

الزيارة والرسالة شكَّلتا «استدارة» أردنية في علاقتها مع إيران، ليتبعها خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لقاء جمع الملك الأردني وبزشكيان، في الثلث الأخير من سبتمبر الماضي، وهو لقاء بدأ موسّعاً بحضور بعض أركان وفدي البلدين، ثم اقتصر على مباحثات ثنائية لم يحضرها أحد، وظلّت تفاصيل اللقاء محفوظة لدى الزعيمين.

أيضاً، تلك الزيارة فتحت شهية البعض لـ«شيطنة» الموقف الرسمي الأردني واتهام عمّان بنقلها «رسالة تهديد» لطهران برد إسرائيلي حازم. غير أن الوزير الصفدي أكد في تصريحات رسمية مع نظيره الإيراني في حينه «أبلغت معالي الأخ بشكل واضح، لست هنا حاملاً رسالة إلى طهران، ولست هنا لأحمل رسالة لإسرائيل». وتابع أن «رسالة الأردن الوحيدة لإسرائيل أُعلنت في عمّان بشكل واضح وصريح، ومفادها وقف العدوان على غزة، ووقف جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني، ووقف الخطوات التصعيدية، والذهاب نحو وقف فوري ودائم لإطلاق النار يتيح العمل من أجل تحقيق سلام عادل وشامل... لن يتحقّق إلا إذا حصل الشعب الفلسطيني على حقوقه كاملة، وفي مقدمها حقه في الحرية والسيادة والكرامة في دولته المستقلة».

في مطلق الأحوال، ما كان المقصود من زيارة الصفدي الإيرانية تأكيد موقف حيال طهران وحلفائها فقط، بل كانت الزيارة في حد ذاتها رسالة إلى إسرائيل مفادها أن الأردن «يملك خياراته السياسية في الدفاع عن سيادته على أرضه وسمائه، وأن واحداً من الخيارات هو فتح قنوات الاتصال على وسعها مع طهران وأطراف الصراع في المنطقة»، بحسب مصادر تحدثت لـ«الشرق الأوسط» آنذاك.

استقبال عراقجي وميقاتي

ما يُذكر أنه في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي استقبل الملك عبد الله الثاني في عمَّان، وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وشدّد على «ضرورة خفض التصعيد بالمنطقة». وحذّر العاهل الأردني من أن «استمرار القتل والتدمير سيبقي المنطقة رهينة العنف وتوسيع الصراع»؛ ما يتطلب «ضرورة وقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان خطوةً أولى نحو التهدئة»، مجدداً التأكيد على أن «بلاده لن تكون ساحة للصراعات الإقليمية».

ثم أنه إذا كان استقبال الوزير الإيراني، الذي زار الأردن ضمن جولة عربية مهماً لعمَّان، فقد سبق هذه الزيارة بيومين وصول رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي إلى العاصمة الأردنية ولقاؤه الملك عبد الله الثاني. وكان في جدول أعمال الزيارة:

- أولوية دعم الجيش اللبناني وسط احتمالات النزول إلى الشارع في ظل مخاوف من احتكاكات محتملة بين ميليشيات حزبية محسوبة على زعماء لبنانيين.

- الحاجة إلى تطبيق القرار الأممي بنشر قوات من الجيش اللبناني في مناطق الجنوب التي تخضع لسيطرة «حزب الله».

- الاستفادة من فرص وقف إطلاق النار عبر هُدن يمكن تمديدها.

واستكمالاً لعقد المباحثات مع «محور الممانعة»؛ طار الوزير أيمن الصفدي إلى دمشق، التي شكَّلت حدودها الجنوبية مع الأردن وعلى مدى أكثر من عقد ونصف العقد، حالة أمنية طارئة للجيش الأردني. ذلك أنه يتعامل باستمرار مع صد محاولات قوافل مهربي المخدّرات وعصابات السلاح لتجاوز الحدود؛ وهو ما استدعى مواجهات مسلحة واشتباكات نهاية العام الماضي أسفرت عن سقوط قتلى وإلقاء القبض على مهرّبين لهم اتصالات مع خلايا داخل المملكة.

الصفدي حمل رسالة شفوية من العاهل الأردني إلى الرئيس السوري بشار الأسد، لكن لم يُكشف عن مضمونها. مع هذا، نشاط عمّان الدبلوماسي على مدى أيام الشهر الماضي، ترك انطباعاً لدى جمهور النخب المحلية، بأن انفتاح الحراك الدبلوماسي الأردني على «محور الممانعة» يأتي من زاوية السعي لحماية المصالح الأردنية في ظل ما تشهده المنطقة من تصعيد عسكري خطير، وموقع المملكة على خطوط النار.

التهريب تهديد أمني

أردنياً، يُعتقد في أوساط الطبقة السياسية المطلعة، أن خطر تهريب المخدرات من الداخل السوري لا يزال يشكل «تحدياً أمنياً» كبيراً؛ الأمر الذي يستدعي إبقاء حالة الطوارئ لدى قوات حرس الحدود على امتداد الحدود الشمالية نحو (370 كلم) بين البلدين، لا سيما في ظل تحوّل مناطق في الجنوب السوري إلى مصانع إنتاج المخدرات، ونقلها من خلال عمليات التهريب إلى أسواق عربية وأجنبية عبر المملكة. ويضاف إلى ذلك النزف الاقتصادي المستمر منذ عام 2012، واستقبال اللاجئين وكُلف إقامتهم، وتراجُع أثر خطط الاستجابة الدولية للتعامل مع الدول المستضيفة للاجئين؛ إذ يستضيف الأردن نحو 1.3 مليون لاجئ سوري، معظمهم يقيمون خارج المخيمات التي خصصت لهم.

أمر آخر، يستحقّ التوقف عنده هو أنه لا يمكن فصل تلك الزيارة عن الملف الأردني الأهم، ألا وهو «الملف الأمني» المباشر. والحال، أنه لطالما بقي الجنوب السوري مسرحاً للميليشيات الإيرانية وغيرها، سيظل القلق الأردني من الخطر الآتي من الشمال، وبالتحديد، ستستمر المخاوف من تسرّب عناصر مسلحة بقصد «المقاومة» في فلسطين وعن طريق عمّان.

وبالفعل، جاء في بيان إن الرئيس الأسد والوزير الصفدي بحثا قضية عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم؛ إذ شدد الأسد على أن «تأمين العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين» هو «أولوية للحكومة السورية» التي أكد أنها قطعت شوطاً مهماً في الإجراءات المساعدة على العودة، خصوصاً في المجالين التشريعي والقانوني.وفي إطار الزيارة، أجرى الصفدي مباحثات موسَّعة مع وزير الخارجية والمغتربين السوري بسام الصباغ، ركّزت على جهود حل الأزمة السورية وقضية اللاجئين، ومكافحة تهريب المخدرات، إضافةً إلى التصعيد الخطير الذي تشهده المنطقة وجهود إنهائه.

الرئيس نجيب ميقاتي (إ.ب.أ)

 

حقائق

زيارة ميقاتي لعمّان... طلبتُ دعم أمن لبنان

فيما يخصُّ العلاقات الأردنية - اللبنانية، طلب الرئيس نجيب ميقاتي، رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان، في عمّان من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني دعم الجيش اللبناني بصفته القوة القادرة على التعامل مع احتمال تطور استخدام سلاح ميليشيات حزبية متباينة المواقف والولاءات، مع استمرار القصف الإسرائيلي الليلي على مناطق في الضاحية الجنوبية، وفي جنوب لبنان.وللعلم، يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي استقبل اللواء يوسف الحنيطي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية، في عمّان، قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون. وفي الواقع لم يخفِ الأردن الرسمي دعمه للجيش اللبناني وأولوية تزويده بكل الاحتياجات بصفته ضمانة لأمن لبنان وحامياً للسلم الأهلي، بينما المواقف بين الأحزاب السياسية والميليشيات المحسوبة عليها. وبموازاة أولوية تزويد الجيش اللبناني بمتطلبات فرض سيطرته لحماية الأمن الداخلي وتنفيذ استحقاق قرارات أممية، أعلنت عمّان أيضاً دعمها لجهود الاستقرار السياسي في لبنان عبر انتخاب رئيس جديد للبلاد، ما من شأنه تخفيف حدة الاحتقان والتوتر، خصوصاً بعد تطورات الأسابيع الأخيرة أمنياً وسياسياً على معادلات الإدارة السياسية للبلاد، وتحريك عمل مؤسسات لبنان الدستورية. وهنا يرى محللون أردنيون أن تراكم الفوضى على حدود المملكة الشمالية مع سوريا والشرقية مع العراق، وحالة اللااستقرار في لبنان التي تفاقمت مع استمرار العدوان الإسرائيلي، وزيادة نشاط خطوط تهريب المخدرات، وضع تجب مواجهته عبر مسارين: الأول، مسار أمني يتطلب رفع درجات التأهب لمنع أي اختراقات إيرانية للأمن الأردني، والثاني مسار سياسي يتعلق بمواصلة الجهود السياسية لاحتواء الخطر الراهن ومحاولة تجاوز أي تصعيد من شأنه دفع المنطقة وجوار الأردن نحو المجهول. ولكن في هذه الأثناء، واضح أن إسرائيل هي الأخرى تبحث عن إزعاج الأردن، بما في ذلك «عزف» حسابات خارجية على منصات التواصل الاجتماعي على وتر الفتنة، وإغراق الرأي العام في جدل الإشاعات وتأجيجها.