«ثغيب»... مرثاة حزينة عن الوجع العراقي

شوقي كريم يصور عالماً قاتماً يضج بالخراب والألم والفساد

«ثغيب»... مرثاة حزينة عن الوجع العراقي
TT

«ثغيب»... مرثاة حزينة عن الوجع العراقي

«ثغيب»... مرثاة حزينة عن الوجع العراقي

رواية «ثغيب» للروائي شوقي كريم الصادرة عام 2021 تمثل للناقد إشكالية نقدية بامتياز. فهي تثير مجموعة من الأسئلة والاعتراضات، ذلك أنها خرجت عن إطار البنية السردية إلى إطار البنية المسرحية الدرامية. بل يمكن القول إن الرواية اتخذت منذ البداية، طابعاً مسرحياً، من خلال هيمنة الحوار على المتن الروائي، كما أن الروائي قد عمد، بطريقة غير مألوفة في الكتابة السردية، إلى توظيف لغة شعرية حداثية شبيهة بالشعر الحديث، مما يجعل بعض المشاهد جزءاً من المسرح الشعري، كما عمد المؤلف إلى إدراج بيانات شبيهة بما يدرجه الكاتب المسرحي في التعريف بشخصياته الروائية. إذْ يقول المؤلف في استهلال روايته:
«شخوص لعبة التجسيد، كما أوردتها الحقائق التي كشفت عنها السجلات والمدونات الأولية، الموجودة بأرقامها وتواريخها عند المكتبة الخاصة التابعة لمحكمة التدوين العليا». (ص7)
ثم يدرج المؤلف أسماء «شخوص لعبة التجسيد»، كما يقول مبتدئاً باسم (جبر الواضح - جبر بن جاسبية بن خزامة)، ومختتماً باسم «شوقي بن فطيم وحيلي» الذي وصفه المؤلف بأنه «الأهم من كل هؤلاء، المدون المجنون: شوقي بن فطيم وحيلي». (ص 8)
ومن الواضح أن الروائي قد وظف اسمه الشخصي الحقيقي (شوقي)، بوصفه مدون السرد، رغم أننا نفتقد إلى شخصية مجسدة وممسرحة تحمل مثل هذا الاسم في المتن الروائي، إلا عبر لقطات عابرة. ومما له دلالة في هذا المجال أن الروائي قد استعار اسم الأم (فطيم وحيلي) من روايته السابقة «نهر الرمان» (ص 18 - رواية نهر الرمان)، وهو تأكيد آخر على انتماء هذه المدونة السردية لهذا «المدون» المتماهي مع شخصية المؤلف نفسه بوصفه الراوي الحقيقي للأحداث.
إن انسحاب السرد أمام طغيان الحوارات السردية اللاحقة يدفعنا إلى اعتبار هذه الرواية «مسرواية»، أي مسرحية روائية أو رواية ممسرحة، كما استرعى انتباهنا ظهور «الكورس» المتكرر في أحداث الرواية، فضلاً عن وجود إشارات كثيرة ترجح الطابع المسرحي للرواية.
ويثير العنوان «ثغيب» بوصفه عتبة نصية دالة، حسب جيرار جنيت، إشكالية غرائبية أخرى، وهو مصطلح غير شائع يوحي بالصراخ، أو النواح الذي تطلقه المرأة، خاصة عندما يموت زوجها، أو أحد أفراد أسرتها، كما هو الحال عندما كانت شكرية، زوجة جبر الواضح «تثغب» بعد موت زوجها جبر الواضح، كما لاحظنا أن جبر الواضح، كان «يثغب» أحياناً للتعبير عن ألمه ومعاناته ورفضه، وخاصة أثناء جلسات محاكمته التي هيمنت على السرد الروائي.
والرواية بكاملها عبارة عن «دستوبيا روائية» Dystopia ذلك أنها تصور عالماً قاتماً يضج بالخراب والألم والفساد، وتغيب فيه العدالة الاجتماعية. لكن هذه «الدستوبيا» مكتوبة بروح لا تخلو من السخرية المرة، حتى يمكن أن نعدها بمثابة «كوميديا سوداء» Humour Black ساعدت على تلطيف الصورة القاتمة للحياة، لكي يستطيع القارئ تقبلها وهضمها، ولكي يظل هذا القارئ يقظاً وهو يراقب مجرى الأحداث بعيداً عن الانغماس في حالة التماهي الدرامي مع الشخصيات الروائية.
والرواية لا تدور في فراغ تاريخي، فهي رواية سياسية تحاور وتعري الحالة الاجتماعية العراقية تحت ظل ديكتاتورية صدام حسين. ولذا فهي بمعنى آخر عبارة عن «اليغوريا» Allegory رمزية عن المحنة العراقية في ظل أنظمة الاستبداد والعنف والقهر.
إذ نجد الكثير من الوقائع والدلالات التي تعري نظام صدام حسين الديكتاتوري، وتجعل بطل الرواية (جبر الواضح) ضحية من ضحاياه. إذ يشير أحد أعضاء المحكمة الافتراضية إلى مسؤولية النظام الديكتاتوري الصدامي عما حاق بجبر الواضح:
«أراك يا سيدي أهملت تصفح تلك الأيام التي أكل فيها المتهم طحين نواة النخيل، وباع كل أحلامه لقاء ما يسد وجع معدته التي كانت تعوي». (ص 42)
ونجد جبر الواضح يحادث نفسه، في مونولوج داخلي، وهو يسترجع صورة النظام الديكتاتوري الذي اصطنع تلك الحروب:
«أتَراك أدمنت الحروب والانهزامات... كلما خرجت بميتة تريحك، وجدتك تعود لتكرر هذا الموت الذي يملأ أذنيك بصرير الأناشيد وخرافة وطن لا يموت؟» (ص 55)
كما نجد سخرية لاذعة من شعارات الحروب الصدامية التي كانت يشيعها رجال الإعلام والحزب والمخابرات عن شرعية تلك الحروب، وعظمة القائد الضرورة:
«هله بيك هله... وبجيتك هله» (ص 59)
و«إحنا مشينا للحرب... عاشق يدافع عن محبوبته» (ص 59)
كما نجد الكورس يكرر أحد تلك الشعارات «العزيز أنت» (ص 62)
ويتذكر البطل بسخرية يوم زج به بالحرب وقالوا له:
«عليك أيها الرفيق أن تفخر أنك تعيش عهد انتصارات القائد... أنت مواطن يستحق الشهادة... لأنك ستكون الأكرم منا جميعاً». (ص 110)
لكن (جبر الواضح) يرفض ذلك بشجاعة:
«وجبر يقول بعناد بغل: ولم لا يموت القائد من أجلي». (ص 110)
كما نجد ملامح ديستوبية تذكرنا برواية جورج أوريل 1984 من خلال المطالبة بشطب كل كلمة تشير إلى الرفض من كراريس المدارس:
«الطاعة هي الخطوة الأجدر بالوصول إلى الجنان الموعودة». (ص 87)
والرواية تستهل بمشهد مسرحي بامتياز بالإعلان عن موت (جبر الواضح):
«أعلن رسمياً، ومن خلال ثغيب شكرية، التي شقت زيق نفنوفها المليء برائحة الباذنجان وزفرة السمك البائت، مات جبر الواضح... مات الذي ما بخل عليَّ، وما أخفى عني شيئاً». (ص 9)
ونشاهد مشهداً مسرحياً تراجيدياً، يذكرنا بشخصية «أنتيغونا» في مسرحية سوفوكليس الإغريقية وفي مسرحية جان آنوي الحديثة. إذ تعلن (شكرية) أنها لا تعرف كيف تدفن جثة زوجها جبر الواضح لأن ذلك يحتاج إلى رجال وإلى مال، ولذا وقفت أمام جثة زوجها عاجزة وهي تصرخ و«تثغب» بوجع تراجيدي وهي تستنجد بالناس، حيث تذكرنا بمسرحية سوفوكليس «أنتيغونا» عندما تقف أنتيغونا حائرة أمام جثمان أخيها، لأن الملك المستبد (كريون) كان يرفض إقامة مراسم دفنه، لاتهامه بالخيانة، مما جعل إصرار أنتيغونا على دفن أخيها بمثابة مقاومة ضد الاستبداد.
ومن هذا المشهد التراجيدي تتحرك الأحداث الروائية، لكننا نجد أنفسنا في عالم آخر يقف فيه «جبر الواضح» بعد موته أمام محكمة افتراضية قاسية تحاكمه عن أفعال وجرائم لم يرتكبها في حياته. وكان القضاة يستندون في اتهاماتهم إلى مجموعة كبيرة من السجلات الكبيرة التي دونت فيها تلك الجرائم المزعومة، وهو ما يجعل الرواية تأخذ طابعاً «ميتا سردياً» أو «ما وراء الرواية» Metafiction حيث تمثل هذه السجلات مخطوطات سردية داخل المتن السردي للرواية.
وقد لاحظت أن الرواية تختتم ثانية بهذا المطلع التراجيدي لثغيب شكرية على موت زوجها (جبر الواضح) عبر هذا السرد الكلي العلم:
«أعلن رسمياً ومن خلال ثغيب شكرية التي شقت نفنوفها الملئ برائحة الباذنجان وزفرة السمك البائت... مات جبر الواضح». (ص 199 - 200)
وهذه النهاية تجعل الرواية ذات طبيعة دائرية، حيث تتماهى النهاية مع البداية، وكأنها توحي بأن الحدث قد وقع تواً، أو أن جلسات المحاكمة مجرد خيالات افتراضية، وأن الحدث ما زال طرياً في بدايته، حيث تقف (شكرية) حائرة أمام جثة زوجها (جبر الواضح). وهذه الطبيعة الدائرية للسرد تمنح القارئ الجاد فرصة للتأويل والتفكير والتأمل فيما يمكن أن تسير إليه الأحداث اللاحقة، مما يجعل هذا القارئ فاعلاً في كتابة الرواية وفي إضفاء معنى عليها.
وتتخذ الرواية من جانب آخر، مظهراً فانتازياً في الكثير من الأحداث، ومنها على سبيل المثال عدد الحروب التي شارك فيها (جبر الواضح) والتي بلغت أكثر من أربعة آلاف مرة:
«صفن جبر الواضح، وراح يعدّ على أطراف أصابعه، وبسرعة فائقة عدد الحروب التي يتذكرها والتي تجاوزت الأربعة آلاف وثمانمائة وتسعين حرباً، قتل فيها ألف مرة، وجرح ألفي مرة، ودفن حياً ألفاً وخمسين مرة» (ص 71)
كما تنطوي الرواية، من جانب ثانٍ، على توظيف لغة شعرية رقيقة، قريبة من لغة قصيدة النثر، وخاصة في كلمات (الكورس) وبعض أعضاء هيئة المحكمة، فضلاً عن كلمات (جبر الواضح). وبعض الحوارات تتحول إلى لغة المسرح الشعري:
«الكورس: كأنه من طينة الحمق خلق
كأنه مسخ
كأنه إجابة خرقاء.
الواقف عند اليسار: مجهولة أعمار هذا المسخ
الواقف عند اليمين: كم نسجت أحلامه من عمره رثاء»
رواية «ثغيب» للروائي شوقي كريم هي بحق مرثاة حزينة ترميزية عن الوجع العراقي مكتوبة بلغة سردية شفافة لا تخلو من طابع شعري، يتحول فيها الفرد إلى ضحية ممسوخة تحت ظل مؤسسة الاستبداد.


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».