شعرية غاستون باشلار وقضايا الترجمة

صدر أخيراً عن دار «الآن ناشرون وموزعون» بالعاصمة الأردنية عمّان كتاب جديد للباحث والمترجم المغربي سعيد بوخليط حمل عنوان: «شعرية غاستون باشلار وقضايا الترجمة». وقد اعتمد المؤلف أساساً على سلسلة من حواراته التي أجراها خلال مراحل متفرقة وتناولت في سجالها مع الأفكار الأخرى منجز الفيلسوف الفرنسي البارز غاستون باشلار على المستويين الفلسفي والنقدي.
الكتاب يطرح إشكالية رئيسية تبحث في سؤال الشعرية الغائب لدى معظم الأعمال التي تناولت باشلار في البحث كما في الترجمة.
والكاتب واحد من الكتاب القلائل في العالم العربي الذين التزموا بالبحث التفصيلي في أعمال الفيلسوف باشلار على امتداد سنوات طويلة؛ بدأت عام 2002 بكتاب صادر عن منشورات مجلة «آفاق» المغربية عنوانه: «غاستون باشلار: عقلانية حالمة». وفي مؤلفه الأخير هذا؛ يسلط الضوء على جانب آخر مختلف يتصل بشعرية باشلار وإنتاجه الأدبي. ففضلاً عن أنه فيلسوف فذ ينفتح في رؤاه الفكرية على عنصر التجريب العلمي متجاوزاً بذلك أبعاد فلسفة المنطق الديكارتي العقلانية، فإن لباشلار أيضاً خيالاً يفيض بشغف القصيدة، وعقلاً يفكر في سؤال النقد الأدبي، عبر قواعد جمالية حديثة ومركبة. ولعل تواري باشلار الناقد في الأدب والشعر كان نتيجة مباشرة لتكريس اسمه في الدراسات الأكاديمية فيزيائياً وعالماً جمع بين التجريب والفلسفة؛ الأمر الذي يبدو واضحاً في معظم الترجمات التي اشتغلت على نصوص باشلار، مركزة على معطى الفلسفة العلمية، ومهملةً، إلى حد كبير، ثراء العمق الأدبي والشعري في كتابات الفيلسوف الفرنسي. ويفسر بوخليط هذا التوجه منطلقاً من حديث جامع ومتسلسل يدور حول نظرية الترجمة وواقعها ومؤسساتها وظروفها. الكتاب لم يقتصر في تناوله أبعاد هذه الإشكالية على الشعر فقط؛ بل اشتغل أيضاً على عدد من المقاربات الفكرية التي لها صلة بسياق ترجمة نصوص باشلار إلى العربية؛ كعلاقة العلم بالفلسفة، وسؤال الهوية الثقافية، وما يتصل بالمجتمعات العربية، ومرتكزات الحداثة فيها.
يتناول الكتاب من زوايا عدة الجانب المتجاوز في تجربة باشلار المعرفية؛ إنه عنصر الجمال الشعري الذي يميز لغة باشلار، ويعبر عن لحظة عبوره من أراضٍ معرفية مكتظة بالفيزياء والعلوم التجريبية، في محاولات متكررة لمواكبة الثورة العلمية، إلى ضفاف أرحب وأكثر غزارة؛ إلى الشعر، وهو عبور فيه كثير من التأمل واليقظة الفكرية التي ينشط فيها خيال الفيلسوف الشعري متجهاً بالفلسفة إلى عوالم من الدهشة الفنية، وهو ما يتضح بشكل جلي في كتابه الشهير «النار في التحليل النفسي». جوهر ما يقدمه بوخليط في كتابه حول هذا السؤال هو البحث في تفاصيل باشلار الشعرية عبر أداة الترجمة، وهو بحث يطول متنقلاً من الإيحاءات الشعرية المباشرة في الموضوعات الكبرى لفلسفة باشلار، إلى النظر عميقاً في التفاصيل الداخلية للنص، وما تحمله من دلالات شعرية ناضجة ومكتملة البناء. ويمكن القول إن الكاتب يذهب بقرائه إلى جانب تحليلي يستقرئ عناصر الشعرية في متن باشلار النصي، ولا يقف عند باب السيرة الذاتية التي قد تسرد بتفصيل مبالغ فيه لكنها لا تحلّل. هكذا يقدم الكاتب نظرة جامعة عن جل ما يربط الفيلسوف الفرنسي بمنجز الفكر والآداب في الثقافة العربية المعاصرة، ونجد ذلك في محاور مختلفة داخل الكتاب؛ من قبيل: «باشلار والثقافة العربية»، و«باشلار ومفهوم القطيعة في منهج محمد عابد الجابري».
يتجلى باشلار في هذا الكتاب مفكراً يجمع بين عقلانية العلم وأداة التجريب وبين عمق الخيال الشعري، ويقدمه بوخليط على أنه يمثل «سقراط الفكر المعاصر» الذي جدد المنظومة الأبستمولوجية للعلوم، وأعاد النظر في منهجيتها الفلسفية. وهو أيضاً من أثّر؛ بانحيازه الواعي لعنصر الخيال، في كثير من الاتجاهات النقدية الحديثة، وهو الذي أثرى الساحة النقدية خلال القرن العشرين بمدرسته الخاصة التي وُسمت عند الباحثين باسم «الظاهراتية الباشلارية»؛ مدرسة قرّبت الكاتب من القارئ ودافعت عن حميمية العلاقة بين القارئ والنص، وقد تأتّى لها هذا من مدخل حاسم؛ هو البنية الداخلية التي تحفر دلالات الرؤية والخيال، وتحرر الاتجاه النقدي السائد من عموميات الدراسة الخارجية للنص الأدبي.