بعد الصحافة... مواقع التواصل الاجتماعي تغدو «الحنجرة العميقة»

«السوق المريضة» لكرم نعمة يبحث موضوع الحرية والكراهية على المنصات الرقمية

بعد الصحافة... مواقع التواصل الاجتماعي تغدو «الحنجرة العميقة»
TT

بعد الصحافة... مواقع التواصل الاجتماعي تغدو «الحنجرة العميقة»

بعد الصحافة... مواقع التواصل الاجتماعي تغدو «الحنجرة العميقة»

يستعين الكاتب والصحافي العراقي كرم نعمة، مؤلف كتاب «السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي»، الصادر عن دار «لندن للطباعة والنشر» في 624 صفحة، بجملة المفكر البريطاني أشعيا برلين الشهيرة «الحرية للذئاب تعني موت الأغنام»، ليصل إلى الفكرة التي يدافع عنها في متن هذا الكتاب بأن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت الحنجرة العميقة بعد أن كان هذا الامتياز مقتصراً على الصحافة وحدها.
الكتاب على حجمه الكبير، يتوزع على ثلاثة فصول، تبدأ بالصحافة وأزمتها الوجودية، ومن ثم ما يتعلق بمواقع التواصل الاجتماعي وشركات الإنترنت في فصل «الحقيقة القبيحة وما بعدها»، ويعرض في الفصل الثالث لعصر التلفزيون الذهبي.
يقول نعمة، «يميل الصحافيون إلى اعتبار أنفسهم مواهب فردية، مدفوعين بغرائزهم الجريئة، يجدون ويكشفون قصص الآخرين. بدلاً من ذلك يجب أن يفكروا في عملهم كعنصر واحد ضمن نظام شامل، لأننا كصحافيين لم نعد وحدنا في بناء غرف الأخبار وإعادة تسويقها».
ويرى أن المعضلة تكمن في الصحافيين الذين لا يعرفون من هم في العصر الرقمي، وما أهمية عملهم بين جيل الهواتف الذكية، ولسوء الحظ أن التاريخ نفسه عاجز عن تقديم دروسه لهم من أجل استلهامها! صحيح أن التاريخ قد أرخ لكل الإنجازات الصحافية في مدونته، لكن تلك المدونة على ضخامتها لا تقدم درساً في العصر الرقمي، إنها مدونة الحنين والمجد الآفل ليس إلا.
ويربط المؤلف، القارئ العربي، بأزمة الصحافة العالمية وما تواجهه، بمتابعة تداعيات الأزمة الوجودية «يشعر الصحافيون العرب أنهم ليسوا وحدهم يعيشون في كنف تلك الأزمة». لكنه في الوقت نفسه، يقترح على الصحافي إعادة اختراع مهنته وليس التخلي عنها، كما يحدث لنسبة كبيرة من الصحافيين الذين افتقدوا إلى الثقة بالمستقبل.
وهنا يقول المؤلف، «ما يحدث اليوم أننا كصحافيين نعزل أنفسنا في فقاعات آيديولوجية، وحكومية وتجارية، ونتعرض فقط لآراء الذين لديهم طريقة تفكيرنا نفسها. فعندما يدير الصحافي ظهره للأفكار المبتكرة، والخضوع لسيطرة الشركات والحكومات، فإنه سيجعل من الصحافة مقبرة لنفسه، مثلما يسهم في إبقاء مهنته راقدة في السوق المريضة».
ثم يعرض لتطور موقع «فيسبوك» والفضائح التي مر بها، ويرى أن «(فيسبوك) هي شركة تمثل الحقيقة القبيحة، وهي لا تكتفي بربط العالم، بل تهدف إلى حكم العالم، وتحقق في ذلك نجاحاً مضطرداً مع فشل الحكومات في مواجهتها، عندما نعرف أنها أكبر جمهورية افتراضية في العالم يسكنها أكثر من ثلاثة مليارات مستخدم».
وبشأن «تويتر»، يقول المؤلف إنه منصة تعاني من مشكلة المعلومات المضللة، ولا تكتفي بكونها منصة ممتازة لقراءة الأخبار والعثور على الآراء، لكنها تظهر أيضاً للمستخدمين خليطاً من المعلومات التي يمكن أن تكون مرهقة.
وينتقل نعمة، في مكان آخر، للحديث عن الشركات التكنولوجية الكبرى التي «باتت تحكم العالم وتسيطر على مشاعر المستخدمين»، مستشهداً بقول فيكتور ماير أستاذ تنظيم الإنترنت في «معهد أوكسفورد» عن تردي العلاقة بين المستخدمين والشركات الكبرى على الإنترنت و«عواقبها الوخيمة»، وهو تعبير قد لا يفي بالقلق المتصاعد حول خصوصية المعلومات الشخصية، فـ«الثقة دمرت والجميع يتحدث عن ذلك».
كذلك يستشهد بوصف الروائي الألماني غونتر غراس لمواقع التواصل الاجتماعي بـ«الهراء»، وتحذير الروائي الأميركي المعروف جوناثان فرانزين من تأثير «تويتر» على الحس الإبداعي العميق للكتابة. ويرى المؤلف، أن هذين الكاتبين يمثلان، بطريقة أو بأخرى، جانباً من المطبخ الإعلامي المشغول بإعداد وجبات متسارعة ومتنافسة بتصاعد مطرد بين الرقمي والورقي، مع إنهما يمثلان جيلين مختلفين تماماً، وهذا «ما يمنح كلامهما أهمية أن يكون في المتن وليس في الهامش».
ويذكر بالكاتب الأميركي بريت إيستون إيليس، الذي أنفق في السنوات الأخيرة في سياق أحاديثه مع نصف مليون من متابعيه في «تويتر»، وقتاً فاق بكثير الوقت الذي خصصه لروايته القادمة.
يبحث الكاتب أيضاً موضوع الحرية والكراهية السائدة على المنصات الرقمية، مستشهداً بوصف الروائي سلمان رشدي للعالم بأنه يعيش على وقع الكراهية المتصاعدة، وأن الناس باتوا يُعرفون أنفسهم بما يكرهون، وأن من خصائص العصر الحالي نمو نوع من الثقافة مقترنة بسياسات الهوية والطائفية، أطلق عليها اسم ثقافة الإقصاء بدافع الكراهية.
ويختتم كرم نعمة كتابه بالقول إن «الإعلام أصبح صناعة مختلفة كلياً، ولم تعد التعريفات القديمة تفي بالغرض، بل اختلف الأمر حتى فيمن يضع مثل هذه التعريفات، ولم يعد خبراء الإعلام يستحوذون على مساحة التنظير والتعريف، الجمهور سيسأل بعدها: من أنتم؟»، كما يستنتج في كتابه هذا، وهو الخامس له، أن «الأزمة ليست فقط بتخلي الحكومات العربية عن الصحافة، إنها أزمة عالمية تبدأ من الصحافة الأميركية، مع أن الرجال الأقوياء الذين وضعوا الدستور الأميركي كانوا يفضلون دولة بلا حكومة على دولة بلا صحافة».


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.