تركيا و«داعش».. نهاية شهر العسل

أعداء مشتركون ومصالح متقاربة.. وتفجير سروتش إنذار أولي

تركيا و«داعش».. نهاية شهر العسل
TT

تركيا و«داعش».. نهاية شهر العسل

تركيا و«داعش».. نهاية شهر العسل

لم يكل المسؤولون الأتراك عن نفي الاتهامات الكثيرة الموجهة إلى بلادهم بدعم تنظيم داعش وتسهيل حركته في سوريا عبر حدودهما المشتركة التي تمتد نحو 950 كيلومترا، وأن تلقى مساعيهم قبولا من أصحاب الاتهام الذين يستندون إلى متانة «المصالح المشتركة» التي جمعت التنظيم المتطرف بالحكومة التركية، وتقاطع المصالح الذي أدى إلى تغاضي أنقرة عن عشرات آلاف الأجانب الذين دخلوا إلى سوريا عبر أراضيها للقتال في سوريا.. لكن بعد تفجير سروتش بدا وكأن «شهر العسل» غير المعلن بين التنظيم وتركيا قد انتهى، أو في طريقه إلى الانتهاء، ما قد يؤدي إلى إقفال «بوابة الجهاد» وهو الوصف الذي يطلقه المتشددون على الحدود التركية - السورية.
يهدف هذا التفجير، على ما يبدو، إلى ضرب «عصفورين بحجر واحد»، الأول توجيه إنذار إلى الحكومة التركية للتخفيف من إجراءاتها، التي كان آخرها إعلان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن توقيف 1300 شخص كانوا ينوون الالتحاق بالتنظيم في سوريا، فيما لا يكاد يمر يوم من دون صدور أنباء عن توقيف الشرطة التركية لأشخاص مرتبطين بالتنظيم في مداهمات باتت شبه روتينية في إسطنبول وجنوب البلاد. أما العصفور الثاني، فهو الانتقام من الأكراد الذين كانوا أول من هزم التنظيم في سوريا بمساعدة أميركية مباشرة، وبمساعدة من أكراد تركيا والعراق أيضا. ومن يعلم أن التجمع الذي تم استهدافه بالتفجير الأخير في بلدة سروتش كان يتوجه إلى بلدة كوباني يعرف الصلة الوثيقة بين الانفجار و«داعش» التي لم تتبنَّ بعد التفجير خلافا لما اعتادت القيام به.
وكان تنظيم داعش هدد تركيا، بعد إغلاقها موقعه الإلكتروني باللغة التركية في مدينة الرقة السورية، بدعوى ترويجه لـ«داعش». وقالت صحيفة «صول» التركية إن إدارة موقع «darulhilafe.com» الناطق بالتركية نشرت بيانا هددت فيه تركيا، بسبب العمليات التي تنظمها السلطات التركية مستهدفة بها التنظيم في مدن مختلفة من تركيا في الآونة الأخيرة وإغلاق مواقعه الإلكترونية. وجاء في بيان التهديد المنشور على موقع التنظيم باللغة التركية: «إن دولة تركيا الطاغوتية حظرت الوصول إلى موقعنا الإلكتروني. وقد شاهدنا ولمسنا بوضوح أعمال الضغط والقمع التي تمارسها الدولة التركية في الآونة الأخيرة تجاه المسلمين. ولذلك يمكن القول بأن الدولة التركية التي قبضت على إخواننا المهاجرين واعتقلت إخواننا من المواطنين الأتراك وسعت أخيرا لفرض قيود علينا في حرية الإعلام، أظهرت عداءها تجاه المسلمين الموحدين».
وقد أثر هذا التفجير بقوة على العلاقة بين الأكراد وحكومتهم التركية، فقد تصاعدت دعوات إلى التسلح تهدد بحرب أهلية جديدة في البلاد التي ما كادت تنسى الحرب السابقة مع الأكراد التي راح ضحيتها نحو 50 ألف شخص. وفي موقف لا يخلو من المغازي، أشار صلاح الدين دميرطاش رئيس حزب ديمقراطية الشعوب الكردي في كلمة له عقب الحادث، إلى أنه يتعين على المكون الكردي بعد هذا الحادث «أن يحمي نفسه بنفسه من الآن فصاعدا». ووجه دميرطاش في كلمته تنظيمات ومنتسبي حزبه لأخذ تدابير أمنية عاجلة في إشارة وصفها البعض من القوميين الأتراك بأنها إشارة إلى ضرورة تسلح المكون الكردي في تركيا لحماية نفسه، خصوصا أن جميل باييك المسؤول العسكري لتنظيم «حزب العمال الكردستاني» المحظور في تركيا دعا فيه أكراد تركيا إلى تنظيم صفوفهم والتسلح للمرحلة المقبلة. ودعا مسؤولي التنظيم للتحضر لمحاربة تنظيم داعش والقوى الاستعمارية التي تسانده والبدء بحفر الأنفاق والملاجئ الدفاعية في القرى ومنع سكانها من ترك قراهم، قائلا إن كان ضروريًا فإن عليهم الموت دفاعًا عن قراهم.
ويقول الباحث في مركز التفكير الاستراتيجي في أنقرة جاهد توز إن هناك قوى تريد أن تنقل الأحداث والمشكلات في المنطقة إلى تركيا، وهي تستغل نتائج الانتخابات (البرلمانية التي لم تعط حزب العدالة والتنمية الحاكم القدرة على تشكيل الحكومة منفردا) وتريد أن تلعب دورا بواسطة الأكراد، وتريد لهؤلاء أن ينزلوا إلى الشارع والصدام مع الشرطة والجيش. وأبدى توز أسفه للردود المتسرعة من قبل قادة أحزاب وجماعات تركية تحدثوا عن «حماية النفس»، مشددا على أن الذين استهدفوا لم يكونوا أكرادا بالخالص، بل من مناطق مختلفة من تركيا.
واعترف توز في حديث لـ«الشرق الأوسط» بأن ثمة كثيرا من الباحثين والجماعات والدول تتهم تركيا بدعم تنظيم داعش، لكنه رأى أن هذه العملية أثبتت بوضوح خطأ الاتهامات التي وجهت إلى تركيا. ورأى أن هذا الهجوم أثبت أن تركيا هي هدف لـ«داعش»، وأن هذا التنظيم هو تهديد لتركيا التي كانت أول من أعلنه منظمة إرهابية، وشدد توز على أنه من المبكر الحديث عن تدخل تركي في سوريا بسبب ما حصل. وقال: «تركيا سوف تبذل كل الجهود الممكنة لكشف من يقف وراء التفجير، ومن بعدها ستتخذ الإجراءات المناسبة لأنها لن تسمح بأي شكل من الأشكال لأي جهة أن تستهدف أمن البلاد، مشيرا إلى أنه إذا كان ثمة مبرر لدخول الأراضي السورية في ضوء ذلك، فستتخذ الحكومة التركية القرار.
ويورد التنظيم المتطرف تركيا خيارا وحيدا لدخول «دولة الخلافة» فالدخول إلى تركيا أمر قد لا يثير الشبهات لأي أجنبي باعتبارها مقصدا سياحيا عالميا، ولا يحتاج معظم الأجانب إلى تأشيرة لدخولها، كما أن قربها من الحدود السورية وسياسة الحدود المفتوحة يسهلان أمر الراغبين في الدخول إلى سوريا. وفي نشرة عممها مسؤولون في التنظيم على المنتديات المقربة منه للحض على «الجهاد»، يقول أحدهم متوجها للراغبين في «النفير» أي الالتحاق بالتنظيم ينصح فيها أي راغب بذلك بالقول: «لا تثق بأحد لا تعرفه معرفة شخصية على الفضاء الإلكتروني، فأنت لا تعرف من خلف الشاشة ولا تثق حتى بي أنا، لا تثق إلا بالله، بل توكل على الله واركب أول طائرة إلى تركيا، وهناك بصفتك سائحا لا تثر الشبهة حولك، وحاول أن تكون حالك حال بقية الشباب (...) وتحت جنح الظلام اركب تاكسي إلى الحدود السورية (...) وإن توكلت على الله ستجد نفيرك أسهل من النزهة».
ويتحدث الكثير من خصوم حزب العدالة والتنمية الحاكم عن «وقائع» تثبت تورط أنقرة مع التنظيم المتطرف، وأبرز هذه الوقائع الشاحنات التي داهمتها وحدات من قوات الدرك التركية في ديسمبر (كانون الأول) 2014 والتي تحمل شعارات منظمة الإغاثة الإنسانية والتي كانت تسير بحماية الاستخبارات التركية. وقد أدى الصراع الداخلي التركي بين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحليفه السابق الداعية فتح الله غولن إلى تفجير أزمة كبرى في البلاد عندما قامت وحدات الدرك التركية بأوامر من أحد المدعين العمومين بمصادرات الشاحنات وإثبات أن فيها أسلحة تردد كثيرا أنها موجهة إلى تنظيم داعش. وقال رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو من مكتب النائب العام في محافظة أضنة إن تركيا زوّدت المجموعات الإرهابية بالسلاح، وأضاف كليجدار أوغلو أنه يملك نسخة لمقابلة مصورة مع سائق شاحنة أوصل السلاح لتلك المجموعات. كما قال ليفنت تيزجان، نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري، إن الشاحنات تم تحميلها بالأسلحة في مطار إيسنبوجا، الواقع في أنقرة. السائقون قادوا الشاحنات إلى الحدود السورية، حيث كان ينتظر عملاء الاستخبارات التركية (MIT)، الذين استلموا الشاحنات وأدخلوها إلى سوريا، لإيصال المعدات الموجودة فيها إلى تنظيم داعش ومجموعات أخرى. ويضيف تيزجان قائلاً: «هذا الشيء حصل كثيرًا، فكلما تم توقيف الشاحنات من قبل الشرطة، تدخلت المخابرات التركية (MIT)، ومنعت المفتشين من النظر داخل الصناديق، التي وجد المفتشون في أحدها صواريخ وأسلحة ومعدات حربية».
وفي المقابل، قال رئيس الاستخبارات الأميركية جيمس كلابر إن محاربة تنظيم داعش «ليست أولوية بالنسبة إلى تركيا، وإن هذا الأمر يسهل عبور مقاتلين أجانب الأراضي التركية إلى سوريا». وأضاف أثناء جلسة استماع أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ أن تركيا «لديها أولويات أخرى ومصالح أخرى» غير تكثيف المشاركة في الحرب على التنظيم المتطرف. وأشار كلابر إلى أن استطلاعات الرأي في تركيا تشير إلى أن تنظيم داعش لا ينظر إليه باعتباره «تهديدًا رئيسيًا»، وأن شواغل المواطنين تتصل أكثر بالاقتصاد أو بالنزعة الانفصالية الكردية. وأضاف أن «نتيجة كل ذلك هي وجود أجواء متساهلة»، خصوصًا في المستوى القانوني إزاء عبور مقاتلين أجانب إلى سوريا. وتابع قائلاً: «وبالتالي هناك نحو 60 في المائة من المقاتلين الأجانب يصلون إلى سوريا عبر تركيا».
وفي مقالة نشرها مدير برنامج بناء السلام وحقوق الإنسان في جامعة كولومبيا، يقول الباحث الأميركي إنه خلال زيارته الأولى لتركيا «وصف أعضاء في البرلمان التركي وشخصيات تركية بارزة العلاقات بين تركيا، الأتراك والمنظمات المسلحة السنيّة، مثل (داعش). وهم يلمحون هنا إلى دور بارز للمنظمة التركية المسماة (إ هـ هـ) أو المؤسسة التركية لحقوق الإنسان والحريات والمساعدات الإنسانية». وقال: «بدلا من البحث عن أعذار والنفي، يجب على المسؤولين الأتراك إدانة (داعش). ولتظهر للعالم أنها جادة في محاربة الإرهاب.. على تركيا وضع آلية لمراقبة الحدود مشتركة مع الأمم المتحدة للتأكد من نقل أي أسلحة إلى (داعش)».
ويقول الكاتب التركي نعمان آرالك لـ«الشرق الأوسط» إن قادة حزب العدالة والتنمية الحاكم وجدوا في تنظيم داعش حليفا موضوعيا، من دون أن يعني ذلك أنهما حليفان متكاملان، فهما امتلكا خصوما مشتركين، سواء في العراق أو في سوريا التي كان نظامها حليفا، قبل أن يصبح عدوا، كما أن لديهما عدوا آخر مشتركا هو التنظيمات الكردية في سوريا التي تخشى تركيا أن تؤثر نزعتها الاستقلالية على أكراد تركيا أنفسهم، فيما يهدد نفوذ هؤلاء مشروع دولة الخلافة لدى التنظيم. ويشير آرالك إلى الكثير من النقاط التي بدا فيها التقارب وثيقا بين الطرفين، من دون أن يعني ذلك تحوله حلفا، فالاستخبارات التركية تمتلك الكثير من قنوات الاتصال مع هذه المجموعات، والدليل على ذلك حادثة خطف الرهائن الأتراك في مقر القنصلية التركية في الموصل التي انتهت بطريقة غير مفهومة حتى الآن، وإن كان واضحا أنها تمت بالتراضي بين الطرفين. ويشير آرالك في المقابل إلى عدة مؤشرات على تدهور العلاقة مع التنظيم المتطرف، خصوصا عندما رضخت أنقرة للضغوط الدولية، والأميركية خصوصا، وبدأت في التشدد في منع عبور المقاتلين الأجانب إلى الأراضي السورية، ما جعل التنظيم يحذر أنقرة في أكثر من مناسبة. وأوضح أن التنظيم أرسل عدة «إنذارات» إلى تركيا قبل أن يضرب ضربته هذه.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.