«قارئ الجثث»... مصر الملكية في مذكرات طبيب تشريح بريطاني

كشف عن خفايا قضايا أثارت جدلاً تاريخياً وسياسياً

سيدني سميث... قارئ الجثث
سيدني سميث... قارئ الجثث
TT

«قارئ الجثث»... مصر الملكية في مذكرات طبيب تشريح بريطاني

سيدني سميث... قارئ الجثث
سيدني سميث... قارئ الجثث

عن «الدار المصرية – اللبنانية» بالقاهرة، صدر كتاب «قارئ الجثث» ترجمة الباحث والروائي مصطفى عبيد، وهو عبارة عن مذكرات طبيب التشريح البريطاني سيدني سميث في مصر الملكية. تكمن أهمية الكتاب في أنه يكشف عبر فصوله عن بعض الجرائم التاريخية في البلاد، وأيضاً لما يحتويه من حكايات مثيرة من أماكن أخرى خارج مصر حول جرائم القتل والانتحار ودور الطب الشرعي في كشفها، كما تتضمن المذكرات وقائع حول أهم عمليات التشريح التي أجراها في مصر، ومن بينها جثامين ضحايا أشهر قاتلتين متسلسلتين، وهما «ريا وسكينة» اللتان كوّنتا عصابة متخصصة في استدراج النساء وقتلهن بهدف الحصول على مصوغاتهن الذهبية. ويوضح الكاتب كيف توصل إلى تحديد شخصياتهما رغم مرور أشهر عدة على دفنهما. كما تضمنت المذكرات تفاصيل عن تشريح جثمان السير لي ستاك، سردار الجيش البريطاني في مصر وحاكم السودان العام في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1924، والذي لقي مصرعه على يد جماعة مسلحة أطلقت النار عليه، وأصابته بجروح خطيرة أدت إلى وفاته، بالإضافة إلى إصابة الياور والسائق الخاص به، ويعد الحادث هو أكبر عملية اغتيال لضابط رفيع المستوى في الجيش الإنجليزي بمصر، وسبب الحادث ضجة لدى الحكومتين البريطانية والمصرية.
وكذلك يستعرض الكتاب أشهر القضايا المحيرة التي شكلت ألغازاً للشرطة في بريطانيا وآيرلندا، وأستراليا وماليزيا، وكيف ساهمت الخبرات العملية التي اكتسبها الطبيب الشرعي في مصر في حل هذه الألغاز.
ويوضح المترجم في مقدمته كيف استهوته فكرة النبش في الدفاتر القديمة، فعندما ترجم قبل سنوات قليلة «مذكرات توماس راسل - حكمدار القاهرة»، والذي عاش في مصر طوال الفترة من 1902 إلى 1946 وكان شاهداً دقيقاً على وقائع الجريمة في مصر، توقف عند كثير من الإشارات التي قدمها لكتب وشهادات لموظفين كبار قدِموا من إنجلترا وعملوا في مختلف القطاعات في مصر خلال فترة الاحتلال. وكان من بين إشارات راسل باشا، حديثه عن كبار خبراء الطب الشرعي في إنجلترا وزياراتهم المتكررة إلى مصر، في بدايات القرن العشرين، وكيف وجدوا بها حقلاً نموذجياً للتجارب والخبرات نتيجة تنوع الجرائم وتعدد أساليب القتل، ذاكراً أسماء بعض الأطباء الشرعيين المعروفين، مثل مستر نولان، وسيدني سميث. والأخير معروف للعاملين في مجال الطب الشرعي المصري، باعتباره أحد مؤسسي مصلحة الطب الشرعي سنة 1927، كما أنه شارك طبيباً مصرياً في إصدار أول كتاب باللغة العربية عن الطب الشرعي سنة 1924.
قضى سميث في مصر 11 عاماً في النصف الأول من القرن العشرين، ثم سافر لاستكمال تجاربه في مجال كشف الجرائم من خلال الطب الشرعي في آيرلندا واسكوتلندا، وأستراليا، وسيلان، وقدم عنها شهادات ضمن مذكراته التي جُمعت ونُشرت في سنة 1959.
يستشهد الكتاب بقول كيث سيمبسون، كبير الأطباء الشرعيين في لندن، بأن سميث يمثل استنساخاً حقيقياً لجوزيف بيل، طبيب الجراحة بإدنبرة الذي استوحى منه آرثر كونان دويل شخصية «شارلوك هولمز» الشهيرة. كما قال عنه توماس راسل - حكمدار البوليس في القاهرة «لقد وجد سيدني سميث في مصر حقلاً نموذجياً لمختلف الجرائم نتيجة تنوع أساليب القتل».
ويكشف الكتاب كيف أنه وجد في سيرة سميث خفايا غامضة جرى معظمها في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، وكانت اكتشافاته سبباً للوصول للجناة في العديد من القضايا المرعبة التي تمكن من فك غموضها.
ومثلها مثل كثير من شهادات الخبراء والأساتذة الإنجليز في مصر إبان الاحتلال، فقد قوبلت مذكرات الرجل بارتياب وتشكيك من باحثين مصريين، وخاصة بعد تحرر مصر من الاحتلال الإنجليزي، وما تلى ذلك من مقاطعة وطنية لكل ما هو إنجليزي بما في ذلك البحث العلمي. وهكذا لم تتم ترجمة مذكراته رغم أن نصفها على الأقل يتحدث عن عالم الجريمة وطرق القتل وظواهر التسميم الجنائية في مصر، بل عن جرائم شهيرة فيها مثل قضية أشلاء الحسناء الرومانية إيما.

آراء متعاطفة مع مصر

خلال فتره وجوده بمصر في الفترة من بداية 1917 إلى نهاية 1927 احتك سميث بالمجتمع المصري خلال مرحلة مهمة من مراحل تطوره عقب ثورة 1919، وما نتج منها من تطور مجتمعي واضح انعكس على التعليم والثقافة ومختلف مناحي الحياة. كما تابع الرجل خلال وجوده في مصر قضايا جنائية وسياسية معقدة انحاز فيها جميعا إلى ضميره العلمي، قبل انتمائه الوطني؛ ما جعله في بعض الأحيان يكشف بوضوح كيف كانت سلطات الاحتلال البريطاني في مصر توظف لصوصاً سابقين للعمل كخفر غير نظاميين، ثُم تستخدمهم في قتل المتظاهرين وإثارة الشغب لتحقيق أهداف سياسية. بل إننا نجده يشهد في إحدى المرات لصالح سجين مصري تعرض للتعذيب في أحد السجون.
ويقدم سميث في مذكراته آراء متعاطفة مع الحركة الوطنية في مصر ومع سعد زغلول عندما يشير في مقترحاته للمسؤولين الإنجليز، إلى أنه يرى إمكانية منح مصر حكماً ذاتياً مبكراً على غرار ما حدث في نيوزيلندا، وانتخاب سعد زغلول رئيساً للمصريين، وهو ما رد عليه مرؤسوه بسخرية مكررين أنه أفرط في الشراب.
كما يقدم وصفاً دقيقاً للقرى المصرية في بدايات القرن العشرين، وكيف كانت مرتعاً للبؤس والحرمان وموطناً للأمراض النادرة، ومركزاً للجهل والإهمال؛ ما جعلها بمثابة حقل خصب لمختلف أنواع الجرائم وطرق القتل بدءاً بالتسميم بالزرنيخ وحتى الخنق وتقطيع الضحية لأشلاء عدة. لذلك؛ ظلت مصر تعيش معه حتى بعد أن يُغادرها، فيتذكر في كل جريمة يُحقق فيها استناداً إلى خبرته في الطب الشرعي، موقفاً مشابهاً عايشه في مصر واستفاد منه.
ومن الأشياء اللافتة في هذه المذكرات، أن صاحبها لا يجد بأساً في أن يُبدي آراء معتدلة وموزونة عند تحدثه عن عقائد المصريين وعاداتهم، دون استعلاء أو تعمد إساءة مثل كثير من أصحاب الشهادات الأجانب. لذلك؛ تبقى مذكراته وثيقة مدهشة حيث تُقدم بشكل تفصيلي كيف يعمل الطبيب الشرعي كمخبر ومحلل للأحداث، وكيف يستنطق الجثث ويعيد إضاءة مسرح الجريمة ويتتبع الآثار ليُخلّص بريئاً أو يُثبت الإدانة على مُجرم. ولهذا؛ فقد سمح المترجم لنفسه أن يستفيد من خلفيته الروائية فيستبعد عنوان المذكرات الأصلي وهو «على الأرجح... قتل» ليضع عنواناً أقرب لما استشعره خلال ترجمته الحكايات وتنقله من صفحة لأخرى، وهو «قارئ الجثث»؛ إذ يبدو الحاكي هنا أشبه بقارئ للجثث، مُهمته استهداف الحقيقة، بغرض وحيد هو مقاربة العدالة خدمة للبشرية. كما استعان بالدكتورة سمر عبد العظيم أستاذ الطب الشرعي بجامعة عين شمس، لضبط ترجمة المصطلحات الطبية.
ولد سيدني ألفريد سميث في ركسبورج بنيوزيلندا في 4 أغسطس (آب) سنة 1884، ودرس الطب في جامعة إدنبرة وتخرج سنة 1912، قبل أن يتخصص في الطب الشرعي وينبغ فيه، ثم التحق بالخدمة طبيباً بجيش إنجلترا خلال الحرب العالمية الأولى سنة 1914. وفي سنة 1917 تقدم سميث لشغل وظيفة مستشار للطب الشرعي للحكومة المصرية، وتم تعيينه في هذا المنصب ليُنشئ وحدة للطب الشرعي بوزارة العدل. كما عمل محاضراً في كلية طب القصر العيني وتتلمذ على يديه عشرات الأطباء المصريين في مجال الطب الشرعي، وأصدر بمشاركة عبد الحميد عامر كتاب «الطب الشرعي في مصر» سنة 1924.
ثم عاد الرجل إلى بلاده ليتولى مناصب عدة في مجال الطب الشرعي وليحقق في قضايا كبرى، وتم تعيينه عميداً لكلية الطب بإدنبره، وحاز تكريمات عديدة بعد نجاحه في حل ألغاز قضايا جنائية عديدة. وفي سنة 1955 استقبلته كلية طب قصر العيني في مصر وتم تكريمه، ثم تقاعد ورحل عن دنيانا في 9 مايو (أيار) سنة 1969 باسكوتلندا عن عمر ستة وثمانين عاماً.


مقالات ذات صلة

«معرض جدة للكتاب» حراك ثقافي متجدد يجمع الأجيال ويعيد للكتاب مكانه

يوميات الشرق كثير من الفعاليات والندوات كانت حاضرة لمختلف الأعمال

«معرض جدة للكتاب» حراك ثقافي متجدد يجمع الأجيال ويعيد للكتاب مكانه

على مهل... كبار السن يعبرون ممرات معرض جدة للكتاب، لا يركضون خلف العناوين، ولا تستفزهم الألوان الصارخة، بل يقفون حيث يقف المعنى.

سعيد الأبيض
كتب أكثر من 1000 دار نشر ووكالة محلّية ودولية تُشارك في المعرض (الشرق الأوسط)

معرض جدة للكتاب... صناعة نشر تتوسَّع وبرامج تُعيد رسم السوق

يعكس معرض جدة، بخبراته المتراكمة، الطفرة النوعية التي تعيشها صناعة النشر في السعودية، والدعم المتواصل للكتّاب والناشرين في مختلف مسارات الكتابة.

سعيد الأبيض (جدة)
كتب مارك مازور

مؤرخ يهوديّ يفكك مفهوم «معاداة السامية»

في خضم الصراعات السياسية والثقافية المحتدمة التي شهدها الغرب على هامش الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، يبدو مصطلح «معاداة السامية» وكأنه فقد حدوده التعريفية.

ندى حطيط
كتب كسر الخوف وتحويله إلى «فزّاعة» عاطفية

كسر الخوف وتحويله إلى «فزّاعة» عاطفية

برغم الحضور البارز لهُوية القرية العُمانية في رواية «الرّوع» للروائي والشاعر العماني زهران القاسمي، فإن البناء النفسي لبطلها «محجان» يبدو هو المحرّك الأعمق للسر

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب بوابة إلى عالم أفريقيا

بوابة إلى عالم أفريقيا

يكاد الأدب الأفريقي يكون مجهولاً للقارئ العربي، ليس بسبب غيابه، بل بسبب قلة الترجمات من هذا الأدب، إذا ما استثنينا تلك الترجمات للأعمال التي تفوز بجوائز عالمية.

«الشرق الأوسط» (عمّان)

معرض جدة للكتاب... صناعة نشر تتوسَّع وبرامج تُعيد رسم السوق

أكثر من 1000 دار نشر ووكالة محلّية ودولية تُشارك في المعرض (الشرق الأوسط)
أكثر من 1000 دار نشر ووكالة محلّية ودولية تُشارك في المعرض (الشرق الأوسط)
TT

معرض جدة للكتاب... صناعة نشر تتوسَّع وبرامج تُعيد رسم السوق

أكثر من 1000 دار نشر ووكالة محلّية ودولية تُشارك في المعرض (الشرق الأوسط)
أكثر من 1000 دار نشر ووكالة محلّية ودولية تُشارك في المعرض (الشرق الأوسط)

تعمل «هيئة الأدب والنشر والترجمة» في السعودية على جملة من المبادرات والمشروعات الداعمة لقطاعات الأدب، والنشر، والترجمة، موضحةً أنها تدرس باستمرار الفجوات في السوق السعودية، وتبني برامج تعالج هذه الفجوات عبر مبادرات داعمة تهدف إلى النهوض بالصناعة والوصول بها إلى مستويات أعلى.

وأوضح المدير العام للإدارة العامة للنشر في «هيئة الأدب والنشر والترجمة»، المهندس بسام البسام، في حواره مع «الشرق الأوسط»، أنّ من أبرز أعمالها استحداث وظيفتين ثقافيتين جديدتين، هما «الوكيل الأدبي» و«الوكالة الأدبية»، لدعم حركة النشر وتطوير منظومة صناعة المحتوى في المملكة.

المدير العام للإدارة العامة للنشر في «هيئة الأدب والنشر والترجمة» بسام البسام (الشرق الأوسط)

تنظيمات جديدة

وعن تحديث الأنظمة، قال البسام إنّ ذلك يُشكّل جوهر عمل الهيئة بصفتها جهة مُنظِّمة ومشرِّعة للقطاعات الثلاثة، مشيراً إلى العمل على تطوير الأنظمة المساندة وعدد من السياسات التي تُمكّن الناشرين والمستفيدين من تطوير أعمالهم. ولفت إلى إطلاق مبادرة لتمكين دور النشر من بيع كتبها في عدد من منافذ البيع، من بينها «السوبر ماركت»، والصيدليات، وعدد من المحلات.

كما أشار إلى أنّ الهيئة عملت على سياسة لدعم المطابع في المملكة بالتعاون مع وزارة الصناعة، عبر تقديم تسهيلات صناعية متعدّدة للمطابع الموجودة داخل المخططات العمرانية أو المدن الصناعية.

جانب من ورشة عمل في المعرض تُقدّمها نجوى المطيري (الشرق الأوسط)

النشر الرقمي

وعن النشر الرقمي، أكّد البسام أنّ الهيئة خصّصت برنامجاً خاصاً لدعم هذا القطاع، من خلال تحويل مجموعة كبيرة من أعمال دور النشر السعودية إلى نسخ إلكترونية، ضمن إطار تطوير التشريعات والتنظيمات الخاصة بالقطاع. وشدَّد على أنّ هذه التحديثات، عند إقرارها، ستُحدث تغييراً جذرياً، وتُمكّن دُور النشر السعودية من تحويل أعمالها إلى صيغ رقمية وإلكترونية.

وتحدَّث عن المنصّات المُخصّصة للناشرين، موضحاً أنّ هذا المجال يُعدّ نشاطاً تجارياً لا تتدخّل فيه الهيئة بشكل مباشر بصفتها جهة منظِّمة، بل تتركه للمستثمر السعودي، مع العمل على تهيئة البيئة المناسبة، وتذليل العقبات، وتجهيز البنية التحتية اللازمة للانطلاق.

أكثر من 1000 دار نشر ووكالة محلّية ودولية تُشارك في المعرض (الشرق الأوسط)

الاستثمار في قطاع النشر

وتطرَّق البسام إلى واقع الاستثمار في قطاع النشر، فقال إنّ سلسلة القيمة الكاملة للقطاع مليئة بالفرص، سواء في مجالات التطوير أو الاستثمار. وأكّد نجاح الهيئة في استقطاب عدد من دور النشر العالمية والعربية الكبرى للعمل في السعودية، وإنتاج محتواها وتسجيله وطباعته داخل المملكة في مطابع محلّية، وهي تعمل بصورة مباشرة على تنويع الاستثمار وفتح آفاق جديدة للمستثمرين، مع التأكيد على أولوية المستثمر السعودي.

أما عن تقديرات سوق النشر، فأوضح أنّ الهيئة تعمل وفق الاستراتيجية الوطنية المنبثقة من «رؤية المملكة 2030»، التي تولي الثقافة اهتماماً خاصاً، وتهدف إلى رفع إسهام القطاعات الثقافية في الناتج القومي الوطني إلى 3 في المائة من الناتج الإجمالي، وهو ما ينعكس على البرامج التي تقدّمها الهيئة.

معرض جدة للكتاب مقصد للمهتمّين بالكتاب من داخل المملكة وخارجها (الشرق الأوسط)

برامج الدعم

وأشار البسام إلى إطلاق برامج لدعم المؤلّفين الجدد، وأخرى لدعم المطابع، إضافةً إلى برامج لدعم المترجمين، ومعتزلات كتابة تُقام لتهيئة الأجواء المناسبة للكتّاب لنثر إبداعاتهم.

كما لفت إلى استحداث مهنة «الوكيل الأدبي»، التي يتولّى فيها الوكيل إدارة الجوانب التجارية والقانونية للمؤلف، بما يتيح له التفرُّغ للكتابة الإبداعية.

الترجمة

وعن زيادة حضور الناشر السعودي في اللغات الأجنبية، أكّد أن الهيئة تشرف على برنامج «ترجم»، الذي انطلق عام 2021 ويواصل اليوم دورته الخامسة.

إحدى ورشات العمل التدريبية للكتابة الإبداعية (الشرق الأوسط)

وبيَّن البسام أنّ البرنامج أسهم في ترجمة أكثر من 4 آلاف كتاب من العربية وإليها، وهو رقم يفوق إجمالي ما تُرجم في العالم العربي خلال العقد الماضي.

وأضاف أن البرنامج يُقدّم منحاً للناشرين السعوديين لدعم حركة الترجمة، وتعزيز وصول المحتوى السعودي إلى أسواق جديدة حول العالم.

مشاركة دولية

وفي سياق المشاركة الدولية، أشار إلى وجود برنامج مُخصّص لدعم المشاركة في أبرز معارض الكتب العالمية، بمشاركة جهات حكومية وجمعيات أهلية وعدد من دور النشر السعودية، بهدف تبادل الخبرات، وعرض المنتجات الثقافية السعودية، والترويج لها دولياً، مع إتاحة بيعها من خلال جمعية النشر.

400 جناح توزَّعت في أرجاء المعرض (الشرق الأوسط)

وعن توسّع المعارض المحلّية، أوضح أنّ الهيئة نظَّمت عام 2023 معرضاً في المنطقة الشرقية، وفي مطلع هذا العام معرضاً في منطقة جازان، مؤكداً أنّ العمل جارٍ على دراسة المعطيات لتغطية مختلف مناطق المملكة بإطلاق مزيد من الفعاليات والمعارض.

ويأتي حديث البسام مع انطلاق فعاليات معرض جدة للكتاب 2025 في مركز «جدة سوبر دوم»، الذي تنظّمه «هيئة الأدب والنشر والترجمة» تحت شعار «جدة تقرأ»، بمشاركة أكثر من 1000 دار نشر ووكالة محلّية ودولية تُمثّل 24 دولة، توزّعت على 400 جناح.

ويُشكّل المعرض إحدى المنصّات الثقافية الكبرى في المملكة، ووجهةً للناشرين والمبدعين وصنّاع المعرفة، ومقصداً للمهتمين بالكتاب من داخل المملكة وخارجها.

معرض جدة للكتاب وجهة للناشرين والمبدعين وصنّاع المعرفة (الشرق الأوسط)

ويعكس معرض جدة، بخبراته المتراكمة، الطفرة النوعية التي تعيشها صناعة النشر في السعودية، والدعم المتواصل للكتّاب والناشرين في مختلف مسارات الكتابة. وتبرز هذه الملامح في عدد من أجنحته، لا سيّما أن هذه النسخة تتضمّن مبادرات جديدة تُوسّع حضور الأدب المحلّي، وتُقدّم برامج نوعية ترتقي بتجربة الزوّار.

وفي كلّ نسخة من معرض جدة، تقدّم الهيئة مجموعة من التحديثات والتطويرات التي تستقطب فئة أوسع من سكّان المدينة وزوّارها. وفي الموسم الحالي، أطلقت الهيئة برنامجاً خاصاً بالإنتاج المحلّي للأفلام، يقدّم عروضاً يومية لأفلام سعودية حظيت بتقدير فنّي وجماهيري، على المسرح الرئيسي، بدعم من برنامج «ضوء لدعم الأفلام» وبشراكة مع «هيئة الأفلام».

شهد هذا العام إطلاق برنامج خاص بالإنتاج المحلّي للأفلام (الشرق الأوسط)

وتسعى الهيئة، من خلال تنوّع برامجها التي تتجاوز 170 فعالية ثقافية، وتشمل الندوات والجلسات الحوارية، والمحاضرات، والأمسيات الشعرية، إضافةً إلى ورشات عمل في مجالات متعدّدة، إلى استقطاب مختلف فئات المجتمع.

ويرى متخصّصون في الأدب أنّ هذا التنوّع يُشكّل عامل جذب مهماً يلبّي اهتمامات الباحثين عن المعرفة والأدب، لا سيّما الأطفال، عبر مساحات مُخصّصة تحاكي حاجاتهم القرائية.

ومن خصائص معرض جدة تنوّع الأطروحات والموضوعات، لتشمل مسارات متعدّدة، من الفلسفة و«كيف نقرأ الفلسفة اليوم»، إلى «الرياضة منصةً للتواصل الثقافي والإعلامي»، و«جسور التفاهم: كيف يصنع الفكر الإسلامي حواراً حضارياً عالمياً»، إلى جانب توظيف اللهجات المحلّية في الكتابة المعاصرة.

كما يتنوَّع برنامج ورشات العمل ليشمل مهارات الصحافة، وإدارة الأزمات الرقمية، وكتابة قصص الأطفال، وبناء العلامة الشخصية، وأثر القراءة المبكرة في التطور اللغوي والعقلي.

وفي المقابل، يواصل المعرض دعم المُبدع المحلّي عبر ركن المؤلف السعودي، الذي يحتضن عناوين للنشر الذاتي، ويتيح للأدباء عرض أعمالهم مباشرة أمام الجمهور.

كما توفّر منصّات توقيع الكتب فرصة للقاء الكتّاب والحصول على إصدارات موقّعة، إلى جانب قسم خاص بعوالم المانغا والأنمي، يضم مجسّمات ومقتنيات وكتباً نوعية تحتفي سنوياً بهذا الفنّ ومحبّيه.


«يوميات سجين» يكشف عن العالم الخفيّ داخل زنزانة ساركوزي

رجل يحمل كتاب «يوميات سجين» للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أمام مكتبة في باريس الأربعاء 10 ديسمبر 2025 (أسوشييتد برس)
رجل يحمل كتاب «يوميات سجين» للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أمام مكتبة في باريس الأربعاء 10 ديسمبر 2025 (أسوشييتد برس)
TT

«يوميات سجين» يكشف عن العالم الخفيّ داخل زنزانة ساركوزي

رجل يحمل كتاب «يوميات سجين» للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أمام مكتبة في باريس الأربعاء 10 ديسمبر 2025 (أسوشييتد برس)
رجل يحمل كتاب «يوميات سجين» للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أمام مكتبة في باريس الأربعاء 10 ديسمبر 2025 (أسوشييتد برس)

عاد نيكولا ساركوزي إلى صدارة المشهد الفرنسي بقوة غير متوقعة مع صدور كتابه الجديد «يوميات سجين»، الذي يسرد فيه تفاصيل واحد وعشرين يوماً أمضاها داخل سجن لا سانتي. وفي أول ظهور علني له بعد نشر كتابه، احتشد المئات من معجبيه في إحدى مكتبات باريس الكبرى، حيث وقّع نسخ الكتاب بابتسامة امتزج فيها شيء من الاعتزاز بشيء من التأثر. كان واضحاً أن الرجل الذي عاش ثلاثة أسابيع خلف الجدران، يخرج اليوم ليلتقي جمهوراً لم يبتعد عنه رغم كل العواصف القضائية والسياسية التي مر بها.

وصول الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي إلى مكتبه في باريس 10 ديسمبر 2025 لتوقيع نسخ من مذكراته «يوميات سجين» (رويترز)

يستعيد ساركوزي في الكتاب اللحظة الأولى التي أُغلق فيها باب الزنزانة خلفه. كانت الغرفة الضيقة، ذات الألوان الرمادية المتراكمة، بمثابة عالم يبتلع كل ما حمله معه من ماضي السلطة والأضواء. السرير المعدني والطاولة الخشبية البسيطة والجدران الباردة بدت كأنها تحاصر روحه قبل جسده، وتجرده من الهيبة التي التصقت به طوال عقود. كان عليه أن يواجه حقيقة لم يتوقعها قط: أن الرجل الذي حكم فرنسا يوماً، أصبح الآن سجيناً في اثني عشر متراً مربعاً لا يكاد يتنفس فيها.

رجل يحمل كتاب «يوميات سجين» للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أمام مكتبة في باريس الأربعاء 10 ديسمبر 2025 (أسوشييتد برس)

في هذا الفراغ القاتل، وجد ساركوزي نفسه يلجأ إلى الإيمان، يركع للصلاة كما لو أن السجود كان الطريق الوحيد للحفاظ على تماسكه. ويعترف بأن لقاءاته مع قسّ السجن كانت متنفساً يمنحه شيئاً من السكينة وسط بحر من القلق. أما الزيارات العائلية، فكانت أشبه بجرعة حياة يعود بها إلى نفسه، خصوصاً حين كانت زوجته كارلا بروني وابنه جان يزورانه. يقول إن تلك اللحظات أعادته من حافة الانهيار.

الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي وهو يشارك في جلسة توقيع كتابه «يوميات سجين» في يوم صدوره في مكتبة لامارتين بباريس في 10 ديسمبر 2025 (أ.ف.ب)

لم تكن الأيام داخل السجن متشابهة. بعضها كان يمر ببطء خانق، وبعضها يتسم بمفاجآت غير متوقعة، مثل اليوم الذي أخبرته فيه مديرة شابة بأن نائبين من حزب «فرنسا الأبية» يتجولان في السجن برفقة صحافي ومصور. فهم على الفور أن وجودهم لم يكن لغاية إنسانية، بل كان خطوة سياسية هدفها التقاط صورة له أو إثارة الجدل حول ظروف احتجازه. آثر البقاء في زنزانته احتراماً لكرامته، رافضاً المساهمة في مشهد أراد البعض تحويله إلى مادة إعلامية. ويصرّ في كتابه على أن زنزانته لم تكن تحظى بأي امتياز، بل كانت أبوابها مغلقة دائماً، على عكس بعض السجناء الآخرين.

علاقته بماكرون

ولم تكن علاقته بالرئيس إيمانويل ماكرون بعيدة عن هذا السرد. يكتب بصراحة أن الصمت الذي واجهه من الإليزيه كان علامة على توتر عميق، وأن غياب أي تواصل من ماكرون خلال تلك الفترة شكّل له خيبة شخصية أكثر مما شكّل له خيبة سياسية. وفي المقابل، تلقّى دعماً مفاجئاً من مارين لوبان وشخصيات من اليمين المتطرف، وهو ما شكّل مفارقة سياسية لافتة لم يتردد في ذكرها، لأنها – كما يقول – جزء من الحقيقة التي تعرّت له خلال تلك التجربة.

دعم غير متوقّع... مارين لوبان وأصوات من اليمين المتطرف

ومع أن علاقته بماكرون اتسمت بالبرود الذي ازداد خلال محنته، فإن المفاجأة جاءت من جهة لم يكن يتوقعها. ففي واحدة من أكثر لحظات الكتاب إثارة للجدل، يكشف ساركوزي عن اتصالات دعم وصلته من مارين لوبان وقياديين في حزب التجمع الوطني. لم يخفِ أنه فوجئ بتعاطف اليمين المتطرف معه، وأن هذا الدعم غير المتوقع أعاد إلى ذهنه أسئلة أعمق حول مستقبل اليمين الفرنسي وتحوّلاته. لقد فتح هذا الاعتراف باباً واسعاً للنقاش، فعدّ البعض أن ساركوزي يعيد رسم موقعه داخل الخريطة السياسية، بينما رأى آخرون أنه يلمّح إلى قناعة جديدة بضرورة إعادة التفكير في حدود التحالفات بين يمين الوسط واليمين القومي. كان لهذا المقطع وقع الصدمة في أوساط الجمهوريين، لأنّه يكشف عن مستويات من إعادة التموضع السياسي لم تكن مطروحة بهذه الجرأة من قبل.

الملك محمد السادس... مكالمة تهزّ القلب

ولا يكتمل السرد دون الإشارة إلى واحدة من أكثر اللحظات إنسانية التي تضمنها الكتاب، وهي الاتصال الذي تلقّاه من الملك محمد السادس. يروي ساركوزي أن العاهل المغربي كان من أوائل من هاتفوه قبل سجنه وبعده، وأن صوته كان يحمل تأثراً حقيقياً وهو يتحدث عن محنته. يقول إنه شعر بصدق عاطفي لا يصدر إلا عن قلوب كبار القادة، وإن العلاقة التي تربطه بملك المغرب علاقة تقدير متبادل لم تتأثر بتبدل المناصب ولا بالأزمات.

وعلى امتداد الصفحات، يؤكد ساركوزي أن ما عاشه في السجن لم يبدّد إصراره على البراءة، بل جعله أكثر تشبثاً بالدفاع عن نفسه. يرى أن ملف التمويل الليبي هشّ، وأن الحكم الذي صدر بحقه كان قاسياً، وأنه واثق من أن العدالة ستصحّح المسار في مرحلة الاستئناف.

الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي يشارك في جلسة توقيع لكتابه «يوميات سجين» في مكتبة لامارتين بباريس يوم صدوره في 10 ديسمبر 2025 (أ.ف.ب)

اختبار البراءة... معركة مع القضاء والوقت

وفي جانب آخر من الكتاب، يَظهر إدراك واضح بأن محنته لم تكن معزولة عن سياق سياسي وقضائي أكبر. يهاجم النظام القضائي الفرنسي بنبرة حادة، ويصف تجربته داخل السجن بأنها جزء من «عملية تهدف لإضعافه سياسياً وتشويه تاريخه». ويشير إلى أن الحكم الصادر بحقه في قضية التمويل الليبي كان في رأيه «قاسياً وغير قائم على أدلة دامغة»، عادّاً أن بعض القضاة أصبحوا، في نظره، طرفاً لا يقف على الحياد، بل جزءاً من صراع سياسي يتجاوز حدود الملفات القضائية. ويذهب أبعد من ذلك، حين يلمّح إلى أن خصومه السياسيين كانوا ينتظرون سقوطه بفارغ الصبر، وأن بعضهم ساهم في خلق مناخ ضاغط دفع القضاء إلى التشدد في التعامل معه.

الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي يوقع نسخة من كتابه «يوميات سجين» لأحد القراء في يوم صدوره في مكتبة لامارتين بباريس في 10 ديسمبر2025 (أ.ف.ب)

خروج من السجن... وبداية هدوء مختلف

خرج ساركوزي من السجن رجلاً تغيّر كثيراً. كان يقول إنه شعر بأن الهواء خارج الجدران مختلف، وأن شيئاً في داخله قد انكسر، لكن شيئاً آخر أقوى قد تولّد من رحم المحنة. ولهذا بدا مشهد توقيع الكتاب اليوم في باريس أشبه بالعودة الرمزية إلى الحياة العامة، عودة يختلط فيها الألم بالفخر، والصدمة بالرغبة في النهوض مجدداً. لقد كانت الوجوه التي احتشدت أمامه، والعيون التي تابعت كلماته وهو يكتب الإهداءات، دليلاً على أن الرجل الذي عاش واحداً وعشرين يوماً في العالم الرمادي، يعود اليوم إلى الضوء ومعه روايته الخاصة، رواية قد تغيّر موقعه، وقد تغيّر معه مستقبل اليمين الفرنسي نفسه.


مؤرخ يهوديّ يفكك مفهوم «معاداة السامية»

مارك مازور
مارك مازور
TT

مؤرخ يهوديّ يفكك مفهوم «معاداة السامية»

مارك مازور
مارك مازور

في خضم الصراعات السياسية والثقافية المحتدمة التي شهدها الغرب على هامش الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، يبدو مصطلح «معاداة السامية» وكأنه فقد حدوده التعريفية الواضحة، وتحول إلى ساحة معركة دلالية مسيّسة بأكثر مما هو توصيف لظاهرة تاريخية. كتاب المؤرخ البريطاني البارز وأستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا، مارك مازور، «عن معاداة السامية: تأريخ للمصطلح» محاولة تفكيكية جريئة للمفهوم، لا يكتفي فيه بسرد تاريخ كراهية اليهود، وإنما يغوص في تاريخ «الكلمة» نفسها، وكيف تحولت من توصيف لحركة سياسية أوروبية في القرن التاسع عشر، إلى سلاح جيوسياسي في القرن الحادي والعشرين يُستخدم لخدمة سياسات دولة إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب.

ينقسم «عن معاداة السامية» إلى قسمين رئيسيين يعكسان التحولات الجذرية للمفهوم: الأول يتناول صعود وسقوط معاداة السامية كحركة سياسية أوروبية، بينما يعالج الثاني «النموذج المفاهيمي الجديد» الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً منذ سبعينات القرن الماضي.

ينطلق مازور من تمييز جوهري وحاسم بين كراهية اليهود كظاهرة قديمة قدم التاريخ الديني في أوروبا، ومصطلح «معاداة السامية»، الاختراع الحديث نسبياً، الذي تم صكه في أواخر القرن التاسع عشر في ألمانيا، مع التشديد على خطورة الخلط غير البريء بين العداء الديني التقليدي والظاهرة الحديثة. ويرى أن معاداة السامية «الكلاسيكية» نشأت كحركة سياسية مضادة للحداثة، وجاءت كرد فعل مباشر على عصر التحرر الذي منح اليهود حقوق المواطنة المتساوية في الدول الأوروبية. هدف هذه الحركة تجاوز مستوى ترويج صور نمطية سلبية عن السكان اليهود، وسعت إلى إقناع الجمهور بأنهم أقلية تشكل تهديداً وجودياً يمس القضايا الاجتماعية والسياسية الجوهرية للدولة القومية الصاعدة.

في تلك الحقبة، تداخل المفهوم مع النظريات القومية والعرقية الزائفة التي سادت القارة القديمة، لتبلغ هذه الحركة ذروتها مع صعود النازية إلى السلطة في ألمانيا. وهنا يطرح مازور فكرة لافتة: إن هزيمة أدولف هتلر لم تنهِ التحيز ضد اليهود، وإنما أدت إلى «نزع الشرعية عن معاداة السامية كبرنامج سياسي إيجابي». بمعنى آخر، لم يتوقف الناس عن كراهية اليهود بعد عام 1945، لكن التباهي العلني بذلك والترويج له كمنصة انتخابية أصبح أمراً منبوذاً رسمياً وأخلاقياً في الغرب.

القسم الثاني، والأكثر إثارة للجدل، يتفرغ لمعالجة المعضلة المعاصرة، ويجادل بأن العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، وتحديداً بعد تأسيس إسرائيل عام 1948 وحرب 1967، شهدت تحولاً جذرياً في معنى ووظيفة المصطلح. ففي السابق، كان اليهود يُعرّفون بوصفهم أقلية مضطهدة في الشتات الأوروبي، لكن مع تأسيس دولة إسرائيل وانتقال مركز الثقل اليهودي إلى الولايات المتحدة وتل أبيب، بدأت عملية إعادة تشكيل للمفهوم. ويوضح مازور كيف تمت «صهينة» الحياة اليهودية الأميركية، بحيث أصبحت إسرائيل ركيزة أساسية للهوية اليهودية العلمانية. هذا الاندماج أدى إلى ولادة ما يُسمى «معاداة السامية الجديدة» في السبعينات، وهو نموذج مفاهيمي موتور ساوى بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية» أو النقد الجذري للدولة العبرية.

يوفر النص تحليلاً دقيقاً لهذا الانزلاق الدلالي، فيتحدث عن جهود مؤسسية، قادتها منظمات يهودية أميركية والحكومة الإسرائيلية، لترسيخ فكرة أن أي عداء لإسرائيل هو بالضرورة نابع من كراهية أزلية لليهود، ويشير أيضاً إلى دور لعبه الاتحاد السوفياتي في نشر «معاداة الصهيونية» كغطاء لمعاداة السامية التقليدية في الكتلة الشرقية، مما زاد المشهد تعقيداً، لكنه يرفض السردية التي تقول إن العداء العربي لإسرائيل هو مجرد امتداد لمعاداة السامية الأوروبية، ويستشهد باعترافات خاصة لديفيد بن غوريون، مؤسس إسرائيل، الذي أقر بأن العداء العربي نابع من نزاع على الأرض («لقد جئنا وسرقنا بلدهم»)، وليس من كراهية عرقية، رغم استغلال بعض النخب العربية أحياناً لنظريات المؤامرة الأوروبية في معرض تبريرها للهزائم العسكرية.

في «عن معاداة السامية» مساحة مهمة لنقد «الأرثوذكسية الجديدة» التي هيمنت على الخطاب الغربي في القرن الحادي والعشرين. هذه الأرثوذكسية، المدعومة بوزارات الخارجية الغربية، تسعى لتعقب معاداة السامية اعتماداً على تعريفات فضفاضة، أبرزها تعريف «التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست» (IHRA). الذي ينتقده مازور بشدة، عادّاً إياه أداة إدارية غامضة أكثر منه تعريفاً علمياً دقيقاً، ويرى خطورته في كونه شاملاً وغير دقيق، ما يسمح باستخدامه لقمع الخطاب السياسي المشروع.

وبالفعل، وبدلاً من حماية اليهود من العنصرية الحقيقية، تحول المصطلح إلى وسيلة لحماية دولة إسرائيل من النقد السياسي. وللمفارقة تقوم أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا (التي جددت تراث الفاشية) واليمين المسيحي في أميركا بتبني مواقف داعمة لإسرائيل بشدة، ما يسمح لهم، وهم مُعادو السامية التقليديين، بغسل سمعتهم عبر توجيه تهمة معاداة السامية نحو اليسار والنشطاء الحقوقيين والطلاب الذين ينتقدون السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. لقد أصبح اتهام الجامعات الأميركية بأنها «بؤر لمعاداة السامية» تكتيكاً أساسياً في حرب ثقافية أوسع يشنها اليمين ضد المؤسسات الأكاديمية والتقدمية.

ويرى المؤلف بوصفه يهودياً تأثر بأحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) والحرب على غزة، أن المبالغة في استخدام المصطلح وتوسيع دلالته، يؤديان في النهاية إلى إفراغه من معناه وتقويض النضال الحقيقي ضد الكراهية. لكنه لا يكتفي بالتشخيص، بل يحاول تقديم مخرج من هذا المأزق المفاهيمي عبر العمل ضمن مسارين متوازيين؛ أولهما التعامل مع معاداة السامية كشكل من أشكال العنصرية والتحيز العرقي - الديني الذي يجب محاربته ضمن استراتيجية أوسع لمناهضة العنصرية بأشكالها كافة، وثانيهما التعامل مع الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني صراعاً سياسياً ونزاعاً على الأرض والسيادة وحقوق الإنسان، وهو مجال قابل للنقاش والنقد السياسي الحاد دون أن يوصم ذلك بالضرورة بمعاداة السامية. ويؤكد أنه من الممكن التعبير عن الغضب إزاء مقتل المدنيين في غزة، والمطالبة بالعدالة للفلسطينيين دون الانزلاق إلى نظريات المؤامرة القديمة حول «النفوذ اليهودي العالمي». إذ ينتهي الخلط بين الأمرين إلى خدمة أغراض المتطرفين من الجانبين: أولئك الذين يريدون تحصين إسرائيل من أي نقد، وأولئك الذين يريدون تبرير كراهيتهم لليهود بغطاء سياسي.

يتميز أسلوب مازور بالدقة التاريخية والابتعاد عن الانفعال في محاولته النبيلة لتفكيك طبقات تراكمات تاريخية سياسية غلفت استعمال هذا المصطلح الخطير، ولعل أهم ما يقدمه هو تحذيره الرؤيوي من أن «معاداة - معاداة السامية» بصيغتها الحالية، قد تتحول إلى آيديولوجيا قمعية تغلق باب النقاش، وتضر في نهاية المطاف باليهود أنفسهم عبر عزلهم عن حلفائهم الطبيعيين في حركات العدالة الاجتماعية، وربط مصيرهم بشكل حصري بسياسات دولة واحدة.

«عن معاداة السامية» كتاب عالي القيمة يدعونا إلى ألا ننصاع للتوظيف الآيديولوجي للمصطلحات، بل علينا مساءلتها وفهم سياقاتها، لضمان ألا تصبح اللغة أداة للقمع بدلاً من كونها وسيلة للفهم، لكنه يتطلب بالضرورة جمهوراً مستعداً للتخلي عن الاستكانة التي توفرها الشعارات الجاهزة، وتقبل تعقيدات التاريخ والسياسة.

عن معاداة السامية: تأريخ للمصطلح

On Antisemitism: A Word in History by Mark Mazower, Allen Lane,2025

المؤلف: مارك مازور

الناشر: ألن لين