حسين حبري.. «سنوات الجحيم»

بعد ربع قرن على مجازره.. سيف العدالة يطارد الرئيس التشادي السابق

حسين حبري.. «سنوات الجحيم»
TT

حسين حبري.. «سنوات الجحيم»

حسين حبري.. «سنوات الجحيم»

رفع قبضته.. هز سبحته.. هتف من على أكتاف مرافقيه العسكريين بسقوط المحكمة التي تريد أن تنبش ماضيه بعد ربع قرن من الزمن، هكذا ظهر الرئيس التشادي السابق حسين حبري في الجلسة الأولى من محاكمته بالعاصمة السنغالية دكار، يُجر بالقوة للمثول أمام قضاة أفارقة وهو من أفرط في استخدام القوة لقمع من تشم فيه رائحة معارضة حكمه في الفترة ما بين 1982 و1990؛ سنوات الجحيم بالنسبة للتشاديين.

لم يكن ذلك الرجل النحيف وطويل القامة بزيه الأفريقي الأبيض ونظرته الحادة والغامضة المقبلة من خلف لثام صحراوي، ليوحي للوهلة الأولى بأنه متهم بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وجرائم تعذيب»، وأن ضحاياه يزيد عددهم على 40 ألف نسمة وفق تقديرات منظمة العفو الدولية.
دارت الأيام وتقلبت بشكل لا يصدق في سيرة حياة الرئيس التشادي السابق، فمن طالب في كليات الحقوق الفرنسية إلى متمرد لفت الأنظار بخطف رعايا فرنسيين في سبعينات القرن الماضي، ثم أصبح بعد ذلك الرجل القوي الذي تراهن عليه القوى العالمية للوقوف في وجه طموحات العقيد الليبي معمر القذافي، قبل أن ينتهي به المطاف مطاردًا في العاصمة السنغالية من طرف جيش من المحامين والمنظمات الحقوقية انتهت في الأخير بجره أمام المحكمة، كل هذا مر على الرجل وهو يمارس هوياته المفضلة: الصمت ثم الصمت، فلا شيء بالنسبة له يستحق الثرثرة وفتح ملفات الماضي.
ينحدر حسين حبري من شمال تشاد، حيث ولد عام 1942 لينشأ ويترعرع في بيئة صحراوية قاسية مع عائلة بدوية تمارس رعي المواشي، وبالكاد عرف الاستقرار في طفولته المضطربة، على الرغم من كل ذلك أظهر الفتى حبري قدرة كبيرة على التأقلم والصبر والتحمل، وأبان في وقت مبكر قدرة كبيرة على المناورة في الصحراء. استطاع المراهق حبري أن يشغل منصب نائب رئيس الإدارة المحلية، قبل أن ينتقل إلى فرنسا عام 1963، حيث تابع تعليمه في معهد الدراسات العليا لما وراء البحار، وبعد ذلك درس الحقوق في باريس، والتحق بمعهد العلوم السياسية، وأصبح يطالع كتب فرانتز فانون وارنستو «تشي» غيفارا وريمون ارون، غير أن الغريب في الرجل أنه لم يظهر طيلة مسيرته غريبة الأطوار هذه أي نوع من الانتماء الفكري الصريح.
عاد حبري من فرنسا عام 1971، وهو يحمل شهادة في الحقوق ترشحه ليكون سياسيًا مخضرمًا في بلده، غير أن خلفيته البدوية المتمردة وطبيعته الصحراوية القاسية لم تكن لتتركه يجلس خلف مكتب مريح لينتظر التعيين، فالتحق بجبهة التحرير الوطني لتشاد التي تولى قيادتها قبل أن يؤسس مع شمالي آخر، هو جوكوني عويدي مجلس القوات المسلحة للشمال، بدأ حبري يلفت الأنظار إليه في الخارج منذ عام 1974 عندما اختطف عالمة الإثنيات الفرنسية فرنسواز كلوستر، واحتجزها لثلاث سنوات أجبر خلالها فرنسا على التفاوض مع المتمردين.
ظل حبري يتدرج في المناصب حتى شغل منصب رئيس الحكومة في عهد الرئيس فيليكس مالوم غير أن حبال الود بين الرجلين لم تلبث أن انقطعت، عاد حبري إلى المناصب وزيرًا للدفاع في عهد رفيق دربه وصديقه غوكوني عويدي، رئيس حكومة الوحدة الوطنية التي شكلت عام 1979، لم يتأخر الصدام بين الرفيقين حبري وعويدي، فالأخير كان مؤيدًا للعقيد معمر القذافي الصاعد بقوة في الجارة الشمالية ليبيا، فيما كان حبري لا يخفي عداءه للقذافي الذي يمثل بالنسبة له خطرًا واضحًا على بلده.
تطور الخلاف بين عويدي وحبري إلى حرب أهلية عنيفة في أنجامينا، تعرض فيها حبري لخسائر أجبرته على الانسحاب من المدينة عام 1980، غير أنه تمكن من جمع صفوف مقاتليه في مناطق الغابات بشرق تشاد، ليبدأ رحلة من الكفاح المسلح ضد نظام عويدي المدعوم من طرف القذافي، غير أن ذلك لم يمنع حبري من دخول أنجامينا عام 1982، حيث بدأ يتضح أن قوى كبيرة تقف وراءه.
بعد أن هزم عويدي وأزاح الموالين للقذافي من أنجامينا، التفت حبري إلى الشمال، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من حياة حسين حبري أصبح خلالها العدو الأول لنظام القذافي الذي يحتل جيشه مناطق واسعة من شمال تشاد، فنجح حبري في طرد الجيش الليبي من الأراضي التشادية عام 1987، خاض حبري معركته ضد القذافي وهو يسند ظهره إلى المخابرات الأميركية والفرنسية، وقد استقبل من طرف الرئيس الأميركي رونالد ريغان والفرنسي فرنسوا ميتران، اللذين قدماه للعالم على أنه «بطل تحرير»، وإحدى الركائز التي لا بد منها لتحقيق السلام في منطقة الصحراء الكبرى، وهكذا أصبح حبري الرجل الذي اختاره الغرب ليقف في وجه القذافي، غير أنه في الوقت الذي كان يحقق النجاحات على الصعيد الخارجي كانت قبضته الحديدية تخنق التشاديين.
في هذا السياق يقول الصحافي النيجري صديق آبا في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إن «كل ما كان يجري من فظائع في ظل حكم الرئيس حسين حبري كان بمباركة من فرنسا والولايات المتحدة، فالوثائق تشير إلى أن عناصر من الشرطة السرية لحبري تلقوا تدريبات خاصة في الولايات المتحدة وفرنسا، وأن وحدات خاصة فرنسية وأميركية كانت تنشط في تشاد، بعض هذه الوحدات كان يوجد في مقرات قريبة جدًا من أماكن احتجاز وتعذيب السجناء»، من جهة أخرى يقول هنري ثولييز، وهو باحث في منظمة العفو الدولية، إن «حبري ارتكب جرائم الاغتيال، الاختفاء والتعذيب.. وفرنسا لم تكن تجهل جميع هذه الجرائم التي قام بها حسين حبري وشرطته السرية».
لم تلبث أن اهتزت القبضة الحديدية للرجل أمام الصعود القوي لعسكري آخر قاد تمردًا من داخل الأراضي السودانية، إنه الرئيس الحالي إدريس ديبي إيتنو، الذي نجح في هز أركان حكم حبري وأرغمه على الفرار مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 1990، إلى الكاميرون ومنها إلى السنغال.
حرص حبري على الابتعاد قدر الإمكان عن الأضواء طيلة 25 عامًا عاشها في السنغال، مستفيدًا من ثروة كبيرة جمعها قبل مغادرته لتشاد، قدرتها جهات حقوقية بأكثر من 128 مليون دولار أميركي، فكان يقطن في بيت متوسط الحال في أحد الأحياء الشعبية العادية في دكار، غير أنه يملك قصرًا كبيرًا في واحد من أرقى الأحياء السكنية في دكار، يقول جيرانه السنغاليون إنه قليل الكلام ولا يميل إلى مخالطة الجيران، غير أنه يحرص في الوقت نفسه على حضور جميع المناسبات الدينية، ويؤدي الصلوات الخمس في المسجد المحاذي لبيته. منذ وصوله إلى السنغال استطاع حبري أن يربط صلات قوية مع نقاط النفوذ في المجتمع السنغالي، فالمصادر تتحدث عن أموال وزعها على بعض الأحزاب السياسية وأسر دينية تتمتع بنفوذ كبير، ونجح بفضل ذلك في خلق رأي عام سنغالي متعاطف معه.
كل ذلك لم يمنع الملاحقة القضائية للرجل في معركة استمرت لأكثر من 15 عامًا، حيث بدأ الحديث عام 1999 عن «الجرائم» التي ارتكبها جهاز الشرطة السرية التابع لنظامه بعد أن قام رجل يدعى سليمان غوينغوينغ، بالكشف عن مئات الملفات التي دفنها في حديقة بيته تسرد تفاصيل الرجال والنساء الذين تعرضوا للتعذيب والقتل بأيدي رجال إدارة التوثيق والأمن المروعة في سجون النظام السرية، لتبدأ المعركة من طرف منظمات حقوقية تشادية قبل أن تدخل على الخط منظمة «هيومان رايتس ووتش» التي لعبت دورًا كبيرًا في تحريك الملف، وزارت تشاد بشكل سري في مناسبتين سجلت خلالهما ووثقت ملفات 12321 ضحية من ضمنها 1208 حالات وفاة خلال التعذيب والاعتقال.
في غضون ذلك، يشير تقرير صادر عن هذه المنظمات الحقوقية إلى أن «حبري قضى في السلطة 8 أعوام ملطخة بالدماء، شابها إعدام 40 ألف شخص بإجراءات موجزة، وعمليات إخفاء قسري. كما عانى من التعذيب ما يقرب من 200 ألف شخص، بأيدي الشرطة السرية المخيفة، أو إدارة التوثيق والأمن».
نجحت هذه المنظمات في نقل المعركة القضائية للمرة الأولى إلى السنغال عندما تم الاستماع في جلسات مغلقة إلى بعض الضحايا، وأصدر حكم بالإقامة الجبرية في حق حبري، غير أن المحكمة العليا نقضت الحكم، وأمام الضغط الدولي لوح الرئيس السنغالي السابق عبد الله واد إلى إمكانية ترحيل حسين حبري إلى تشاد، ومنحه فرصة شهر ليغادر السنغال، رغم مذكرة التوقيف الدولية التي أصدرها القاضي البلجيكي في حقه، اعتمادا على وجود 3 مواطنين بلجيكيين بين الضحايا، رفعوا دعواهم أمام المحاكم البلجيكية.
ارتفع مستوى الضغط الدولي على السنغال، عندما دعا الاتحاد الأفريقي إلى محاكمة بـ«اسم أفريقيا» في المحاكم السنغالية، وهو الأمر الذي ظلت السلطات السنغالية تتلكأ فيه حتى وصول الرئيس الحالي ماكي صال، الذي أعلن نيته الوفاء بالتعهد للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما تم عبر تعديل القوانين السنغالية لتشكيل الغرف الأفريقية غير العادية، التي أقيمت في السنغال بدعم من الاتحاد الأفريقي، في فبراير (شباط) عام 2013.
بدأت محاكمة حسين حبري أمام قضاة أفارقة وعلى أراضٍ أفريقية، وهي محاكمة وإن كانت تمثل انتصارًا بالنسبة لضحايا نظامه، فإنها في الوقت نفسه تمثل بالنسبة للأفارقة نهاية للعهد الذي يحاكم فيه الرؤساء الأفارقة أمام محكمة الجنايات الدولية، فيما يعدها آخرون خطوة أولى في مشوار طويل وشاق نحو بناء عدالة أفريقية صلبة.. أما حسين حبري فوصفها بالمسرحية، فيما جلست زوجته في وسائل الإعلام السنغالية لتتحدث عن «محاكمة صورية لآخر رجل مخلص لقضايا القارة الأفريقية».



رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.