«ثغيب»... مرثاة حزينة عن الوجع العراقي

شوقي كريم يصور عالماً قاتماً يضج بالخراب والألم والفساد

«ثغيب»... مرثاة حزينة عن الوجع العراقي
TT

«ثغيب»... مرثاة حزينة عن الوجع العراقي

«ثغيب»... مرثاة حزينة عن الوجع العراقي

رواية «ثغيب» للروائي شوقي كريم الصادرة عام 2021 تمثل للناقد إشكالية نقدية بامتياز. فهي تثير مجموعة من الأسئلة والاعتراضات، ذلك أنها خرجت عن إطار البنية السردية إلى إطار البنية المسرحية الدرامية. بل يمكن القول إن الرواية اتخذت منذ البداية، طابعاً مسرحياً، من خلال هيمنة الحوار على المتن الروائي، كما أن الروائي قد عمد، بطريقة غير مألوفة في الكتابة السردية، إلى توظيف لغة شعرية حداثية شبيهة بالشعر الحديث، مما يجعل بعض المشاهد جزءاً من المسرح الشعري، كما عمد المؤلف إلى إدراج بيانات شبيهة بما يدرجه الكاتب المسرحي في التعريف بشخصياته الروائية. إذْ يقول المؤلف في استهلال روايته:
«شخوص لعبة التجسيد، كما أوردتها الحقائق التي كشفت عنها السجلات والمدونات الأولية، الموجودة بأرقامها وتواريخها عند المكتبة الخاصة التابعة لمحكمة التدوين العليا». (ص7)
ثم يدرج المؤلف أسماء «شخوص لعبة التجسيد»، كما يقول مبتدئاً باسم (جبر الواضح - جبر بن جاسبية بن خزامة)، ومختتماً باسم «شوقي بن فطيم وحيلي» الذي وصفه المؤلف بأنه «الأهم من كل هؤلاء، المدون المجنون: شوقي بن فطيم وحيلي». (ص 8)
ومن الواضح أن الروائي قد وظف اسمه الشخصي الحقيقي (شوقي)، بوصفه مدون السرد، رغم أننا نفتقد إلى شخصية مجسدة وممسرحة تحمل مثل هذا الاسم في المتن الروائي، إلا عبر لقطات عابرة. ومما له دلالة في هذا المجال أن الروائي قد استعار اسم الأم (فطيم وحيلي) من روايته السابقة «نهر الرمان» (ص 18 - رواية نهر الرمان)، وهو تأكيد آخر على انتماء هذه المدونة السردية لهذا «المدون» المتماهي مع شخصية المؤلف نفسه بوصفه الراوي الحقيقي للأحداث.
إن انسحاب السرد أمام طغيان الحوارات السردية اللاحقة يدفعنا إلى اعتبار هذه الرواية «مسرواية»، أي مسرحية روائية أو رواية ممسرحة، كما استرعى انتباهنا ظهور «الكورس» المتكرر في أحداث الرواية، فضلاً عن وجود إشارات كثيرة ترجح الطابع المسرحي للرواية.
ويثير العنوان «ثغيب» بوصفه عتبة نصية دالة، حسب جيرار جنيت، إشكالية غرائبية أخرى، وهو مصطلح غير شائع يوحي بالصراخ، أو النواح الذي تطلقه المرأة، خاصة عندما يموت زوجها، أو أحد أفراد أسرتها، كما هو الحال عندما كانت شكرية، زوجة جبر الواضح «تثغب» بعد موت زوجها جبر الواضح، كما لاحظنا أن جبر الواضح، كان «يثغب» أحياناً للتعبير عن ألمه ومعاناته ورفضه، وخاصة أثناء جلسات محاكمته التي هيمنت على السرد الروائي.
والرواية بكاملها عبارة عن «دستوبيا روائية» Dystopia ذلك أنها تصور عالماً قاتماً يضج بالخراب والألم والفساد، وتغيب فيه العدالة الاجتماعية. لكن هذه «الدستوبيا» مكتوبة بروح لا تخلو من السخرية المرة، حتى يمكن أن نعدها بمثابة «كوميديا سوداء» Humour Black ساعدت على تلطيف الصورة القاتمة للحياة، لكي يستطيع القارئ تقبلها وهضمها، ولكي يظل هذا القارئ يقظاً وهو يراقب مجرى الأحداث بعيداً عن الانغماس في حالة التماهي الدرامي مع الشخصيات الروائية.
والرواية لا تدور في فراغ تاريخي، فهي رواية سياسية تحاور وتعري الحالة الاجتماعية العراقية تحت ظل ديكتاتورية صدام حسين. ولذا فهي بمعنى آخر عبارة عن «اليغوريا» Allegory رمزية عن المحنة العراقية في ظل أنظمة الاستبداد والعنف والقهر.
إذ نجد الكثير من الوقائع والدلالات التي تعري نظام صدام حسين الديكتاتوري، وتجعل بطل الرواية (جبر الواضح) ضحية من ضحاياه. إذ يشير أحد أعضاء المحكمة الافتراضية إلى مسؤولية النظام الديكتاتوري الصدامي عما حاق بجبر الواضح:
«أراك يا سيدي أهملت تصفح تلك الأيام التي أكل فيها المتهم طحين نواة النخيل، وباع كل أحلامه لقاء ما يسد وجع معدته التي كانت تعوي». (ص 42)
ونجد جبر الواضح يحادث نفسه، في مونولوج داخلي، وهو يسترجع صورة النظام الديكتاتوري الذي اصطنع تلك الحروب:
«أتَراك أدمنت الحروب والانهزامات... كلما خرجت بميتة تريحك، وجدتك تعود لتكرر هذا الموت الذي يملأ أذنيك بصرير الأناشيد وخرافة وطن لا يموت؟» (ص 55)
كما نجد سخرية لاذعة من شعارات الحروب الصدامية التي كانت يشيعها رجال الإعلام والحزب والمخابرات عن شرعية تلك الحروب، وعظمة القائد الضرورة:
«هله بيك هله... وبجيتك هله» (ص 59)
و«إحنا مشينا للحرب... عاشق يدافع عن محبوبته» (ص 59)
كما نجد الكورس يكرر أحد تلك الشعارات «العزيز أنت» (ص 62)
ويتذكر البطل بسخرية يوم زج به بالحرب وقالوا له:
«عليك أيها الرفيق أن تفخر أنك تعيش عهد انتصارات القائد... أنت مواطن يستحق الشهادة... لأنك ستكون الأكرم منا جميعاً». (ص 110)
لكن (جبر الواضح) يرفض ذلك بشجاعة:
«وجبر يقول بعناد بغل: ولم لا يموت القائد من أجلي». (ص 110)
كما نجد ملامح ديستوبية تذكرنا برواية جورج أوريل 1984 من خلال المطالبة بشطب كل كلمة تشير إلى الرفض من كراريس المدارس:
«الطاعة هي الخطوة الأجدر بالوصول إلى الجنان الموعودة». (ص 87)
والرواية تستهل بمشهد مسرحي بامتياز بالإعلان عن موت (جبر الواضح):
«أعلن رسمياً، ومن خلال ثغيب شكرية، التي شقت زيق نفنوفها المليء برائحة الباذنجان وزفرة السمك البائت، مات جبر الواضح... مات الذي ما بخل عليَّ، وما أخفى عني شيئاً». (ص 9)
ونشاهد مشهداً مسرحياً تراجيدياً، يذكرنا بشخصية «أنتيغونا» في مسرحية سوفوكليس الإغريقية وفي مسرحية جان آنوي الحديثة. إذ تعلن (شكرية) أنها لا تعرف كيف تدفن جثة زوجها جبر الواضح لأن ذلك يحتاج إلى رجال وإلى مال، ولذا وقفت أمام جثة زوجها عاجزة وهي تصرخ و«تثغب» بوجع تراجيدي وهي تستنجد بالناس، حيث تذكرنا بمسرحية سوفوكليس «أنتيغونا» عندما تقف أنتيغونا حائرة أمام جثمان أخيها، لأن الملك المستبد (كريون) كان يرفض إقامة مراسم دفنه، لاتهامه بالخيانة، مما جعل إصرار أنتيغونا على دفن أخيها بمثابة مقاومة ضد الاستبداد.
ومن هذا المشهد التراجيدي تتحرك الأحداث الروائية، لكننا نجد أنفسنا في عالم آخر يقف فيه «جبر الواضح» بعد موته أمام محكمة افتراضية قاسية تحاكمه عن أفعال وجرائم لم يرتكبها في حياته. وكان القضاة يستندون في اتهاماتهم إلى مجموعة كبيرة من السجلات الكبيرة التي دونت فيها تلك الجرائم المزعومة، وهو ما يجعل الرواية تأخذ طابعاً «ميتا سردياً» أو «ما وراء الرواية» Metafiction حيث تمثل هذه السجلات مخطوطات سردية داخل المتن السردي للرواية.
وقد لاحظت أن الرواية تختتم ثانية بهذا المطلع التراجيدي لثغيب شكرية على موت زوجها (جبر الواضح) عبر هذا السرد الكلي العلم:
«أعلن رسمياً ومن خلال ثغيب شكرية التي شقت نفنوفها الملئ برائحة الباذنجان وزفرة السمك البائت... مات جبر الواضح». (ص 199 - 200)
وهذه النهاية تجعل الرواية ذات طبيعة دائرية، حيث تتماهى النهاية مع البداية، وكأنها توحي بأن الحدث قد وقع تواً، أو أن جلسات المحاكمة مجرد خيالات افتراضية، وأن الحدث ما زال طرياً في بدايته، حيث تقف (شكرية) حائرة أمام جثة زوجها (جبر الواضح). وهذه الطبيعة الدائرية للسرد تمنح القارئ الجاد فرصة للتأويل والتفكير والتأمل فيما يمكن أن تسير إليه الأحداث اللاحقة، مما يجعل هذا القارئ فاعلاً في كتابة الرواية وفي إضفاء معنى عليها.
وتتخذ الرواية من جانب آخر، مظهراً فانتازياً في الكثير من الأحداث، ومنها على سبيل المثال عدد الحروب التي شارك فيها (جبر الواضح) والتي بلغت أكثر من أربعة آلاف مرة:
«صفن جبر الواضح، وراح يعدّ على أطراف أصابعه، وبسرعة فائقة عدد الحروب التي يتذكرها والتي تجاوزت الأربعة آلاف وثمانمائة وتسعين حرباً، قتل فيها ألف مرة، وجرح ألفي مرة، ودفن حياً ألفاً وخمسين مرة» (ص 71)
كما تنطوي الرواية، من جانب ثانٍ، على توظيف لغة شعرية رقيقة، قريبة من لغة قصيدة النثر، وخاصة في كلمات (الكورس) وبعض أعضاء هيئة المحكمة، فضلاً عن كلمات (جبر الواضح). وبعض الحوارات تتحول إلى لغة المسرح الشعري:
«الكورس: كأنه من طينة الحمق خلق
كأنه مسخ
كأنه إجابة خرقاء.
الواقف عند اليسار: مجهولة أعمار هذا المسخ
الواقف عند اليمين: كم نسجت أحلامه من عمره رثاء»
رواية «ثغيب» للروائي شوقي كريم هي بحق مرثاة حزينة ترميزية عن الوجع العراقي مكتوبة بلغة سردية شفافة لا تخلو من طابع شعري، يتحول فيها الفرد إلى ضحية ممسوخة تحت ظل مؤسسة الاستبداد.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»